د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
إذا كان الإنسان لا بُدَّ أن يتحدَّى، ولا بُدَّ أن ينتصر، ولا بُدَّ أن يُخرج طاقته العنيفة، فلماذا لا يفعل كلَّ ذلك مع "عدوٍّ مشترك"، بدلًا من فعله مع
يقولون: إنَّ إبداع الإنسان لا يظهر إلَّا في وجود عدوٍّ! وإنَّ الإنسان لذلك "يحتاج" إلى أعداء كما يحتاج إلى أصدقاء[1]!
وأنا أُريد أن أُعيد صياغة هذا المفهوم وفق النظريَّة لنُحَقِّقَ النفع الأمثل للبشريَّة.. حيث أرى أنَّ الإنسان الطبيعي لا يحتاج إلى "عدو"، إنَّما يحتاج إلى "منافس"، فضلًا بالطبع عن احتياجه إلى "شريك".
إنَّ حاجتنا "للشريك" مفهومة؛ فنحن نتعاون معًا في شراكةٍ إيجابيَّةٍ لتحقيق مصلحةٍ مشتركةٍ مفيدةٍ للطرفين، و"الشريك" قد يرتفع إلى درجة "صَدِيقٍ" تبثُّ له أسرارك، وتشكي له همومك، وتحكي له أخبارك، ويقف إلى جوارك في الأزمات، وتُرَوِّح معه عن نفسك، وغير ذلك من منافع تتحقَّق بوجود "الصديق".
أمَّا "المنافس" فشيءٌ آخر!
إنَّنا نحتاج حقيقةً إلى من يتسابق معنا في أحد الميادين حتى نُبْدِعَ في هذا الميدان، ولن يُطَوِّر الإنسان نفسه بالقدر المطلوب إلَّا إذا رأى تطوير غيره من البشر، وعند ذلك تتحرَّك دوافع المنافسة في قلبه فيُبدع أكثر، ويُجَمِّل أكثر في إنتاجه.
نرى ذلك في عالم التجارة، ونراه في عالم الإعلام، ونراه في عالم العلاقات، ونراه في أكثر وجوه حياتنا..
حتى إنَّنا نراه في عالم العبادة!
فوجود أمثلةٍ تنافسيَّةٍ تتسابق معك إلى مرضاة الله تدفعك إلى زيادة التعبُّد، ومحاولة التفوُّق والإبداع؛ ولذلك قال الله عز وجل عندما ذكر أمر الجنَّة التي أعدَّها للمؤمنين به: )وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ( [المطففين: 26]، فالأمر ليس مستهجنًا، بل هو في الواقع مطلوب.
لكن المشكلة الكبرى أن يتحوَّل التنافس إلى صراع وصدام؛ ومن ثَمَّ ينقلب المنافس عدوًّا، وقد يحدث هذا – للأسف- مع النبلاء، فيكون سببًا مؤلمـًا للصدام يُضاف إلى ما ذكرناه من أسباب في الفقرة السابقة.
وما حلُّ هذه المشكلة؟!
إنَّني أطرح هنا حلًّا قد يراه البعض وهميًّا أو "خرافيًّا"، لكن لا أراه طبيعيًّا وحقيقيًّا فقط؛ بل أراه بدهيًّا ومنطقيًّا!
وهذا الحلُّ هو: لماذا لا نبحث جميعًا عن "عدوٍّ مشترك"؟!
إنَّ الإنسان مجبولٌ على التحدِّي وحبِّ الانتصار، والنبلاء يُوَجِّهون هذه الرغبة في ناحية "التنافس" الشريف، لكن كثيرًا ما ينقلب إلى تنافسٍ عدوانيٍّ يُؤَدِّي إلى صدام، وهذا مرجعه إلى أنَّ الإنسان بداخله طاقات عنيفة نسبيًّا تحتاج إلى إخراج، وقد اعترف علماء الأخلاق بهذه الطاقات؛ فأطلقوا عليها "الأخلاق السبعيَّة"[2] نسبةً إلى حيوان السبع -أي الأسد- وفيها قد يصل الأمر إلى رغبة في "افتراس" غيره!
إذا كان الأمر كذلك، وإذا كان الإنسان لا بُدَّ أن يتحدَّى، ولا بُدَّ أن ينتصر، ولا بُدَّ أن يُخرج طاقته العنيفة، فلماذا لا يفعل كلَّ ذلك مع "عدوٍّ مشترك"، بدلًا من فعله مع النبلاء الشركاء في الكون؟!
لكن من هذا "العدو المشترك" الذي نُقاتله جميعًا؛ ومن ثَمَّ لا نجد حاجةً لقتال بعضنا البعض؟!
