ملخص المقال
جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس، ومهوى لأفئدة المسلمين، ومحطا لأنظارهم، ومحلا لشوقهم وحنينهم، وقبلة لهم في حياتهم وبعد مماتهم
لقد جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس، ومهوى لأفئدة المسلمين، ومحطًّا لأنظارهم، ومحلاًّ لشوقهم وحنينهم، وقبلة لهم في حياتهم وبعد مماتهم. وفي هذه الأيام تتجه الأنظار، وترنو الأبصار، وتنجذب الأفئدة، وتشتاق النفوس المؤمنة إلى هذه البقعة المباركة، التي رفع الله شأنها، وأعلى مكانها، وفرض على المسلمين زيارتها، والوقوف في مشاعرها وعرصاتها، وضاعف أجر العمل فيها، وميزها على سائر بقاع الأرض، وجعلها قبلة للمسلمين في كل أنحاء العالم.
وها هي قوافل الحجيج وطلائع وفود الرحمن تتقاطر على البيت العتيق من كل فج عميق، وتفد إليه من أصقاع الأرض البعيدة والقريبة، مئات الألوف من المسلمين تؤم هذا البيت الحرام، ترفعهم النجاد وتحطهم الوهاد، وتحملهم السيارات والطائرات، والسفن والباخرات، وتزدحم بهم الموانئ والمطارات، يدفعهم الإيمان ويحدوهم الشوق والحنين، ويحفزهم الأمل للفوز بالمغفرة والرضوان. جاءوا تلبيةً لدعوة الله التي أذّن بها إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- منذ آلاف الأعوام، كما قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 27، 28].
ومنذ انطلقت تلك الدعوة المباركة والقلوب تهفو إلى البيت العتيق، والحجاج يتوافدون عليه في كل عام. فلله در تلك الجموع المؤمنة وقد جاءت مهرولة إلى طاعة الله، راغبةً في ثوابه، خائفة من عقابه، تعاهد الله على الالتزام بدينه والبعد عن معصيته ومخالفته.
لله درها! وقد تجردت من ثيابها ولبست ثياب الإحرام وكأنها تخلع عنها ثياب العصيان والإجرام، وتعلن الاستجابة لله تعالى، وترفع عقيرتها بتوحيده وطاعته وإخلاص العبادة له، وتجأر إليه بالتلبية: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
فهذا البيت هو عنوان التوحيد، ومهوى أفئدة الموحدين من الحجاج والمعتمرين، والطائفين والعاكفين والرُّكَّع السُّجود، وقد جعله الله تعالى قيامًا للناس، به تقوم أحوالهم الدينية والدنيوية، كما قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97]. فلولا وجود بيته في الأرض، وعمارته بالحج والعمرة، وأنواع التعبدات، لآذن هذا العالم بالخراب، ولهذا كان من أمارات الساعة وأشراطها هدمه بعد عمارته، وهجره بعد صلته وزيارته؛ لأن الحج والعمرة والركوع والسجود، مبناها على التوحيد الذي هو أساس الدين وقاعدة الشريعة، فإذا نُسي التوحيد، هُجر البيت، وتركت الصلاة والحج وسائر التعبُّدات.
ويدلك على أن هذا البيت أقيم على التوحيد وله: أنه ما إن يدخل الحاج والمعتمر في النسك حتى يرفع صوته بالتوحيد، ويعلن الانقياد لله تعالى والاستجابة له وحده، قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- وهو يحكي حجة النبي صلى الله عليه وسلم: "فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد"[1]. ويعني بذلك التلبية؛ لأن قول الملبي: لبيك اللهم لبيك، معناه: أفعل هذا تلبيةً لدعوتك، وانقيادًا لأمرك، وإجابة لك بعد إجابة في جميع الأحكام، وعلى مر الليالي والأيام. فهذا التزام بالعبودية والتوحيد، وتكرير لهذا الالتزام بطمأنينة نفس وانشراح صدر، ثم يليه نفي الشريك عن الله تعالى، وإثبات جميع المحامد له.
وهذا هو حقيقة التوحيد الذي بني من أجله هذا البيت، قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].
