الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تعتبر مكتبة الغازي خسرو بيك في سراييفو أعرق مكتبات البوسنة وذاكرة البلقان، وبها أقدم مخطوطات في العالم، فما تاريخها وأشهر خزائنها؟
تعتبر مكتبة الغازي خسرو بيك أشهر المكتبات العامة في البوسنة والهرسك وتحظى بمكانة وأهمية كبيرة بصفتها المكتبة الأم في البوسنة؛ ومستقرّ معظم المكتبات الأخرى التي ألحقت بها تباعًا، ومستودع مخطوطات البوسنة وتراث أهلها العلمي عبر العصور.
ممّا يلفت نظر المتأمّل في منطقة سراييفو القديمة (المسمّاة عند أهل البوسنة ستاري غراد) أحد المباني القديمة التي لا تزال شامخة على مقربة من مسجد الغازي خسرو بيك ومكبته الشهيرين، وقد كتب على باب هذا المبنى:
مجمّع الأبرار، دار الكاملين
"فيها كتبٌ قيّمة"
بنى هذا البناء للطالبين الغازي خسرو بيك
944هـ / 1537م
وما ذلك المبنى إلا مبنى مكتبة الغازي خسروبيك في سراييفو؛ أقدم وأعرق وأكبر المكتبات وزائن المخطوطات الشرقيّة في منطقة البلقان بعد مكتبات تركيا.
منشؤها وتاريخ إنشائها
وقد أسس هذه المكتبة الغازي خسرو بيك سنة 944هـ / 1537م، كما يظهر من الكتابة المنـحوتة على مدخلها، والوقفيـّة المحفوظة ضمن مخطوطاتها، وكانت في بداية الأمر ملحقة بمدرسة الغازي ووقفًا على طلاّبها حسب ما يوحي به قوله في وقفيّة المدرسة "وما يفضل من خرج البناء تبتاع به الكتب المعتبرة، وتستعمل في المدرسة المذكورة ليستفيد منها من يطالعها من المستفيدين، ويستنسخها من يستنسخها من المحصّلين" [1].
وتقع المكتبة في سوق باش جارشي الشهير بسراييفو. وظلّت المكتبة ملحقةً بالمدرسة حتى فصلها عنها عثمان باشا طوبال والي البوسنة سنة 1354هـ / 1935م [2].
أهمية مكتبة خسرو بك
تعدّ مكتبة غازي خسرو بيك في العاصمة البوسنية سراييفو، وبداخلها مخطوطات فريدة من نوعها، بمثابة "الذاكرة" لمنطقة البلقان، ولا تزال في الخدمة منذ مئات السنين. وتحوي المكتبة آلاف المخطوطات العربية والتركيّة والفارسيّة التي جلبت إليها بطرق مشروعة -خلافًا لما هو عليه الحال في مكتبات ومتاحف أوروبا الغربيّة- أو نسخت بأيدي أبناء البوسنة الذين شغفوا بالكتب، وبذلوا وسعهم في نسخها، والاعتناء بها. لذا فالمكتبة تعتبر هي ذاكرة البوسنة والهرسك، وقد حافظت على ثقافة وذاكرة البوسنة ولا تزال تحافظ عليهما.
وتمثل مكتبة خسرو بك ذاكرة الشعب البوسني لكونها تضم خلاصة إنجازاته الثقافية والحضارية متمثلة في كم هائل من المخطوطات القيمة يصل إلى 10 آلاف مخطوطة بلغات عديدة، يعود تاريخ بعضها إلى ألف عام، وهي بذلك تأتي في مصاف كبريات المكتبات التراثية في أوروبا.
وخلال العهد العثماني كان يوجد في البوسنة والهرسك أكثر من مئة مدرسة دينية، كل واحدة منها كانت تحتوي مكتبة خاصة، وعقب زوال نظام الأوقاف من البوسنة والهرسك، تم نقل المخطوطات التي كانت توجد في مكاتب التكايا والمدارس والمستشفيات، إلى سراييفو.
كما تضم مكتبة "غازي خسرو بيك" نوعين من المخطوطات: الأول خطّه علماء بوسنيون نهلوا من العلم الشرعي في مدارس بغداد والقاهرة، والثاني عبارة عن مخطوطات إسلامية قديمة استجلبت من مكة المكرمة والمدينة المنورة ودمشق والقاهرة وبغداد وإسطنبول على يد العلماء والحجاج والتجار وطلاب العلم.