الأشرار يختارون قومًا معيَّنين، أو حضارةً من الحضارات، أو شعبًا من الشعوب؛ ليفعلوا معه ذلك، ويجعلونه عدوًّا لأُمَّتهم؛ ومن ثَمَّ يُفَرِّغُون فيه طاقتهم السبعيَّة!
لكن هذا عكس ما نُنادي به في النظريَّة من نبذ الصدام وتشجيع التعارف والسلام؛ ولذلك فإنَّني أقترح على النبلاء عدوًّا مشتركًا جديدًا!
وهذا هو "الشيطان"!
وأنا أعلم أنَّ بعض العلمانيِّين واللادينيِّين قد يرون في هذا الطرح سخفًا، وقد يعتبرونه استخفافًا لا يليق بعقولهم؛ ذلك أنَّهم "لا يَرَوْنَ الشيطان"! لكنِّي أودُّ أن أُناقش بهدوء هذه المسألة، وسيكون من ورائها -فيما أراه- خيرٌ كثير.
أكثر من نصف سكَّان الأرض "يعتقدون" اعتقادًا جازمًا بوجود الشيطان وجودًا ماديًّا، وليس معنويًّا، وهؤلاء الذين يعتقدون هذا الأمر هم أتباع الديانات السماويَّة المختلفة، وهو من التفصيلات التي يَتَّفِقُون عليها في المشترك الأسمى "العقيدة"؛ ففي القرآن يقول الله عز وجل على سبيل المثال: )وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ( [إبراهيم: 22]. فهو كيانٌ حقيقيٌّ يتكلَّم ويَعِدُ ويُغوي، وفي العهد الجديد (الإنجيل) نجد: "فَطُرِحَ التنين العظيم، الحيَّة القديمة المدعو إبليس والشيطان، الذي يُضلُّ العالم كلَّه، طُرِحَ إلى الأرض، وطُرِحَت معه ملائكته"[3]. وفي العهد القديم (التوراة) نجد: "قال الرب للشيطان: لينتهرك الرب يا شيطان"[4].
بل إنَّ الشعوب الوثنيَّة التي اتَّبعت أديانًا وضعيَّة، كانت تعتقد هي الأخرى في وجود الشيطان بشكلٍ أو بآخر، ولعلَّ هذا تسرَّب إليهم من أتباع ديانةٍ سماويَّةٍ يُجاورونها؛ فنجد -مثلًا- أنَّ البابليِّين كانوا يعتقدون أنَّ الخطيئة لم تكن مجرَّد حالة معنويَّة من حالات النفس؛ بل كانت كالمرض تنشأ من سيطرة "شيطانٍ" على الجسم في مقدوره أن يُهلكه[5]!
ويعتقد الزرادشتيون أنَّ هناك صراعًا يدوم اثني عشر ألف عامٍ بين الإله آهور – فردا و"الشيطان" أهرمان[6].
فالفكرة ليست مستهجنة في ثقافات الشعوب المختلفة، والشيطان عند كلِّ هؤلاء يستهدف إيذاء الإنسان وإغوائه.
بل إنَّ القرآن الكريم يُنادي البشر جميعًا أن يجعلوا الشيطان عدوًّا لهم، فقال تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ( [فاطر: 5، 6].
ولعلَّنا نُلاحظ في هذا النداء أنَّه لم يخص أتباع الرسالة الإسلاميَّة؛ بل جاء النداء بـ"يا أيُّها الناس" لخطاب كلِّ البشر، وهي دعوةٌ مباشرةٌ بجعل الشيطان "عدوًّا مشتركًا" للإنسانيَّة جميعًا.
وفي آيةٍ أخرى يُؤكِّد على أنَّ الحروب والصدامات بين البشر، وأنَّ النزاعات بين الإنسان وإخوانه على الأرض، إنَّما هي غايةٌ وهدفٌ عند الشيطان، فيقول: )إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ( [المائدة: 91].
فالقضيَّة في العقائد السماويَّة، وفي بعض الديانات الوضعيَّة واضحةٌ وجليَّة.. لكن دعوني أُوسِّع الدائرة حتى أشمل كلَّ الإنسانيَّة في مشتركٍ واحد.. أَلَا يقتنع عامَّة الخلق بكافَّة عقائدهم وثقافاتهم وانتماءاتهم أنَّ "الشرَّ" موجودٌ في الدنيا؟!
أعتقد أنَّ الجميع يعتقدون بوجوده، وأنَّ له أتباعًا ومؤيِّدين، وأنَّ له آثارًا ونتائج.. و"الشرُّ" في معتقد الأديان السماويَّة قد يأتي من "الشيطان" أو من"الإنسان" نفسه، فيقول الله عز وجل مثلًا في القرآن الكريم: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ( [الأنعام: 112].