فللتوحيد أقيم هذا البيت، وعليه أسس منذ أول لحظة: {أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا}. فهو بيت الله وحده دون سواه، وهو محل عِباده الموحِّدين من الطائفين والقائمين والركع السجود, فهؤلاء هم الذين أنشئ لهم هذا البيت، لا لمن يشركون بالله ويتوجهون بالعبادة إلى من سواه.
ولهذا كان المشروع لقاصدي هذا البيت من الحجاج والمعتمرين: أن يبدءوا نسكهم بالتلبية بالتوحيد، حتى يشرعوا في الطواف، ثم يفتتحوا طوافهم بالتكبير والذكر والدعاء والتوحيد، فإذا فرغوا من طوافهم صلوا خلف مقام إبراهيم ركعتي الطواف يقرءون فيهما بعد الفاتحة بسورتي التوحيد: الإخلاص، والكافرون.
ثم يشرعون في السعي وكلما وقفوا على الصفا أو المروة توجهوا إلى القبلة فكبروا وأهّلوا بالتوحيد، واجتهدوا في الدعاء، وهكذا حالهم حين يدفعون إلى عرفات ويقفون في صعيدها الطاهر مستقبلين القبلة، مهللين ومكبرين، وداعين مبتهلين، وهكذا يفعلون حين يفيضون من عرفات ويقفون عند المشعر الحرام، وحين يتوجهون إلى منى، وحين يذبحون هديهم، وحين يرمون الجمرات، وحين يقضون مناسكهم ويهمُّون قافلين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله"[2].
فهي شُرعت لتأكيد التوحيد وتجديده، وإقامة ذكر الله وتمجيده، لا ذكر أحد من عبيده، ولو كان نبيًّا أو ملكًا أو وليًّا!! ويقول عليه الصلاة والسلام: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"[3].
فبيَّن أن أفضل الدعاء هو الدعاء في هذا اليوم العظيم، وبيَّن أن خير ما قاله هو والأنبياء جميعًا قبله هو كلمة التوحيد، وقال الله تعالى مذكرًا بأن الحج إنما شرع لذكره وحده، وتوحيده بالعبادة دون سواه: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 198- 200]. فالحج كله بجميع مناسكه وشعائره، ومن بدايته إلى نهايته توحيدٌ وتمجيد، وذكر ودعاء، وإخلاص لله تعالى.
ولهذا كان من أوجب الواجبات على الحاج والمعتمر: أن يحقق التوحيد لرب العالمين، وأن يخلِّص عبادته من شوائب الشرك والرياء والسمعة.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أحرم بالحج أنه قال: "اللهم هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة"[4].
ومما يؤسف له حقًّا أن بعض الحجاج -هداهم الله ورزقهم البصيرة في الدين- يقعون في الشرك الأكبر وهم لا يشعرون، فتجدهم يستغيثون بأصحاب القبور، ويدعون الأموات، ويسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، سواء أكانوا من الأنبياء أم الصالحين أم غيرهم ممن اتخذت قبورهم مزارات ومشاهد يُطاف بها كما يطاف بالكعبة المشرفة، ويتبرك بتقبيلها والتمسح بها كما يفعل بالحجر الأسود، وينذر لها كما ينذر لله رب العالمين، وتقدم لها القرابين والذبائح، ويحلف بها تعظيمًا لها، ويعتقد فيها القدرة على الضر والنفع، والعطاء والمنع، والدفع والرفع، وتخاف وترجى، وتحب وتعظم، بل لربما كان تعلق هؤلاء بها وحبهم لها أشد من تعلقهم بالله وحبهم له، ورجاؤهم لها وخوفهم منها أعظم من رجائهم لله تعالى وخوفهم منه. ولا أدل على ذلك من أن بعضهم ربما حلف بالله مائة يمين وهو كاذب، فإذا قيل له: احلف بالحسين أو أحمد البدوي أو العباس أو علي أو العيدروس أو الجيلاني أو ابن عربي أو السيدة فلانة أو السيد الفلاني، خاف ونكل، واحمرّ وجهه واصفر!! وربما برّر خوفه من هؤلاء أكثر من خوفه من الله بأن فلانًا قصام الظهور، أو قطاع الرقاب!! وهكذا زين الشيطان لهؤلاء محبة هذه القبور وتعظيمها وخوفها ورجاءها أكثر من محبتهم لله وتعظيمهم له، ورجائهم لثوابه وعطائه وخوفهم من غضبه وعقابه، بل بلغ الحال ببعضهم أنه عندما تتعثر قدمه أو يشتد عليه الزحام حين الطواف بالبيت أو بين الصفا والمروة أو في منى أو مزدلفة أو عرفات يتجه قلبه مباشرة إلى من يعظمه من أصحاب هذه القبور، ويستغيث به من دون الله: يا سيدي فلان، أو يا سيدتي فلانة!! ولو أن شخصًا كان بحضرة ملك من ملوك الدنيا استغاث بغيره لعده الملك مستهينًا به، مستصغرًا لشأنه، ولطرده من مجلسه ومقته، فكيف بملك الملوك سبحانه، وهو الذي له الخلق والأمر، وبيده مقاليد السموات والأرض!!