النجاة من الدمار
وقد تعرّضت المكتبة ومخزونها النفيس إلى محن شتى من الدمار والفيضانات والحرائق وغيرها، شأنها في ذلك شأن سائر المنشآت الإسلامية في البوسنة، ومن أشد ما لحق بها عمليّة السلب والتدمير التي وقعت أثناء عدوان أوغين سافويسكي النمساوي على سراييفوسنة 1109هـ / 1697م، التي نتج عنها فقدان عدد كبير من نفائس مخطوطاتها بما في ذلك مخطوطات أوقفها الغازي خسرو بيك نفسه رحمه الله [3]. وفي عام 1995م تعرض "معهد الشرقيات" في البوسنة إلى حريق أتى على أكثر من خمسة آلاف مؤلف مكتوب بخط اليد.
ويحكي الدكتور مصطفى يهيتش مدير مكتبة الغازي خسرو بك وهو يتذكر كيف كان هو وزملاؤه يقومون بتهريب كتب المكتبة إبان الحرب على سراييفو في التسعينيات. فبعد أن أحرق الصرب مكتبة سراييفو الوطنية، وما تضمه من مخطوطات وكتب تتجاوز المليونين، ومعهد الاستشراق وبلدية العاصمة، خاف مصطفى يحيتش من أن تمتد النار لكتب مكتبة الغازي خسرو بك، خاصة وأنها تحتوي على مخطوطات نادرة.
قام مصطفى وزملاؤه بتهريب المخطوطات والكتب التي تعود للمكتبة ثماني مرات خلال فترة الحرب من 1992 إلى 1995م، إحداها كانت في صناديق موز، حتى ظن بعض السكان أن العاملين في المكتبة يهربون موزًا في وقت لم يجدوا هم فيه خبزًا.
مخطوطات وخزائن المكتبة
وزاد من أهمّية المكتبة نقل عدد كبير من مخطوطات مكتبات البوسنة الأصغر حجمًا والأقلّ شأنًا إليها عبر التاريخ، فقد نقلت إليها مكتبة حسن ناظر ومكتبة مميشاه بيك، ومكتبة قرجوز بيك، ومكتبة درويش باشا بايزيد آغيتش، ومكتبة ألجي إبراهيم باشا، ومكتبة مصطفى أفندي أيّوبوفيتش، ومكتبة الشيخ يويوومكتبة الحاج خليل أفندي الغرادتشاينتشوي، ومكتبة عثمان شهدي أفندي، ومكتبة الشيخ عبد الله القنطميري، ومكتبة المصري، ومكتبة مدرسة آتميدان، ومكتبة مدرسة سيم زاده كومشيتش، ومكتبة مدرسة وجامع إبراهيم باشا في بوجتل وعددٍ من المكتبات التي كان يملكها معاصرون، وأشهرها مكتبة الشيخ محمد الخانجي رحمه الله، ومكتبة القاضي حسن أفندي بويوزادة، ومكتبة متولي وقف الغازي خسروبيك أحمد عاصم متوليتش، ومكتبة الحاج أحمد أفندي بن مصطفى، ومكتبة مصطفى بيك جنتي زاده، ومكتبة عائلة جينوزاده، ومكتبة عائلة المظفّري، ومكتبة هرموزاده، ومكتبة مميش آغا قاسم آغيتش، وكثيرٌ غيرها [4].
وبلغ عموم ما أودع خزائن المكتبة خمسين ألف وحدةٍ من المجلّدات والمؤلّفات والمجلاّت والوثائق التركيّة باللغات الشرقيّة والغربية، منها سبع آلافٍ وخمسمئة مجموعةٍ، وخمسة عشر ألف كتابٍ ورسالة في العلوم الإسلاميّة واللغات الشرقيّة والأداب، إلى جانب مثل هذا العدد باللغات السلافيّة والأوروبيّة، ونحوأربعة آلاف وثيقةٍ تاريخيّة تتعلّق بتاريخ البوسنة والهرسك، وألفًا وأربعمئة وثيقة حول أوقاف البوسنة، وستًا وثمانين سجلًا للمحاكم الشرعيّة البوسنويّة، وكتب ووثائق أخرى بالغة الأهمّيّة [5].
