الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
يؤكد الباحثون في تاريخ العلوم بما لديهم من وثائق علمية ومصادر تاريخية على سبق المسلمين الأوائل في علم التخدير.. فما إسهامات المسلمين في علم التخدير؟
يؤكد الباحثون في تاريخ العلوم بما لديهم من وثائق علمية ومصادر تاريخية -مع قلتها وندرتها- على سبق المسلمين الأوائل في علم التخدير، فلم ينس المسلمون أن أول خلق الله تعالى كان آدم عليه السلام، وعندما أراد الله أن يخلق منه حواء أخلده سبحانه إلى النوم، فاستيقظ فإذا بجانبه حواء، خُلقت من ضلعه الأيسر.. فكان أول تفكير المسلمين في النوم كأداة للتخدير، ولكن كيف يستسلم المريض للنوم؟
ومن هنا بدأ المسلمون يتفننون في استحداث أساليب مختلفة؛ كي ينام المريض لعمل جراحة معينة، فتعلموا أولاً من الصينيين استعمال الإبر الذهبية أو الفضية على العقد العصبيَّة، ثم استعملوا نبات حبق الراعي بعد حرقه للتخدير، وجربوا حبس الدم عن المناطق المختلفة من الجسم باستعمال الضغط الشرياني أو الوريدي لتخدير المكان.
ولم يكتف المسلمون الأوائل بذلك، بل لجئوا إلى حرق بعض النباتات، واستعمال أبخرتها ليستنشقها المريض فيتخدر, ويقوم الجرَّاح بعمله بعد ذلك, واستعملوا الكحول في كل المواد المخدرة بنسبة معينة.
والذي يقرأ كتاب (القانون في الطب) لابن سيناء، يجد أنه يوصي باستعمال نبات اليبروح كمخدر، وهذا النبات من الفصيلة الباذنجانية.
وكما يقول الباحثون في تاريخ العلوم، فإن التخدير أصله عربي، ولم ينل المسلمون الأوائل تلك السمعة العالمية في الطب إلا لمعرفتهم التخدير.. نعم.. وإلَّا كيف كان يمكن لعالِم وجرَّاح عربي كـ"الزهراوي" مثلاً، أن يقوم بعمليات استخراج الحصى من الكُلَى أو الحالب، مستخدمًا المشرط والخياطة، دونما تخدير المريض؟!
فلقد كان عمله حقيقة عملًا رياديًّا وعظيمًا في عصره, لقد كانوا يستخدمون قطعة من القماش أو الكتان لتمتص المناقيع، ويضعونها على أنف المريض قبل بدء الجراحة، فكانوا أول من استخدم الاستنشاق لتخدير المريض، فإن الروم في عصرهم كانوا يستعملون مشروبات فقط في التخدير، ولم يعرفوا الاستنشاق بعدُ، كما يقول د. نزار العاني وهو باحث في تاريخ العلوم.
لقد استخدم المسلمون الحشيش والأفيون بنسب مختلفة، ونبات ست الحسن أو البلادونا حاليًّا، والشكران كذلك الذي تجرعه سقراط قبل موته بكمية كبيرة، فالقليل منه يحدث تخديرًا وتنميلًا في الجسم.
والأعجب من هذا أنهم أول من عرف المراهم كمخدرات قبل الجراحة، كما يذكر الباحث الدكتور طه الجاسر أن العرب عرفوا الأثيير كمخدر وزيت الزاج (حمض الكبريتيك) لعمل المراهم والمخدرات.
هذه إسهامة يسيرة من آبائنا الأوائل في بناء صرح الحضارة العلمية والإنسانية؛ ولذلك ارتفع شأنهم وعلا ذكرهم وسُجِّلت أسماؤهم بأحرف من نور في صفحات التاريخ.
فهل آن الأوان لنواصل المسيرة، ويفخر بنا الأجداد كما فخرنا بهم؛ {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، العدد (353)، المحرم 1416هـ.
التعليقات
إرسال تعليقك