الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
كان للبريد في الحضارة الإسلامية أنواع عدة، تعبر جميعها عما بلغته الحضارة الإسلامية من تطور وما عايشته من نظام
كان للبريد في الحضارة الإسلامية أنواع عِدَّة، تُعَبِّر جميعها عمَّا بلغته الحضارة الإسلامية من تطوُّرٍ وما عايشته من نظام، ويمكن أن نرى ذلك في التقسيمات التالية:
1- البريد البري:
كانت وسيلة البريد البَرِّيِّ رجالاً يُطْلَقُ عليهم اسم الفُيوُج[1] أو السعاة، وهم رجال تَعَوَّدُوا الجري والصبر في السير، واستخدم المسلمون الدوابَّ في حمل الرسائل على نطاق واسع، وخاصَّة البغال، وكانت محطات البريد المنتشرة على الطرق البرية بين مدن الأمصار الإسلامية، تقوم برعاية دوابِّ البريد، وتأمين راحتها وأعلافها، واستبدالها عند الحاجة بدوابَّ أخرى؛ ليُتَابِع حامل الرسائل سفره مسرعًا نحو الجهة التي هو قاصدها، وقد كانت هذه المحطة مزوَّدة بدوابَّ من بغال وخيل وإبل، ومَنْ يتعهَّدها بالعناية والخدمة[2]، وقد اسْتُخْدِمَتْ لهذا الغرض أفضل أنواع الخيول المعروفة باسم الخيل الشهارة، والإبل النجب، والتي كانت أسرع من الخيل وأصبر على السير[3].
ولما كانت تلك المحطات على سكك تمتدُّ مسافات طويلة، ولما كان من الصعب على البغل اختراق الصحارى ذات الرمال بعيدة الغور، والتي تقلُّ فيها المياه، فقد رُوعِيَ أن تكون طريق البريد ممتدة في الأرضين التي يكثر وجود الماء فيها، وتتوفَّر فيها الآبار، وفي مواضع مأمونة قليلة الرمال[4].
2- البريد البحري:
حيث كانت تُسْتَخْدَمُ المراكب البحرية، قال الحسن بن عبد الله: وإذا كانت البلاد بحرية فيكون لصاحب الخبر مراكب خفيفة سريعة[5]، وكان الحجاج بن يوسف الثقفي هو أَوَّل مَنْ أجرى في البحر السفن المقيَّرة[6] المسمَّرة[7] غير المخرَّزة[8] والمدهونة[9].
3- البريد الجوي:
وكانت وسيلته الحمام الزاجل، الذي كان يُتَّخَذُ لحمل المُكَاتبات على شكل بطائق تُعَلَّق به، ويُعْرَف باسم "الهدي"[10].
فلم يَكْتَفِ المسلمون بما وصل إليه نظام البريد البري أو البحري، ولكنهم خَطَوْا خطوات واسعة في تنظيم نقله وسرعة وصوله، فكان الحمام الزاجل أفضل وسيلة لذلك.
وكان لهذا الحمام مكانة خاصَّة، ويباع بأسعار مرتفعة؛ ولهذا تنافس الناس لا سيما في مدينة البصرة في اقتنائه، وصار الحمام متجرًا من المتاجر بين الناس، وبلغ ثمن الطائر منه سبعمائة دينار، وشاع استعماله في زمن السلطان نور الدين زنكي وفي زمن العبيديين (الفاطميين)، وبلغت مسافات طيرانه ما بين القاهرة والبصرة، والقاهرة ودمشق، وأُقِيمَتْ له الأبراج في الطرق، وكان الحمام ينتقل من كل برج إلى آخر يليه ليطلب برجه الذي هو مستوطنه إذا أُرْسِلَ، وكان يوضع في أبراج دمشق من حمام مصر، وفي أبراج مصر من حمام دمشق للغرض نفسه، وقد جَرَتِ العادة أن تكتب الرسائل من صورتين ترسلان مع حمامتين، وتطلق إحداهما بعد ساعتين من إطلاق الأخرى؛ حتى إذا ضَلَّتْ إحداهما أو قُتِلَتْ تَصِلُ الأخرى، كما لا يُرْسَلُ الحمام في الجوِّ الممطر، أو قبل تغذيته غذاءً كاملاً[11].
وكان الإيجاز والتركيز من أهمِّ مميزات الرسائل التي ينقلها الحمام الزاجل، ويبدو أن هذا النوع من البريد كان مقصورًا على فترات الحروب؛ حيث كانت الرسائل تُكْتَبُ على ورق خفيف -يُسَمَّى بطائق أو ورق الطير- في صيغة مختصرة، وبخطٍّ دقيق يُعْرَفُ بخطِّ الغبار؛ لأنه مثل ذَرَّات الغبار، وبلُغَةٍ أشبه بالشفرة، تُعَلَّقُ تحت جناح الحمام لحفظها من المطر[12].
إنها صورة رائعة تلك التي نَظَّمَ بها المسلمون خطًّا بريديًّا باستخدام الحمام، والتي لا تقلُّ عن تنظيم خطٍّ بريدي على البَرِّ أو البحر.
