الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
المدرسون والمدارس في غرناطة، مقال يسرد تاريخ التعليم في الأندلس وخاصة فترة بني نصر بمملكة غرناطة وأشهر مدارسهم المدرسة اليوسفية
لعل أبرز مظاهر اهتمام الأسرة النصرية بالآداب والعلوم، اهتمامها الشديد الذي أولته للمعلمين، فقد سار ملوك هذه الأسرة على منوال واحد، استقطابهم لعدد من المعلمين من مدن وقرى غرناطة ومن بلدان إسلامية أخرى، كالشيخ محمد بن إبراهيم الأوسي المعروف بابن الرقام، (توفي عام 715هـ / 1315م). والشيخ علي بن إبراهيم بن عبد الله الكناني القيجاطي الذي مارس التعليم بمسجد غرناطة في مختلف العلوم من فقه وعربية وأدب.
والشيخ محمد بن عبد الله بن عبد الولي الرعيني المتوفى عام 750هـ/ 1349م، الذي استدعي للتدريس بغرناطة، ويذكره لسان الدين بن الخطيب قائلًا: "علم القرآن في اتقان تجويده، والمعرفة بطرق روايته، والاطلاع بفنونه ..، طُلب إلى التصدر للإقراء فأبى لشدة انقباضه، فنبهت بالباب السلطاني على وجوب نصبه للناس، وكان ذلك في شهر شعبان من عام وفاته فانتفع الناس به".
ولم ينحصر دور استقدام المقرئين إلى مملكة غرناطة على يد سلاطينها فقط، بل نجد بعض وزرائهم واصلوا سياستهم هذه، كالوزير ابن الحكيم الذي حرص على استقدام ابن خميس إلى غرناطة عام 703هـ/ 1304م، فأقعده للإقراء بجواره.
وقام الوزير ابن الخطيب كذلك بالبحث عن علماء واستحضارهم للتعليم بالبلاد، كما فعل مع الفقيه محمد العبدري، الذي نقله من مدينة سبتة نحو غرناطة، وأخذ يقرئ بها إلى أن توفي عام 753هـ/ 1352م.
وهناك من العلماء من قدم إلى غرناطة آويًا، فلقي كل عناية وترحيب من أمرائها، كالفقيه أحمد بن الزبير بن محمد المتوفى عام 708هـ/ 1309م، الذي قدم إلى المملكة بعد الخلاف الذي نشب بينه وبين المتغلب في مالقة، فاهتم به الأمير عبد الله بن الأمير الغالب بالله بن نصر، ورحب به وأحسن إكرامه. وكان هذا الفقيه بارعًا في صناعة العربية وتجويد القرآن ورواية الحديث.
كما سبب سقوط العديد من المدن الأندلسية الكبرى في يد الممالك المسيحية، كقرطبة وبلنسية ومرسية وغيرها وفود نخبة مهمة من العلماء إلى غرناطة، كان لهم كبير الأثر في ارتفاع المستوى الثقافي في مملكة غرناطة، إلى درجة تعيد إلى الأذهان الفترة التي كانت عليها قرطبة في عهد الحكم المستنصر بالله.
وقد أجمع عدد من الدراسات على هجرة علماء المشرق إلى بلاد الأندلس، الذين أخذوا يدرسون في مختلف جوامعها ومساجدها، واستمرت هذه الحركة من الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية إلى قرب سقوط غرناطة، فلقوا كل ترحيب واهتمام من خلفائها وأمرائها، الذين سمحوا بدورهم للعديد من الطلاب الأندلسيين بالرحلة إلى المشرق، ومنحوهم وظائف مهمة بالدولة بعد عودتهم، ما مكن أهل الأندلس من الاغتراف من كتب المشارقة وتعرف مختلف مجالاتهم العلمية والأدبية.
لقد كون العلماء من الناحية الاجتماعية طبقة عرفت باسم الفقهاء، احترمها الشعب لعلمها ودينها، واحترمها الحكام لحاجتهم إلى تأييدها، ومكانتها الرفيعة لدى العامة، لذا نجد ملوك بني نصر خصصوا لهؤلاء المدرسين أعمالًا يتقاضون عليها "جرايات"، كالفقيه محمد بن محمد النمري الضرير المتوفى عام 736هـ/ 1335م، الذي كان بارعًا في حفظ القرآن، توفي بغرناطة تحت جراية من أمرائها لاختصاصه بقراءة القرآن على قبورهم، والفقيه محمد بن أحمد بن فتوح بن شقرال المتوفى عام 730هـ/ 1329م، الذي رتب له الوزير أبو عبد الله المحروق جراية بالحمراء، وقلده نظر خزانة الكتب السلطانية، والشيخ أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صفوان القيسي من أهل مالقة المكنى بأبي جعفر، استقدمه ابن الخطيب إلى غرناطة وأسند إليه جراية.