والعجب من هؤلاء أنهم يبررون شركهم بالله وعبادتهم لأصحاب القبور بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]. وهذا هو منطق الجاهلية الأولى، وهو نفس ما كان يدعيه المشركون الأوائل.
والفرق بين هؤلاء وأولئك: أن مشركي العرب كانوا يعبدون أصنامًا صنعوها بأيديهم من خشب أو فخار أو تراب، وهؤلاء يعبدون قبورًا لبعض الصالحين أقاموا عليها الأبنية والقباب، وزينوها بالذهب والفضة، والأنوار والقناديل.
وثمة فرق آخر: وهو أن أولئك كانوا مقرين بشركهم، وكانوا يقولون في التلبية بالحج والعمرة: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك"، وكانوا يأبون أن يقولوا: لا إله إلا الله، ويقولون متعجبين مستنكرين: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]؛ لأنهم يعلمون معناها، وأنها تعني وجوب إخلاص العبادة لله، وتحريم صرف أي شيء منها لغيره.. لا صنم، ولا شمس، ولا بقر، ولا حجر، ولا نبي، ولا ملك، ولا حي، ولا ميت، ولا قبر، ولا طاغوت، فلا معبود بحق إلا الله، أما هؤلاء فإنهم يقولون: لا إله إلا الله، ويعبدون غير الله، ويقولون: محمد رسول الله، ويهتدون بغير هديه، ويستنون بغير سنته، ويرددون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ثم يشركون بالله ويصرفون أنواعًا من العبادة لغيره، بل ويستغيثون بغير الله وهم يطوفون ببيته ومتلبسون بالحج والعمرة له، وحالهم كما قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. فهم يرددون الشهادتين، ولا يفقهون معناهما، أو يفقهونه ولا يعملون بمقتضاه، فأفعالهم تناقض ما تنطق به ألسنتهم، ويشركون بالله وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
والشرك: هو صرف شيء من العبادة لغير الله، ومن أعظم العبادات وأحبها إلى الله: الدعاء والاستغاثة والاستعانة، فلا يجوز أن يُدعى غير الله ولا أن يستغاث ويستعان بغيره فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك. وفي حديث ابن عباس المشهور: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"[5]. وأمر الله عباده بأن يدعوه دون سواه، وتوعدهم إن استكبروا عن دعائه فقال عز من قائل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]. والملاحظ أنه الله تعالى جعل الدعاء عبادة فقال: {ادْعُونِي} ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أي: دعائي؛ مما يدل على أن الدعاء هو حقيقة العبادة ولبُّها، وفيه يتحقق كمال الحب والتعظيم، والخوف والرجاء، وهذه هي أركان العبادة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة"[6].
وأمر الله تعالى لنا بدعائه، وهو الكريم المنان الذي بيده خزائن السموات والأرض من أعظم نعمه علينا، ومن تمام نعمته وعظيم منته: أن أذن لنا بسؤاله مباشرة، من دون شفيع ولا واسطة، فقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
فإذا كان ربنا سبحانه يأمرنا بأن نسأله كل ما أحببنا، متى شئنا وأين كنا، فلماذا نستغيث بغيره؟! ولماذا نسأل غيره من هؤلاء المخلوقين المساكين، بل الأموات الهالكين، الذين لا يملكون حولاً ولا طولاً، ولا نفعًا ولا ضرًّا، ولا حياة ولا نشورًا؟!
