ملخص المقال
شكلت مراقبة هلال رمضان للأندلسيين مهمة محفوفة بالمخاطر.. فكيف كانوا يستقبلون رمضان؟ وكيف كانوا يعيشون أجواءه؟
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة البقرة: 185]. إن من النعم التي أكرم الله بها عباده، وأقرّ أعين المؤمنين بها أن بلّغهم شهر رمضان, هذا الشهر الفضيل الذي ُأنزل فيه القرآن العظيم على محمد صلى الله عليه وسلم هو من خصائص الدين الإسلامي التي جمعت كل العبادات من صلاة وصيام وذكر وصدقة وعمرة، إضافةً إلى تبني مكارم الأخلاق وأعفّها وأنبلها. قال عليه الصلاة والسلام: «الصوم جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم»[1]. وقد وعد الله تعالى من قامه حقّ قيامه بالعتق من النار والمغفرة والأجر الكريم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»[2]. فطوبى لمن عرف كيف يقوم رمضان وأحسن استغلاله في طاعة الرحمن! ويا حسرة من ضيّعه وزادته غفلته بعدًا عن الرحمن! وما أشد حسرة من ضيعه وهو له آخر رمضان!
من خلال هذا الموضوع -الذي أسأل الله أن يكون خالصًا لوجهه الكريم- أريد أن أستعرض محنة طائفة من المسلمين عاشت دهرًا طويلاً في أرض كانت إسلامية تُدعى الأندلس. وقد غلب النصارى الأسبان سنة 1492م على أرضهم فساموهم سوء العذاب، وأرغموهم على التنصُّر واعتقاد الكفر والتثليث، وأكل لحم الخنزير وشرب الخمر، والتسمِّي بالأسماء النصرانية، ولباس الزي النصراني. هذا وأجبروهم على التنصُّل من كل اعتقادات المسلمين، والتخلي عن المظاهر الإسلامية الظاهرة والباطنة. وقد حكموا على من خالف ذلك بالموت شنقًا وحرقًا، أو بالسجن المؤبد، أو المؤقت، أو بمصادرة الأموال، أو بالأشغال الشاقة، و... و... ولائحة الإرهاب النصراني طويلة. وقد أطلق النصارى الأسبان على هذه الطائفة من المسلمين اسم "الموريسكيون" Moriscos، أي "المسلمون الأصاغر"؛ تمييزًا لهم وتصغيرًا من شأنهم. كما أطلقوا عليهم اسم "النصارى الجدد" Cristianos nuevos.
وبما أننا في شهر رمضان المبارك فقد اخترت أن أتناول حياة هؤلاء المسلمين -الذين عاشوا كنصارى ظاهرًا ومسلمين باطنًا- في شهر رمضان. كيف كانوا يرون رمضان؟
هل كانوا يصومونه؟
كيف كانوا يعيشونه؟
وماذا لحقهم جرّاء ذلك؟
إلى غير ذلك من الاستفسارات التي قد تُطرح عن حياة هذه الفئة من المسلمين التي -صراحة- تجاهلها المؤرخون المسلمون. وكما ستلاحظون فأغلب الوثائق التي سأنقلها ذات مصدر إسباني ومحفوظة في أرشيفهم. ولعل هذا أوّل موضوع من نوعه يتطرّق بصفة شبه مفصَّلة لحياة الموريسكيين في شهر رمضان، وما لقوه من شدة ومحنة في سبيل صيام ولو يوم واحد منه دون أن يلحقهم أذى النصارى.
1- لمحة تاريخية:
سقطت دولة الأندلس الإسلامية سنة 1492م بتسليم أبي عبد الله بن الأحمر -غفر الله له- مدينة غرناطة آخر معقل إسلامي بالأندلس إلى الملكيْن الكاثوليكيين فرديناند وإيزابيلا -عليهما من الله ما يستحقان- فرفعا الصليب على أعلى أسوار قصر الحمراء، وأدى النصارى صلاة الحمد شكرًا للرب على هذا الفتح -كما زعموا-. وقد وعد الملكان الكاثوليكيان في اتفاقية تسليم غرناطة المسلمين باحترام دينهم وتركهم أحرارًا في اعتقادهم وعباداتهم. لكن ما إن غادر أبو عبد الله قصر الحمراء حتى حُوّلت مساجده إلى كنائس، وقد كان هذا أول نابٍ كشّر عنه النصارى في خطة افتراس الأندلسيين.