كما أنها تحتوي على 15 ألف رسالة في العلوم الإسلامية وعلم اللغات الشرقية والأدب الكلاسيكي إضافة إلى مدونة باللغات الأوروبية ويقدر عددها بـ15 ألف كتاب. ومجموعة ضخمة من الوثائق تصل إلى 4000 وثيقة تتعلق بسجلات المحكمة الشرعية في سراييفو، والمجموعة التاريخية للمؤلف أنور قاضيتش البالغ عددها 28 مجلدا، وتاريخ البوسنة في 4 مجلدات، إضافة إلى الصحف والمجلات الصادرة في تلك الفترة الزمنية.
تحوي أقدم نسخ المخطوطات في العالم
وأقدم ما في مكتبة الغازي خسروبيك من المخطوطات نسخة من كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، نسخت عام 525 هـ /1131م، أي بعد وفاة المؤلّف رحمه الله بعشرين سنة فقط، وهو أقدم كتاب مستنسخ في العالم. يليه كتاب فردوس الأخبار في مأثور الخطاب للديلمي الهمذاني [6] (ت 509هـ /1116م)، وهو منسوخ عام 546هـ / 1151م بيد عبد السلام بن محمد الخوارزمي بهمذان. ثمّ الجزء الثالث من كتاب الكشف والبيان في تفسير القرآن لأبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري [7] ( ت 427 هـ / 1036 م )، ويرجع تاريخ هذه النسخة إلى عام 571هـ/1176م وهو بخط بركات بن عيسى بن أبي يعلى.
وتوجد بالمكتبة أيضًا مؤلفات تعود للقرون الـ12 والـ13 والـ14 الهجري، والمؤلفات التي كتبت بخط اليد في البوسنة تدل على الدور الفعال لهذه البلاد في الحضارة الإسلامية. وتتنوع مضامين المخطوطات الموجودة في المكتبة، فبالإضافة إلى العلوم الإسلامية هناك مخطوطات في الطب والصيدلة والطب البيطري والرياضيات وعلم الفلك والفلسفة والمنطق والتاريخ واللغة والأدب.
خزينة لمؤلفات أشهر علماء البوسنة
وإلى جانب أمّهات الكتب التي ألّفـها علمـاء الإسلام على مرّ العصور -وكان حظ مكتبة الغازي خسروبيك منها وافرًا- نجد في خزائن تلك المكتبة ما لا نجده في سواها من مؤلّفات علماء البوسنة الذين كان لهم أثر قلّ من اطلّع عليه في إثراء حركة التأليف والنسخ في الولايات العثمانيّة، وبرز منهم علماء أعلام لا يقلّون شأنًا عن أقرانهم من العلماء العاملين في ديار الإسلام الأخرى.
ومن علماء البوسنة الذين حفظت مكتبة الغازي خسروبيك تراثهم باللغات الشرقيّة كلٌّ من: الشيخ حسـن كافي الأقحصاري ، والحاج مصطفى بن محمد الأقحصاري، وحسن شلبي بن علي الموستاري المعروف بحسن ضيائي [8]، وأحمد بياضي زاده، وعلاء الدين دده بن مصطفى البوسنوي، ومصطفى أيوبوفيتش ( الشيخ يويو) [9]، وأحمد بن مصطفى المفتي الموستاري [10]، ومحمد بن موسى علاّمك [11]، وأحمد بن محمد الموستاري، وإبراهيم بن إسماعيل أوبياتش [12]، وحسين البلغرادي [13]، وغيرهم.
الهوية الثقافية
واعتبر مصطفى يهيتش مدير مكتبة خسرو بيك أن الحفاظ على هذه المخطوطات يمثل أهمية قصوى، باعتباره جوهر هوية الشعب البوسني المسلم، وفي سبيل تحقيق هذه الغاية فقد تمت فهرسة الموضوعات الموجودة فيها، وبلغت 16 مجلدا من الفهارس في شكل كتاب، كما تم تصويرها جميعا على مايكروفلم وسي دي عن طريق التصوير الرقمي.
وبالجملة فإن مكتبة الغازي خسروبيك كانت ولا تزال ذات دورٍ رئيسٍ في خدمة تراث الأمّة وحفظه، ولها مع سائر مكتبات البوسنة دور كبيرٌ في حفظ مخطوطاتٍ نفيسة، وأصول قيّمة للكتب الإسلاميّة وغيرها.