4- المراسلة بواسطة المناور:
إضافة إلى أنواع البريد السابقة، كانت هناك المراسلة بالمناور، قال القلقشندي: وهي مواضع رفع النار في الليل والدُّخَان في النهار، وتارة تكون على رءوس الجبال، وتارة تكون في أبنية عالية، ومواضعها معروفة تَعَرَّف بها أَكْثَرُ السَّفَّارة، وهي من أقصى ثغور الإسلام كإلبيرة والرحبة، وإلى حضرة السلطان بقلعة الجبل، حتى إن المتجدِّدَ[13] بالفرات إن كان بُكْرَة عُلِمَ به عِشَاء، وإن كان عِشَاء عُلِمَ به بُكْرَة، ولِمَا يُرْفَعُ من هذه النيران أو يُدَخَّن من هذا الدخان أدلَّةٌ يُعْرَفُ بها اختلافُ حالات رؤية العدُوِّ والمُخْبَرُ به باختلاف حالاتها، تارة في العدد، وتارة في غير ذلك[14].
فكانت هذه المناور تُقام على طول السواحل وتقوم بوظيفة الحراسة، والإنذار من خطر العدو البحري، وذلك بواسطة إشارات ضوئية يَتَّفِقُ عليها المُنَوِّرِينَ عند نقل الخبر، فإذا ما اكتشفوا عَدُوًّا في البحر مقبلاً من بعيد أشعلوا النار على قمم المناور، وذلك إذا كان الوقت ليلاً، وإذا كان الوقت نهارًا أثاروا فيها الدخان، وفي ذلك قيل: إن الرسالة الضوئية كانت تصل من طنجة بالمغرب إلى الإسكندرية في ليلة واحدة، كناية عن استخدام الإشارات الضوئية في المراسلات السريعة بين حاميات المحارس عن طريق منارات المساجد في الرُّبُط الساحلية؛ وخاصة في سواحل إفريقيا التونسية، وكان أشهرها رباط المنستير[15] في مدينة سوسة[16].
وقد ختم القلقشندي فصلاً عن المناور بقوله: "على أن مُرَتِّبَها بهذه المملكة أَوَّلاً أتى بحكمة مُلُوكِيَّة لا تُسَاوَى مِقْدَارًا؛ إذ قد تَرَقَّى في سُرْعة بُلُوغ الأخبار إلى الغاية القُصْوَى؛ وذلك أن البريد يأتي من سرعة الخبر بما لم يأتِ به غيرُه، والحمام يأتي من الخَبَرِ بما هو أسرعُ في البريد، والمناور تأتي من الخبر بما هو أسرع من الحمام، وناهيك أن يَظْهَر عُنْوَانُ الخبر في الْفُرَات بمصر في مسافة يوم وليلة"[17].
وفي ضوء ما تَقَدَّم يَتَّضِحُ أن نظام البريد والاتصالات في الحضارة الإسلامية كان نظامًا دقيقًا متطوِّرًا بما يناسب إمكانات وظروف عصره، وكان يربط الدولة بقائدها، ويُطْلِعه على كل ما يَجِدُّ فيها أَوَّلاً بأول، وهذا ما لم تصل إليه الأمم الأوربية إلا بعد قرون عديدة.
د. راغب السرجاني
[1] الفُيُوج جمع الفَيْجُ: وهو رسول السلطان على رِجْلِه، وقيل: الذي يسعى بالكتب. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة فيج 2/350.
[2] القلقشندي: صبح الأعشى 14/377، وجواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/320.
[3] كمال عناني إسماعيل: دراسات في تاريخ النظم الإسلامية ص 106.
[4] جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/320، 321.
[5] الحسن بن عبد الله: آثار الأول في ترتيب الدول ص 89، نقلاً عن محمد ضيف الله: الحضارة الإسلامية ص 198.
[6] المقيرة: أي المطلية بالقار وهو الزفت وهي مادة تسيل بالسخونة من تقطير المواد القطرانية. انظر: المعجم الوسيط 1/395، 2/769.
[7] المسمرة: أي المترابطة بالمسامير.
[8] خرز: أي خاط من الخياطة.
[9] الجاحظ: البيان والتبيين ص364.
[10] محمد ضيف الله: الحضارة الإسلامية ص198.
[11] انظر: محمد ضيف الله: الحضارة الإسلامية ص198، 199، وأبو زيد شلبي: تاريخ الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي ص146.
[12] انظر: كمال عناني إسماعيل: دراسات في تاريخ النظم الإسلامية ص107، 108.
[13] المتجدد: يقصد الحادث الجديد المستجد.
[14] القلقشندي: صبح الأعشى 14/445.
[15] تقع مدينة المنستير على بُعد ثلاثين كيلو مترًا جنوب مدينة سوسة.
[16] انظر: سعد زغلول وآخرون: دراسات في تاريخ الحضارة الإسلامية ص480، 481، وكمال عناني إسماعيل: دراسات في تاريخ النظم الإسلامية ص108.
[17] القلقشندي: صبح الأعشى 14/447.
التعليقات
إرسال تعليقك