أما الناب الثاني فقد كشّروا عنه سنة 1499م بإصدار مرسوم ملكي يقضي بتنصير المسلمين وتعميدهم قسرًا، وتخليهم عن أسمائهم وأزيائهم الإسلامية ولغتهم العربية وكل ما يمتُّ للإسلام بصلة. فرفض أهل الأندلس هذا القرار فثاروا في غرناطة لكن ثورتهم أُخمدت. وأمام إصرار النصارى على تنصيرهم عاش الأندلسيون حياة مزدوجة، فهم ظاهرًا نصارى وباطنًا مسلمون. وأنشأ الأسبان محاكمَ للتفتيش لمراقبة تصرفاتهم ومحاكمة كل من يتشبث بالإسلام. واستمر الأندلسيون على هذا الحال حتى سنة 1567م، حيث أصدر الملك فيليب الثاني قرارًا صارمًا بالتشديد على الأندلسيين، وعدم التسامح مع من يُبدي أي مظهر من مظاهر الإسلام، فقام الأندلسيون سنة 1568م بثورة كبرى في غرناطة استمرت 4 سنوات، انتهت بقمعها واشتداد الوطأة على الأندلسيين الذين ظلوا رغم كل ذلك يحفظون شيئًا من الإسلام. وجاءت سنة 1609م التي شكلت سنة الفرج للأندلسيين، حيث أعلن الملك فيليب الثالث بإيعاز من القساوسة قرارًا بطرد كل الأندلسيين من إسبانيا؛ حفاظًا على وحدة العقيدة الكاثوليكية الإسبانية من خطر"الموريسكيين" الذين ما زالوا مسلمين يحملون دين محمد صلى الله عليه وسلم. وبالفعل تمّ طردهم إلى شمال إفريقيا حيث بلاد الإسلام، وهكذا أنجاهم الله تعالى من الكفر النصراني.
2- رمضان عند الموريسكيين:
حاول المؤرخون الأسبان الذين عاصروا الموريسكيين بإسبانيا رسم صورة لحياتهم الدينية السرية، وقد خرجوا جميعًا بخلاصة مفادها أن صيام شهر رمضان واحترامه وتعظيمه هو أكثر ما تشبّث به الموريسكيون رغم مرور العقود على تنصيرهم.
يقول المؤرخ الإسباني بورونات إي باراتشينا (Boronat y Parrchina) محاولاً رسم صورة عن حياة الموريسكيين الدينية كما كانوا يؤدونها خُفية عن أعين الوشاة النصارى, وقد أورد عدة مظاهر أساسية في حياة المسلمين بينها الصيام، حيث ذكر عن شهر رمضان: "ومدته ثلاثون يومًا, لا يأكل المسلم خلال اليوم إلا في الليل عند بزوغ النجم, وفي كل ليلة يتسحر المسلم, فيأكل بقية ما خلفه في أكل الليل. يأكل قبل الفجر ويغسل فمه ويؤدي الصلاة, ويتطهر المسلم قبل بدء رمضان. يبدأ الصوم برؤية الهلال وينتهي برؤية الهلال. بعد ذلك ينتظر أحد عشر شهرًا, والشهر الثاني عشر يكون هو رمضان, بحيث إن رمضان يبدأ قبل رمضان السابق له بنحو عشرة أيام, إذ هكذا يكون حساب الأهِلَّة. بعد أن ينتهي شهر رمضان -ومدته ثلاثون يومًا- يحتفل المسلمون بعيد الفطر. وفي أول أيام العيد يُقبِّل الابن المسلم يد أبيه ويطلب منه أن يُسامحه, والآباء يباركون الأبناء فيضعون أيديهم على رءوسهم ويقولون: "جعلك الله مؤمنًا (أو مؤمنة)، صالحًا (أو صالحة)". ويطلب كل مسلم من أخيه المغفرة قائلاً: "غفر الله لي ولك"[3].