________________
مصادر البحث:
- مخطوطات الحديث النبوي وعلومه في مكتبات البوسنة، تأليف: أحمد عبد الكريم نجيب، أستاذ الحديث النبوي وعلومه في كلية الدراسات الإسلاميّة بسراييفو، والأكاديميّة الإسلاميّة بزينتسا، ومدرّس العلوم الشرعيّة في معهد قطر الديني سابقا.
- مكتبة عثمانية بالبوسنة .. ذاكرة منطقة البلقان، تقرير بشبكة الجزيرة نت.
- مكتبة خسرو بك ديوان تاريخ البوسنة، تقرير بشبكة الجزيرة نت.
- مكتبة الغازي خسرو بك .. تاريخ من الصمود، موقع عمون، 2014م.
الهوامش:
[1] انظر: قاسم دوبراجا: فهرس المخطوطات العربية والتركية والفارسية ( نشر المشيخة الإسلامية، سراييفو1383 هـ / 1963م )، ص12.
[2] انظر: محمد مؤذنوفيتش ومحمود تراليتش: مكتبة الغازي خسروبيك في سراييفو (نشر المشيخة الأسلاميّة سراييفو 1402هـ/1982م)، ص11.
[3] انظر: محمد مؤذنوفيتش ومحمود تراليتش: مكتبة الغازي خسروبيك في سراييفو، ص13.
[4] حول حركة نقل المكتبات إلى مكتبة الغازي خسروبيك انظر: محمد مؤذنوفيتش ومحمود تراليتش: مكتبة الغازي خسروبيك في سراييفو، ص 14. وانظر: قاسم دوبراجا: فهرس المخطوطات العربية والتركية والفارسية، ص14 أيضًا.
[5] انظر: محمد مؤذنوفيتش ومحمود تراليتش: مكتبة الغازي خسروبيك في سراييفو، ص14، 15. وقارن بـ: قاسم دوبراجا: فهرس المخطوطات العربية والتركية والفارسية، ص15. وبلال حسانوفيتش: المؤسسات التربوية الإسلامية في البوسنة والهرسك، ص315.
[6] الديلمي، هوشيرويه بن شهردار بن شيرويه، أبوشجاع، ولد سنة 445 هـ / 1053 م، المحدث الحافظ، مؤرخ همذان، وهومن ولد الصحابي الجليل الضحاك بن فيروز.
انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 19 / 294، تذكرة الحفاظ 4 / 1259، شذرات الذهب 5 / 127.
[7] الثعلبي: كان رأساَ في التفسير والعربية، متين الديانة، حافظا، واعظا. انظر ترجمته في: وفيات الأعيان 1 / 79 - 80، سير أعلام النبلاء 17 / 435، العبر 3 / 163.
[8] شاعر باللغتين العربية والتركية، له كتاب ( ترجئ بند ) باللغة التركية في التصوف، توفي سنة 992 هـ / 1584م. انظر ترجمته في: الجوهر الأسنى، للشيخ محمّد الخانجي، ص71. محمد مؤذنوفيتش ومحمود تراليتش: مكتبة الغازي خسروبيك في سراييفو، ص 17.
[9] انظر ترجمته في: الجوهر الأسنى، للشيخ محمّد الخانجي، ص 179. محمد مؤذنوفيتش ومحمود تراليتش: مكتبة الغازي خسروبيك في سراييفو، ص17.
[10] انظر ترجمته في: الجوهر الأسنى، للشيخ محمد الخانجي ص 43.
[11] انظر ترجمته في: الجوهر الأسنى، للشيخ محمّد الخانجي، ص155. ومحمد مؤذنوفيتش ومحمود تراليتش: مكتبة الغازي خسروبيك في سراييفو، ص17.
[12] انظر ترجمته في: الجوهر الأسنى، للشيخ محمّد الخانجي، ص30. ومحمد مؤذنوفيتش ومحمود تراليتش: مكتبة الغازي خسروبيك في سراييفو، ص17.
[13] انظر ترجمته في: الجوهر الأسنى، للشيخ محمّد الخانجي، ص76. ومحمد مؤذنوفيتش ومحمود تراليتش: مكتبة الغازي خسروبيك في سراييفو، ص17.
التعليقات
إرسال تعليقك