الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
كما كان للمسلمين فضل السبق في اكتشاف الكتاتيب كان لهم أيضا السبق في ابتكار وتطوير منهج الدراسة بها
تقدم المسلمين في طريقة التعليم
وصف لنا ابن جبير[1] في رحلته، مدى التقدم المنهجي الذي وصل إليه تعليم الصبيان في دمشق، فقال: "وتعليم الصبيان للقرآن بهذه البلاد المشرقية كلها إنما هو تلقين، ويُعلَّمون الخط في الأشعار وغيرها؛ تنزيهًا لكتاب الله U عن ابتذال الصبيان له بالإثبات والمحو، وقد يكون في أكثر البلاد الملقِّن على حدة، والمُكَتِّب على حدة، فينفصل من التلقين التكتيب، لهم في ذلك سيرة حسنة، ولذلك ما يتأتّى لهم حسن الخط؛ لأن المعلم له لا يشتغل بغيره، فهو يستفرغ جهده في التعليم، والصبي في التعلُّم كذلك، ويسهل عليه لأنه بتصوير يحذو حذوه"[2].
إذن، وصل تعليم الصبيان في الكتاتيب إلى أعظم مراحله؛ فقد عرف المسلمون نظام الفصل في المواد، وجعلوا لكل مادة دراسية معلمًا متخصصًا فيها، بل اهتم المشارقة بتحسين خطوط أبنائهم، وهذا ما انتبه إليه ابن جبير، وجعله من أهم ما يميِّز مؤسسة التعليم في المشرق الإسلامي.
وقد ظل نظام تعليم الأطفال في المشرق ينتهج ذات النهج الذي أخبر به ابن جبير في العام 580هـ، فقد وجدنا ابن بطوطة[3] في رحلته الشهيرة، يُخبر عما أخبر به ابن جبير من قبله بما يزيد على مائة وخمسين عامًا، فقال عن معلمي المسجد الأموي في دمشق: "وبه جماعة من المعلمين لكتاب الله، يستندُ كل واحد منهم إلى سارية من سواري المسجد يُلقِّن الصبيان ويُقرِئُهُم، وهم لا يكتبون القرآن في الألواح تنزيهًا لكتاب الله تعالى، وإنما يقرءون القرآن تلقينًا، ومُعلم الخط غير معلم القرآن، يعلمهم بكتب الأشعار وسواها، فينصرف الصبي من التعليم إلى التكتيب، وبذلك جادَ خطُّه؛ لأن المعلِّم للخط لا يُعلِّم غيره"[4]. ومما يُلاحظ أن الأطفال كانوا يتعلمون في المساجد القرآن الكريم، ثم ينتقلون من بعده إلى دراسة التكتيب والخط؛ ليتعلموا على يد المُكتِّب صحيحَ القراءة والكتابة.
تأديب الأطفال في ميزان الإسلام
وأما تأديب الأطفال والصبيان عن طريق الضرب، فقد وضع الفقهاء لذلك مجموعة من الضوابط، مما يعني أن المسلمين قد اهتموا بتربية الأطفال وتأديبهم منذ فترة مبكرة؛ فقد ذكر ابن مفلح المقدسي (ت 763) في "الآداب الشرعية" قوله: "سئل أبو عبد الله (أَحمد بن حنبل) عن ضرب المعلِّم الصِّبيان، فقال: على قدر ذنوبهم، ويتوقَّى بجهده الضَّرب، وإن كان صغيرًا لا يعقل فلا يضربه"[5].
وقد حذّر كثير من الفقهاء والعلماء، المؤدِّبين والمعلمين من الإسراف والتفنن في ضرب الأطفال، أو معاملتهم معاملة قاسية، فقد قال العبدري: "وليحذرِ الحذرَ الكُلِّي من فعل بعض المؤدبين في هذا الزمان (القرن الثامن الهجري)، وهو أنهم يتعاطون آلة اتخذوها لضرب الصبيان مثل: عصا اللوز اليابس، والجريد المشرح، والأسواط النوبية، والفلقة، وما أشبهُ ذلك مما أحدثوه، وهو كثير ولا يليق هذا بمن ينسب إلى حمل الكتاب العزيز؛ إذ إنه كما ورد في الحديث: "مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّمَا أُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُوحَى إِلَيْهِ"[6]. وينبغي له أن يُعلِّمهمُ الخطّ والاستخراجَ، كما يعلِّمهم حفظ القرآن؛ لأنهم بذلك يتسلَّطُون على الحفظ والفَهْم، فهو أكبر الأسباب المعينة على مطالعة الكتب وفهم مسائله"[7].