واستخلصت الباحثة الإسبانية غارسيا مرثيدس أرينال بعد طول دراسة لمحاضر محاكم التفتيش الإسبانية أن: "العبادات الأكثر رسوخًا في حياة الموريسكيين, والتي يتردد ذكرها في كل محاضر التفتيش تقريبًا, هي صيام رمضان والطهارة والصلاة". وواصلت الباحثة: "وبدون أدنى شك, صيام رمضان هو العبادة الدينية الأكثر تأصلاً في حياة المسيحي الجديد, وفي الغالب هي أكثر عبادة يحافظ عليها الجميع. ويمكن القول بأنه آخر مظهر إسلامي من حيث التلاشي... فصيام رمضان كما تصفه المحاضر, يرتكز أساسًا على الامتناع عن الطعام والشراب والمحافظة على ذلك من الفجر إلى الليل عندما تطلع النجوم خلال شهر رمضان بأكمله. على وجه التحديد, طابع الرفض والامتناع في الصيام, مثل ذلك طابعه الجماعي, يجعل منه العبادة الإسلامية الأكثر تأصلاً, وبالتالي الأكثر تميزًا"[4].
أما الباحث الإسباني الشهير خوليو كارو باروخا فقد ذكر نقلاً عن كتاب (سرفنتس والموريسكيون): "أنه في بداية القرن السابع عشر كان أهل مرسية وجيان ومن بقي في غرناطة يصومون رمضان"[5]. أي بعد 110 سنوات على سقوط غرناطة حافظ الأندلسيون على صيام رمضان. وهذا إن كان يدلّ على شيء فإنما يدل على عظم مكانة هذا الشهر عندهم، رغم بطش النصارى بهم، وليعتبر اليوم من فرَّط في صيام رمضان!!
3- شوق الموريسكيين لرمضان:
شكلت مراقبة هلال رمضان للأندلسيين مهمة محفوفة بالمخاطر نظرًا لانتشار أعين الوشاة الذين يترصدون الحركة الكبيرة والصغيرة التي قد توحي بأن فاعلها مسلم. لكن شدة شوقهم لصيام رمضان كانت أكبر من خوفهم من النصارى، فصعدوا إلى المرتفعات لرؤية الهلال؛ حرصًا على صيام رمضان في وقته الشرعي.
في هذا الإطار تروي الباحثة الإسبانية أرينال نقلاً عن محاضر محاكم التفتيش بكوينكا: "يبدأ الصيام بظهور هلال رمضان الذي كان يدور حوله توقع كبير. وكان هناك قلق عند انتظار الهلال ومراقبته, وكانوا ينقلون خبر ظهوره بين القرى المجاورة ويتناقشون حوله. وتسبَّب هذا الاهتمام بهلال رمضان في محاكمة عدد ليس بالقليل من الموريسكيين. تجدر بالذكر حالة (ديثا)؛ ففي عام 1570م (أي بعد 78 سنة على تنصير المسلمين) تم القبض على نصف القرية لأنهم خرجوا إلى أماكن الفضاء لرؤية ظهور هلال رمضان, ولما دار جدل حول ما إذا كان الهلال ظهر أم لا، انقسموا إلى جماعات متفرقة وبدأت كل جماعة تدافع عن موقفها بصوت عالٍ, وبالتالي علمت السلطات وقبضت عليهم[6].
والحالات التي يظهر فيها الموريسكيون وهم يستطلعون الهلال عديدة: ماريا دي أليخير (Maria de Aliger) من ديثا[7]: "لشغفها بمعرفة متى سيبدأ شهر رمضان حتى تصوم, قالت لأحد الموريسكيين إنها ذهبت لرؤية الهلال في فضاء هذه القرية". وخيرونيمو, نقّاش أركوس, رآه جاره ذات ليلة وهو ينظر إلى الهلال، وقال له هذا الشاهد: إلامَ تنظر؟ وما الذي جاء بك إلى هنا؟ قال هذا النقاش: إنه جاء لرؤية الهلال. قال الشاهد: تريد أن تصوم؟ قال له النقاش: أجل، فهناك في أراغون يصوم الجميع"[8].
4- المعذبون بصيامهم:
لتسهيل الوشاية بالمسلمين من طرف النصارى ولمنعهم من أداء شعائرهم الإسلامية, نشرت السلطات الكنسية التابعة لمحاكم التفتيش لائحة طويلة من ستة وثلاثين مظهرًا من المظاهر الإسلامية التي وجب الإخبار عنها، ومنها: "إذا قاموا بصيام رمضان, وراعوا ذلك أثناء عيد الفصح، وسلموا بعض الصدقات، وأنهم لم يأكلوا ولم يشربوا حتى يلاحظوا النجمة الأولى. إذا قاموا بالسحور, واستفاقوا ليأكلوا قبل طلوع النهار، أو غسلوا أفواههم ورجعوا إلى فراشهم"[9].