المسجد مركز التعليم الأول في الأندلس
إن أهم مظهر من مظاهر اهتمام ملوك الأندلس بالتعليم والمعلمين اهتمامهم البالغ بأماكن التعليم أيضًا، وفي مقدمة هذه الأماكن "المسجد" الذي يعتبر أول مؤسسة تعليمية في الإسلام، ومركزًا للحياة الثقافية الإسلامية. والمسجد في غرناطة كغيره من المساجد الإسلامية لم يكن بيت عبادة فحسب، بل كان مركزًا للحياة الدينية والاجتماعية والسياسية، ومكانًا لتجمع القضاة. لكن سرعان ما فقدت المساجد هذه الأهمية، واقتصر دورها على إقامة الصلوات الخمس، وذكر اسم الخليفة في الخطبة وذلك بعدما أنشئت المعاهد والجامعات.
ولقد أكدت بعض الدراسات أن التعليم في الأندلس طيلة الفتح الإسلامي كان في المساجد بالأساس، ونستدل بعبارة ابن سعيد الذي قال: "وليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم، بل يقرؤون العلوم في المساجد بأجرة". ويحدثنا ابن الخطيب عن الشيخ محمد بن إبراهيم المفرج الأوسي المعروف بابن الدباغ الإشبيلي قائلًا: "وكان واحد عصره في حفظ مذهب مالك، عارفًا بالنحو واللغة والأدب والكتابة والشعر والتاريخ ..، أقرأ بجامع غرناطة لأكابر علمائها الفقه وأصوله، وأقرأ به الفروع والعقائد العامة مدة، وأقرأ بجامع باب الفخارين، وبمسجد ابن عزرة وغيره ، توفي عام 668هـ".
المدرسة اليوسفية في غرناطة
وكانت أول محاولة لإقامة مدرسة غرناطة، عندما خصص السلطان محمد الفقيه منزل الشيخ محمد بن أحمد الرقوطي المرسي ليتولى تعليم الطلبة العلوم الطبية والفلسفية، فبرع في تعليم هذه العلوم ولم يكن يجاريه في ذلك أحد.
لم تعرف الأندلس المدارس إلا متأخرًا، حين أنشئت فيها أول مدرسة بغرناطة عام 750هـ/ 1349م اقتداء بالمدارس المغربية، وهي المدرسة التي أنشأها أبو الحجاج يوسف على يد حاجبه أبي النعيم رضوان النصري عام 750هـ / 1349م، وعن هذا الحدث التاريخي يقول ابن الخطيب: "أحدث المدرسة بغرناطة، ولم تكن بها بعد، وسبب إليها الفوائد، ووقف عليها الرباع المغلة، وانفردت بغرناطة، فجاءت نسيج وحده بهجة وصدرًا وظرفًا وفخامة، وجلب الماء الكثير إليها من النهر فأبد سقيه عليها"، وتسمى بالمدرسة اليوسفية أو مدرسة غرناطة أو المدرسة النصرية.
ولايزال المتحف الأركيولوجي بإسبانيا يحتفظ ببعض لوحات هذه المدرسة، والتي انتزعت منها بعد إزالة مبناها في أوائل القرن الثامن عشر.
وللمكانة التي أصبحت لهذه المدرسة بمملكة غرناطة، فقد أخذ يفد عليها العديد من العلماء والطلاب من مختلف أنحاء المملكة ومن خارجها؛ فقد أكدت بعض الدراسات وجود بعض الفنادق التي كانت محسبة على بعض مساجد غرناطة، فغدت هذه الفنادق مكانًا مخصصًا لمبيت الطلاب الغرباء والوافدين عليها. كما الحق بالمدرسة مصلى صغير، تقام فيه الصلاة، ولا يزال أثره قائمًا إلى الآن، ومكتبة تابعة لها أمدها ملوك غرناطة بمجموعة من الكتب، من بينها نسخة من كتاب "الإحاطة" لابن الخطيب الذي أوقفه عليها بأمر من سلطانه محمد الثامن (820 – 831هـ/ 1417 ـ 1428 م) عام 829هـ.
_________________
المصدر: مركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات، نقلا عن: أحمد ثاني الدوسري: كتاب: " الحياة الاجتماعية في غرناطة في عصر دولة بني الأحمر" للمؤلف، المجمع الثقافي أبوظبي - الإمارات العربية، 2004م.
التعليقات
إرسال تعليقك