وإذا كان الله تعالى يقول لأفضل خلقه، وأكرم رسله، وأحظاهم بفضله وعطائه: {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50]. هذا يوم كان حيًّا يُرزق عليه الصلاة والسلام، والوحي يتنزل عليه من السماء، فكيف إذن بغيره من الصالحين والأولياء، بل الأموات الذين هم تحت أطباق الثرى، وهم جميعهم -حيهم وميتهم- دونه بمراحل كثيرة، فليس لهم من أمر الكون شيء، ولا يعلمون من علم الغيب شيئًا، ولا يملكون من خزائن الله نقيرًا ولا قطميرًا!!
ولهذا توعّد الله تعالى من يدعو غيره، وجعل ذلك من أفعال الكافرين فقال: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]. فكما أنه لا يجوز للمسلم أن يسجد لغير الله، فإنه لا يجوز له كذلك أن يدعو غيره أو يستغيث به أو ينذر أو يذبح له، أو يعتقد فيه القدرة على الضر والنفع، والعطاء والمنع، والدفع والرفع، والتصرف في الكون، فكل هذا من الشرك الأكبر المخرج من الإسلام، المحبط لصالح الأعمال، وكل ذنب قد يغفره الله تعالى إلا الشرك، فإنه لا يغفر لصاحبه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. فمن مات مشركًا بعد أن قامت عليه الحجة فإنه مخلد في النار، وحرام عليه رائحة الجنة: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]. وبيَّن سبحانه أن الشرك محبط لثواب الأعمال الصالحة، ومانع من قبولها، فلا ينفع مع الشرك صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج، ولا عمل صالح ألبتة، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. وحاشاه -عليه الصلاة والسلام- أن يشرك بالله، وهو داعية التوحيد وإمام الموحدين، لكن هذا بيان لشناعة الشرك، وأنه لو صدر هذا الشرك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبط عمله وكان من الخاسرين.
وبيَّن سبحانه في آيات كثيرة من كتابه أن هؤلاء الأموات مهما بلغوا من الصلاح والاستقامة فإنهم لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، وبيّن أنه لا أحد أضل ولا أخسر ممن يدعوهم من دونه فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6]. وأكد في آية أخرى أن هؤلاء المعبودين لا يملكون رفع الضر أو دفعه، ولا حتى تحويله أو تخفيفه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} [الإسراء: 56]. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13، 14]. فهم لا يسمعون من يدعوهم ويستغيث بهم، ولو قدر أنهم سمعوهم لم يستطيعوا أن يغيثوهم أو يستجيبوا لهم، أو ينفعوهم بأي شيء، ولو كان شيئًا حقيرًا كالقطمير، وهو القشرة الشفافة التي تحيط بنواة التمر، ولو كان بيدهم خير لنفعوا أنفسهم، وقاموا من قبورهم، فهم لا يملكون لأنفسهم -فضلاً عن غيرهم- نفعًا ولا ضرًّا، ثم الطامة الكبرى، والرزية العظمى: أنهم سيتبرءون يوم القيامة ممن كان يدعوهم ويشرك بهم: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 6]. وتأمل كيف يصور الله حالهم في الآخرة حتى كأنا نراهم رأي العين، حين يسقط في أيديهم، وتأكل الحسرة قلوبهم، فيندمون ولات ساعة مندم: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166، 167].
أما كون الحج شعارًا للوحدة بين المسلمين، فإنها تتضح في أجلى صورها ومعانيها في هذا الركن العظيم الذي يتكرر كل عام، ويجتمع له الملايين من المسلمين من شتى بقاع المعمورة، ويمثّلون فيه أمة الإسلام على اختلاف أجناسها، وبلدانها، وألوانها، ولغاتها. يجتمعون في مكان واحد، وفي زمان واحد، وفي لباس واحد، ويؤدون نسكًا واحدًا، ويقفون في المشاعر موقفًا واحدًا، يعلنون فيه توحيدهم لرب العالمين، وخضوعهم لشريعته، وتوحدهم تحت لوائه ورايته، ويعلنون للعالم كله بأنهم أمة واحدة، وإن نأتْ بهم الديار، وشطت بهم الأمصار، يؤدون مناسك الحج، ويقفون في عرصات مكة ومشاعرها، حيث تتلاصق الأبدان، وتتعارف الوجوه، وتتصافح الأيدي، وتتبادل التحايا، وتتناجى الألسن، وتتآلف القلوب، يلتقون على وحدة الغاية والوسيلة.