هكذا عاش الأندلسيون في حالة خوف وحذر من الوشاة، وأخفوا عقيدتهم والتمسوا الخلوات والأماكن المنعزلة لأداء فرائضهم ومنها الصيام، وكان النصارى إذا حلَّ رمضان يمتحنوهم لمعرفة ما إذا كانوا ممسكين. ورغم اعتذار الأندلسيين بأعذار مختلفة لتبرير عدم أكلهم، فإنهم كانوا يتابعون من طرف محاكم التفتيش. وهذا ما جعل عدد الموريسكيين المدانين في شهر رمضان أكثر من الشهور الأخرى. فهذا الأندلسي فرانسيسكو القرطبي (Francisco Cordoba) "الذي كان يصوم رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس خلال شهر كامل, لم تعرض له دعوات كثيرة من جيرانه مثل تلك التي جاءت خلال شهر رمضان, وقد كان حريصًا على احترام الصيام, وأنه إذا دُعي للغداء فإنه كان يرفض بحجة أنه فاقد للشهية, وإذا دُعي أثناء الأكل, فإنه كان يرد أنه أكل قبل ذلك في مكان آخر"[10].
وقد سجلت محاضر محاكم التفتيش الإسبانية أعدادًا كبيرة من حالات ضُبط فيها الأندلسيون في حالة صيام (عندما يصبح الصيام جريمة ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!!). وتبقى أشهر قضية عرفتها محاكم التفتيش هي ضد عائلة ابن عامر المسلمة (سليلة المنصور بن أبي عامر الشهير) ببلنسية سنة 1567م، وتبيِّن لنا هذه القضية تعظيم الموريسكيين لشهر رمضان وإصرارهم على صيامه رغم المنع والحظر النصراني لأي مظهر إسلامي.. وقد ذكر محضر الاتهام بعض شهادات المقرَّبين من عائلة ابن عامر كشهادة الخادمة الموريسكية أنخيلا زوجة خايمي أليمان، والتي شهدت "أنها -وعمرها ستة عشر عامًا- قد أدت شعائر المسلمين, فصامت رمضان, وأنها كانت خادمة للسيد خيرونيمو بن عامر في بناغواتيل بعد أن كانت تعمل خادمة في بيت هاشم في سيغوربي, وفي بيت السيد خيرونيمو صامت رمضان معه ومع زوجته وأبنائه, وهم السيد كوسمي والسيد خوان والسيد أيرناندو والسيدة أغرايدا, وقد احتفل كل هؤلاء بعيد المسلمين فارتدوا أفضل الثياب لديهم. وهذا ما حدث بالضبط في بيت هاشم في سيغوربي -والسيد هاشم متزوج من السيدة أغرايدا ابنة السيد خيرونيمو- فلم يكونوا يأكلون طوال اليوم حتى حلول الليل".
جاءت شهادة بيرنات المعلم -المسئول في بناغواتيل عن ذهاب الموريسكيين لسماع الوعظ النصراني بالكنائس- لتؤكِّد التزام عائلة ابن عامر بالتعاليم الإسلامية, حيث يذكر محضر الاتهام عن بيرنات أنه "شاهدهم يصومون رمضان من أول شهر يوليو"[11].
أما سيبستيان القواغازي من مواليد أوريا بنهر المنصورة فقد حكم عليه سنة 1574م بمصادرة جميع ممتلكاته، والتجديف ست سنوات في سفن الملك، وذلك لتلبسه بممارسة شعائر إسلامية، منها: "أنه كان يتوضأ مرات عديدة، وصلى على طريقة المسلمين، وصام الصيام الذي يقولون عنه صيام رمضان، ممتنعًا عن الطعام والشراب حتى دخول الليل وطلوع النجوم...". وقد اعترف سيبستيان قائلاً: "إن مسلمي البربر ممن شاركوا في ثورة غرناطة علّموه صيام رمضان, وهو يصوم شهرًا كاملاً..."[12]. و" كان الاتهام يوجّه أحيانًا إلى الموريسكيين جملة على أثر بعض الحملات الفجائية على المحلات الموريسكية, فقد حدث مثلاً في سنتي 1589-1590م أن سجلت مائة قضية في قرية "مسلاته" الموريسكية بالقرب من بلنسية، وسجلت في قرية "كارليت" مائتان, واتهمت أربعون أسرة بصوم رمضان"[13].