وأمَّا اللادينيُّون، أو أصحاب الديانات الوضعية الذين لا يُؤمنون بوجود الشيطان فهم يجعلون "الشرَّ" معنًى رمزيًّا يضمُّ كلَّ عملٍ خبيثٍ أو مفسدٍ في الدنيا..
فليكن إذًا "عدوُّنا المشترك" هو "الشرُّ"!!
لن يختلف أحدٌ من النبلاء في العالم -بصرف النَّظر عن عقيدته- أنَّ "الشرَّ" شيءٌ خبيثٌ يجب أن نُحاربه، وأن نُفَرِّغ فيه طاقاتنا الداخليَّة المحبَّة للصدام!
لكن تبقى مشكلةٌ قد يطرحها أحد الناقدين للنظريَّة، وهي أنَّ تعريف "الشرِّ" مختلفٌ من بيئةٍ إلى بيئة، ومن مجتمعٍ إلى مجتمع، ومن ثقافةٍ إلى أخرى، ومن زمنٍ إلى غيره.. فما العمل؟
أقول: إنَّني أوافق على ذلك تمامًا، وأُدرك إدراكًا أكيدًا أنَّ هناك بعض الأمور التي يراها شعبٌ من الشعوب شرًّا محضًا يراها غيره على أنَّها من أفضل أنواع الخير، وعلى سبيل المثال فحجاب المرأة الذي يراه اللادينيُّون والعلمانيُّون ظلمًا وتقييدًا لها، يراه المسلمون فضيلةً عظيمة، وحمايةً ووقايةً وسترًا، وحفظًا للمرأة؛ بل إنَّ النصرانيَّة واليهوديَّة في حقيقتها ترى ذلك، وإلَّا فلماذا ترتدي الراهبات اللاتي وهبن أنفسهنَّ لطاعة الإله هذا الزيَّ إن كان اضطهادًا لهن؟!
فهذا أمرٌ حمل دلالتين مختلفتين عند الشعوب العالميَّة..
أقول: إنَّ هذا فعلًا موجود.
لكن أقول في الوقت نفسه: إنَّ هناك عشرات ومئات الأمور التي يتَّفق "جميع البشر" على أنَّها شرٌّ لا بُدَّ من مقاومته.. ويا ليت المفكِّرين والفلاسفة والمبدعين والعلماء من كلِّ أقطار الدنيا يجتمعون لتحديد "الشرِّ المشترَك" الذي يجب أن يتَّخذه النبلاء من العالم أجمع "عدوًّا مشتركًا".
ألا يتفق علماء العالم على أنَّ المخدرات شرٌّ؟!
ألا يتفقون على أنَّ الأميَّة والجهل شرٌّ؟!
ألا يتفقون على أنَّ خطف الأطفال وبيعهم في الأسواق شرٌّ؟!
ألا يتفقون على أنَّ القتل والسرقة والاغتصاب شرٌّ؟!
ألا يتفقون على أنَّ الكذب والخيانة شرٌّ؟!
ألا يتفقون على أنَّ إهدار الماء، وتبوير الأراضي، وتسميم البيئة شرٌّ؟!
إنَّ هذه مجرَّد أمثلة لشرورٍ كثيرةٍ تحتاج إلى جهودٍ مضنيةٍ لحربها والصدام معها.. ينبغي ألَّا يضع الإنسان -أيًّا كان عرقه، وأيًّا كانت عقيدته- يده في يد أخيه الإنسان ليقاوما هذا العدوَّ المشترك الذي يهدف إلى إيذائهما معًا؟!
إنَّها دعوةٌ نبيلةٌ في ظلال هذه النظريَّة أرى أنَّها ستجمع ملايين البشر في منتدى واحد، وفي اتجاه هدفٍ واحد، سيُقاوم الشرَّ في العالم ويُحَجِّمه، فضلًا عن أنَّه سيصرف طاقات النبلاء إلى أعمال الخير والصلاح بدلًا من الصدام مع إخوانهم في الإنسانيَّة!
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] هذه الفكرة منتشرة في كثيرٍ من الكتابات الفلسفيَّة الغربيَّة، وهي تُشكِّل الأساس الفكري الذي وقفت وتأسَّست عليه نظريَّة "صدام الحضارات" التي وضعها هنتنجتون.
[2] الغزالي: إحياء علوم الدين 1/49، وابن القيم: مدارج السالكين 1/96.
[3] سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي، 12/9، 10.
[4] سفر زكريا 3/2.
[5] وِل ديورانت: قصَّة الحضارة 2/226.
[6] المرجع السابق 2/427.
التعليقات
إرسال تعليقك