وأي وحدة أبلغ وأعمق من وحدة الحجاج وهم يقفون في صعيد عرفات، حاسري الرءوس، مكتسين بالبياض، لا فرق بين غني وفقير، وأمير ومأمور، وكبير وصغير، وعربي وعجمي، كلهم سواسية كأسنان المشط، وكلهم متوجهون إلى الله ذليلين خاشعين، يبتغون إلى ربهم الوسيلة، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه. وكذلك هو حالهم في الطواف والسعي، والمبيت بمزدلفة ومنى، وعند ذبح الهدي ورمي الجمرات، وهو حالهم حين يصلون صلاة الجماعة في تلك العرصات، أو في المسجد الحرام، يصلون خلف رجل واحد هو الإمام، ويناجون ربًّا واحدًا هو الله، ويتلون كتابًا واحدًا هو القرآن، ويتجهون إلى قبلة واحدة هي الكعبة البيت الحرام، ويؤدون أعمالاً واحدة من قيام وقعود، وركوع وسجود.
وحدة نفذت إلى اللباب ولم تكتف بالقشور، وحدة في النظرة والفكرة، وحدة في الغاية والوجهة، وحدة في القول والعمل، وحدة في المخبر والمظهر، وحدة يشعرون فيها بروح الآية الكريمة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
في تلك الشعائر والمشاعر تختفي فوارق المكانة والثروة والجنس واللون، ويعم الأرجاء جوّ قشيب مهيب من الإخاء والصفاء، والمودة والمحبة، وإنه - لايم الحق- لنعمة كبرى أن يكون في مكنة الإنسان التمتع بجو من السلام التام وسط عالم يسوده الصراع والانفصام.. وبجو من المساواة على حين يكون التباين هو النظام السائد.. وبجو من المحبة والألفة في معمعة الأحقاد الدنيوية، والتنابذات والخصومات التي تزدحم بها الحياة العصرية.
لقد فرض الله الحج على المسلمين في وقت محدد من كل عام، وفي مكان واحد ومشاهد واحدة، ليحجوا مجتمعين لا متفرقين، فيشعروا بالوحدة والأخوة، وجعل حجهم في أطهر بقعة وأقدس مكان، وفي عشر ذي الحجة التي هي أفضل أيام الزمان، لكي يشعروا بقدسية المكان والزمان والحال، فيعرفوا مكانتهم بين الأمم، ويستشعروا نعمة الله عليهم بهذا الدين القويم، ونعمته عليهم بأن ألّف بين قلوبهم وجعلهم إخوة متحابين. وكل ذلك يكوّن فيهم الشعور العام بأنهم أمة واحدة، وجسد واحد.
كما أن الحج فرصة ثمينة ليلتقي العامة بالعلماء الربانيين، فينهلوا من علمهم، ويستنيروا برأيهم، وفرصة ليلتقي الكثير من علماء المسلمين بعضهم مع بعض، فيتعارفوا ويتذاكروا، ويتدارسوا ما يهمهم من مسائل العلم والفقه في الدين، ويتعرفوا على أحوال المسلمين وسبل النهوض بهم. وهو فرصة كبيرة ليلتقي زعماء المسلمين وقادة الرأي والسياسة فيهم ليتشاوروا ويتعاونوا على ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين.
فالحج بحق هو شعار الوحدة والتوحيد!! فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.
[1] رواه مسلم كتاب الحج - باب حجة النبي حديث رقم (1218).
[2] أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي في الحج، وقال: حديث حسن صحيح.
[3] أخرجه الترمذي في الدعوات، والحديث صحيح بمجموع شواهده.
[4] أخرجه ابن ماجه في المناسك، وهو أيضًا عند الترمذي في الشمائل، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
[5] أخرجه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع.
[6] أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
التعليقات
إرسال تعليقك