ولتفادي المراقبة النصرانية عمل الأندلسيون على احتراف مهن تُبعِدهم عن أعين الوشاة؛ حتى يتمكنوا من أداء شعائرهم الإسلامية في اطمئنان نسبي. وهكذا فقد اشتغلوا بمهنة نقل البضائع حيث كانوا يقضون رمضان في قرى غير قراهم، أو في طريقهم إلى مدينة أخرى. وقد شكَّل لهم هذا فرصة لدعوة الأندلسيين إلى الإسلام، وتعليمهم أمور دينهم. فلله دَرُّهم قد كانوا دعاة في قلب البلد الكاثوليكي المتعصِّب!!
"في إحدى الرحلات التي كان يسيرها بدرو زامورانو (Pedro Zamorano) اجتهد هذا الأرغوني لإقناع الموريسكي الوحيد الذي رفض الصوم -إذ كانت الرحلة في شهر رمضان- بحتمية احترامه لهذه القاعدة الإسلامية"[14].
هم الدعوة عند الأندلسيين
ولننظر من خلال القضايا أدناه المحفوظة في أرشيفات محاكم التفتيش إلى هَمِّ الدعوة عند الأندلسيين: "في عام 1524م كان أغوستين دي ثيلي Agustin de celei, وهو نسّاج من ديثا, غالبًا ما يذهب إلى أراغون لزيارة أقاربه وأصدقائه. وكان ميغيل دي ديثا يذهب إلى مولد سان أندرس دي داروقا San Andres de Daroca، وقام ماتيو ألموتثان Mateo Almotazan برحلة من ديسا إلى سرقسطة، وعلّمه الموريسكيون الأراغونيون كيف يصوم رمضان ومتى". "وكان غريغوريو غورغاث Gregorio Gorgaz, العمدة الاعتيادي لديثا, يمتلك بعض خلايا النحل في سيستريكا، وكان يذهب إلى هناك كثيرًا, قام الموريسكيون بهذا الإقليم بتعليمه صيام رمضان والصلاة والطهارة... وكان لويس إيرناندبيث, أحد ناقلي البضائع, قد تعلّم كل ما يتعلق بالإسلام في أراغون التي كان يمرّ بها في أسفاره, وهناك -وبإرادته- قطع على نفسه عهدًا أن يكون مسلمًا. وسافر لويس دي أورتوبيا إلى قطالونيا لبيع حمولته عندما بدأ رمضان, وأراد أصدقاؤه الأراغونيون أن يصوم معهم, ولما لم يتمكنوا من إقناعه حملوه إلى قرية بها فقيه مشهور؛ كي يعلِّمه الصيام ويحوله إلى الإسلام"[15].
وقد ساعد بعض النصارى القدامى الموريسكيين على أداء شعائرهم الدينية بما فيها الصلاة والصيام، لكن محاكم التفتيش كانت لهم بالمرصاد، وحاكمتهم بتهمة حماية الموريسكيين وإبقائهم على دينهم الإسلامي. وأذكر هنا حالة النصراني سانشو دي كاردونا أدميرال المقيم ببلنسية، والذي اتُّهِم في 14 مايو 1568م بحماية الموريسكيين وتمكينهم من أداء شعائرهم الإسلامية، حيث قام ببناء مسجد لهم. وجاء في محضر الاتهام: "كان أمر تشييد المسجد معلومًا, وكان وفود الموريسكيين إليه معلومًا, وكانت الفضيحة كبيرة وصلت إلى مسامع أسقف بلنسية, ثم إلى مسامع جلالة الملك فيليبي سيدنا. وبأمر صاحب الجلالة -كمسيحي مخلص- هُدِم المسجد, ورغم هدمه فقد استمر قائمًا كمكان يعيش فيه الموريسكيون بدعم من السيد سانشو. إن رعايا السيد سانشو من المتنصِّرين (الموريسكيون) قد واصلوا أداء شعائر طائفتهم الخاصة بالزفاف والزواج, والخاصة بصيام رمضان, والاحتفال بالأعياد التي يحتفل بها المسلمون, وختان الذكور كبارًا وصغارًا"[16]. والشاهد هنا هو استمرار الموريسكيين في صيام رمضان حتى بعد عقود من فرض التنصير عليهم، ومحاولة طمس هويتهم الإسلامية.