مهام الكتاتيب
ولم تكن مهام الكتاتيب تربوية أو تعليمية فقط، بل كان لها دور اجتماعي مهم جدًّا، فلم يسمح المسلمون أن تقوم عزلة وحواجز بين الكُتَّاب والمجتمع، ولذلك فهو يتفاعل مع مجتمعه, ويشارك في حياته اليومية، "فإذا مات عالم جليل أفاد العباد بعلومه, أو رئيسٌ نفع البلاد بآرائه وأعماله، أو أميرٌ عادل أنصف في أحكامه، أغلقت الكتاتيب أبوابها، وعطّل الأحداث دراستهم يوم دفنه؛ مشاركةً في المصاب العمومي، وإظهارًا للتأسي، وإجلالاً لخدمة الصالح العام"[8].
ولما كان والي مصر أحمد بن طولون[9] قد اشتدت علة مرضه، وزادت عليه أوجاعه، قرر معلمو الصبيان في مصر الخروج بصبيانهم إلى الصحراء؛ ليدعوا الله أن يشفي ابن طولون[10].
ولذلك حرص المعلمون والمؤدبون على إشراك الصبيان في القضايا العامة التي تلم بالمجتمع، فيقول ابن سحنون[11]: "إذا أجدب الناس, واستسقى الإمام, فأُحِبَّ للمعلم أن يخرج بهم من يعرف الصلاة منهم، وليبتهلوا إلى الله بالدعاء ويرغبوا إليه، فإنه بلغني أن قوم يونس -صلى الله على نبينا وعليه السلام- لما عاينوا العذاب خرجوا بصبيانهم, فتضرعوا إلى الله بهم"[12].
واللافت للنظر اهتمام الفقهاء المربين بصحة الصبيان في الكُتَّاب، فنصحوا بعزل الصبي المريض عن رفاقه حتى لا ينتشر المرض بينهم، يقول ابن الحاج العبدري: "ينبغي إذا اشتكى أحد من الصبيان وهو بالمكتب بوجع عينيه, أو شيء من بدنه، وعُلِم صدقُه أن يصرفه (المعلم) إلى بيته ولا يتركه يقعد في المكتب"[13]؛ وذلك ليترك لأهله الاهتمام به, والعمل على معالجته؛ خوفًا من انتشار عدوى المرض بين الصبيان.
وطلب إلى معلم الصبيان منعهم من أكل الطعام والحلوى المكشوفة والمعروضة من قِبل الباعة الجوَّالين "فلا يدع المعلم أحدًا من البياعين يقف على المكتب ليبيع للصبيان؛ إذ فيه المفاسد إن اشترى منه"[14]، وبلغ الحرص عندهم لدرجة "ترتيب طبيب يحضر بالمكتب في كل شهر"[15].
إن اهتمام الحضارة الإسلامية بالأطفال منذ النبي r، ليُدلل على أن هذه الحضارة لم تفرق بين الكبير والصغير، بل على العكس؛ فقد عَلِمَتْ أن صغار اليوم هم قادة الغد، فعملت على تنشئتهم تنشئة صالحة نافعة، عن طريق إقامة الكتاتيب التي هي بمنزلة المدارس الابتدائية في عصرنا الحاضر، فتخرج من هذه الكتاتيب العلماء الأجلاّء، الذين أضافوا للبشرية العلم النافع، ومِن ثَمَّ الرخاء والتقدُّم.
د.راغب السرجاني
[1] ابن جبير: هو أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي (540- 614هـ/ 1145- 1217م) رحّالة أديب، زار المشرق ثلاث مرات، ألّف في إحداها كتابه "رحلة ابن جبير". ولد في بلنسية، ومات بالإسكندرية. انظر: الزركلي: الأعلام 5/319، 320.
[2] ابن جبير: رحلة ابن جبير ص245.
[3] ابن بطوطة: هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الطنجي (703- 779هـ/ 1304- 1377م) رحّالة، مؤرخ. ولد ونشأ بغرناطة، وطاف بلادًا كثيرة، وتوفي في مراكش. انظر: الزركلي: الأعلام 6/235.
[4] ابن بطوطة: رحلة ابن بطوطة ص87.
[5] ابن مفلح: الآداب الشرعية 2/61.
[6] روي بلفظ: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَدْرَجَ النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُوحَى إلَيْهِ". رواه الحاكم (2028)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[7] ابن الحاج العبدري: المدخل 2/317.
[8] حسن حسني عبد الوهاب: مقدمة كتاب آداب المعلمين لابن سحنون ص57.
[9] أحمد بن طولون: (ت 270هـ) أمير الشام والثغور ومصر ولاه المعتز بالله مصر. وكان عادلاً، جوادًا، شجاعًا، متواضعًا، حَسَنَ السيرة، يباشر الأمور بنفسه، ويعمر البلاد، ويتفقد أحوال رعاياه، ويحب أهل العلم. انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات 1/870.
التعليقات
إرسال تعليقك