وقد أبدى أسقف مدينة سيقوربي مارتين دي سالبترا سنة 1587م (حوالي 95 عامًا على سقوط غرناطة) امتعاضه من استمرار الموريسكيين في صيام شهر رمضان قائلاً: "إنه من المشهور أنهم لم يصوموا أي صيام مسيحي, بل يصومون صيام المسلمين, خاصة ما يُسمَّى برمضان... ولكي يخفي الموريسكيون ذلك فإنهم يذهبون إلى مزارعهم, ويقضون وقتهم هناك إلى أن يحل الظلام, فيعدون عشاءهم وطعامهم في سرية, ويؤدون بقية شعائرهم كالصلاة والوضوء, وهي شعائر يأمر بها محمد في القرآن"[17].
وقد امتد الوجود الأندلسي الموريسكي حتى القارة الأمريكية رغم منعهم من السفر إلى أمريكا، وسجلت دواوين التفتيش بمكسيكو اصطباغ حياة العديد من الأسر بالمظاهر الإسلامية. وكان صيام رمضان أهم هذه المظاهر، وهذا ما أكدته دراسة بالمؤتمر الأول للأدب الخميادو- الموريسكي بمدينة أفييدو الإسبانية سنة 1972م, حيث جاء في هذه الدراسة: "وفي حالات أخرى فقد ضبط المسلمون على حين غفلة عندما يقيمون الصلاة، أو يصومون رمضان".
وختامًا لهذا الموضوع الذي بيّن جزءًا بسيطًا من محنة الأندلسيين في شهر رمضان, أسأل الله أن يرحم أولئك الأندلسيين الذين قضوا على يد محاكم التفتيش الإسبانية، وأن يسكنهم فسيح جنانه.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله أجمعين، والحمد لله رب العالمين[18].
[2]رواه البخاري ومسلم.
[3]غارسيا مرثيدس أرينال: الموريسكيون الأندلسيون، ترجمة الدكتور جمال عبد الرحمن، ص100.
[4]غارسيا مرثيدس أرينال: محاكم التفتيش والموريسكيون، ترجمة الدكتور جمال عبد الرحمن، ص66.
[5]خوليو كارو باروخا: مسلمو مملكة غرناطة بعد عام 1492م، ترجمة جمال عبد الرحمن، ص129.
[6]أرشيف محاكم التفتيش بكوينكا، ملف 249، رقم 3363.
[7]أرشيف محاكم التفتيش بكوينكا، ملف 375، رقم 5322.
[8]أرشيف محاكم التفتيش بكوينكا، ملف 237، رقم 3072.
[9]Llorente : Historia critica…t2 p 283 الفرنسي لوي كاردياك: الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون.. المجابهة الجدلية، ترجمة الدكتور عبد الجليل التميمي، ص115.
[10]الأرشيف التاريخي الوطني الإسباني، ملف 192، رقم 4. لوي كاردياك: الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون.. المجابهة الجدلية ص25.
[11]غارسيا مرثيدس أرينال: الموريسكيون الأندلسيون ص167، 168.
[12]غارسيا مرثيدس أرينال: محاكم التفتيش والموريسكيون ص149.
[13]د. عبد الله محمد جمال: المسلمون المنصَّرون ص375.
[14]أرشيف دواوين محاكم التفتيش بكوينكا، ملف 376، رقم 5335. لوي كاردياك: الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون.. المجابهة الجدلية ص74.
[15]غارسيا مرثيدس أرينال: محاكم التفتيش والموريسكيون ص92.
[16]غارسيا مرثيدس أرينال: الموريسكيون الأندلسيون ص147.
[17]المصدر السابق ص157.
[18] موقع طريق الإسلام، الرابط: http://www.islamway.com/?article_id=4541&iw_a=view&iw_s=Article
التعليقات
إرسال تعليقك