التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أفقه الناس في زمن خلافته على الرغم من وجود عدد كبير من الصحابة في تلك الحقبة.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أفقه الناس في زمن خلافته على الرغم من وجود عدد كبير من الصحابة في تلك الحقبة.
الفقه أعظم من العلم
قد يكون بعض الناس لا يعرفون الفرق بين الفقه والعلم، فالفقه أعلى من العلم، يقول الله سبحانه وتعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 7، 8].
عزة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمر مشاهد، فهي تحتاج العلم فقط، ومع ذلك لا يعلمها المنافقون، ومعرفة أن خزائن السماوات والأرض بيد الله أمر دقيق لا يُرَى بالعين المجرَّدة، إنما يحتاج تدبُّر وفقه، ولذا وَصَفَ اللهُ تعالى الذين لا يعلمون هذا بأنهم لا يفقهون.
يمكنني القول بأن الفقيه رجلٌ حصَّل العلم "مخلصًا"؛ فنوَّر الله قلبه، فاستدلَّ على دقائق الأمور، روى أحمد وهو صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِي - أَوْ عَلَى مَنْكِبِي، شَكَّ سَعِيدٌ - ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»[1].
الفقه في الدين هو الفهم، والتأويل على الأغلب هو العلم بتفسير القرآن، وقد روى أحمد أيضًا بسند صحيح عن ابن عباس: "فَدَعَا اللَّهَ لِي أَنْ يَزِيدَنِي عِلْمًا وَفَهْمًا"[2].
كان عمر أفقه الناس:
عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ (من كبار التابعين) قَالَ: "صَحِبْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْقَهَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْهُ، وَلا أَحْسَنَ مُدَارَسَةً مِنْهُ"[3].
عمر وعدم قطع يد السارق في عام الرمادة:
يُتَّهم عمر رضي الله عنه بأنَّه «عَطَّل» حدَّ السَّرقة في عام الرَّمادة، مع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يدَ المخزوميَّة التي سرقت كما هو معلوم، والواقع أنَّ مَنْ يتَّهم عمر رضي الله عنه بهذه الشبهة إنَّما يفعل ذلك لجهله -أو تجاهله- لقواعد الشريعة وأصولها؛ إذ إنَّ ما فعله عمر رضي الله عنه هو في الواقع من صميم الشريعة!
بيانُ ذلك أَنَّ آيةَ حَدِّ السَّرقةِ في القرآنِ عامَّةٌ، وقد خصَّصَتْها السُّنَّةُ النَّبويَّةُ في مواضع، منها قيمة الشَّيءِ المسروقِ؛ فعَنْ عائشة رضي الله عنها أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»[4]. ومنها عدم وجود المسروق في حِرْزٍ، أو كونه شيئًا مأكولًا في تأويل بعض الفقهاء؛ فقد روى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ»[5]. والكَثَرُ هو طلعُ النَّخلِ، وفي الحديث أَنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم نهى عن قطعِ يدِ سارقِ ثمارِ الشَّجرِ والنَّخلِ، وهذا تخصيصٌ عظيمٌ لآيةِ حدِّ السَّرقةِ، وهو الذي يُفَسِّر بجلاء موقفَ عُمَرَ رضي الله عنه؛ فالذين سرقوا في عهده في عامِ المجاعةِ سرقوا طعامًا اضطرارًا، وبالتَّالي لا ينبغي قطعُ أيديهم، إنَّما يُعَزَّروا بما يراه الحاكمُ مناسبًا، ولكن دون القطع. قال البَغَوِيُّ تعليقًا على الحديثِ الأخيرِ: «وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَلَمْ يُوجِبِ الْقَطْعَ فِي سَرِقَةِ شَيْءٍ مِنَ الْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُحَرَّزَة أَوْ غَيْرَ مُحَرَّزَةٍ، وَقَاسَ عَلَيْهِ اللُّحُومَ، وَالأَلْبَانَ، وَالأَشْرِبَةَ، وَالْجُبُونَ. وَأَوْجَبَ الآخَرُونَ الْقَطْعَ فِي جَمِيعِهَا إِذَا كَانَتْ مُحَرَّزَةً، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَتَأَوَّلَ الشَّافِعِيُّ الْحَدِيثَ عَلَى الثِّمَارِ الْمُعَلَّقَةِ غَيْرَ الْمُحَرَّزَةِ، وَقَالَ: نَخِيلُ الْمَدِينَةِ لَا حَوَائِطَ لأَكْثَرِهَا، فَلا تَكُونُ مُحَرَّزَةً»[6].
ما أروعَ هذا الكلامَ! فمعنى ما سبق مِنَ الأحاديثِ وآراء الفقهاء أَنَّ آيةَ حدِّ السَّرقةِ عامَّةٌ، وأَنَّ السُّنَّةَ النَّبويَّةَ خصَّت أمورًا لا تُقْطَع فيها يدُ السَّارق، وإِنْ كان يُعَزَّر؛ منها تفاهةُ الشَّيءِ المسروقِ، ومنها أنَّه غيرُ مُحَرَّز، ومنها أَنْ يكون مأكولًا مِنْ ثمرٍ، أو كَثَرٍ، أو ما يُقاس عليهما كما فعل أَبُو حَنِيفَةَ، فإذا كان هذا المنعُ مِنَ القطعِ في الظُّروف الطَّبيعيَّة فما بالنا لو كان الأمر في مجاعةٍ عامَّةٍ، والنَّاس في حاجةٍ إلى ما يسدُّ الرَّمق لها ولأبنائها؟ ليس في هذا بلا جدالٍ مبرِّرٌ للسَّرقةِ، ولكنْ فيه مبرِّرٌ منطقيٌّ وشرعيٌّ لعدمِ القطعِ، وهو ما فعله الفاروقُ عُمَرُ رضي الله عنه، بل هذا من عظيم فقهه، ونبيل أفعاله!
عمر وجلد شارب الخمر ثمانين جلدة:
يتَّهم بعضُ الناس عمرَ رضي الله عنه بتغيير حدِّ جلد شارب الخمر، وزيادته عمَّا تقتضيه الشريعة وكان متَّبعًا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، والواقع أنَّ حدَّ الخمرِ ليس منصوصًا على تقييده بعددِ جلداتٍ معيَّن -كحدَّي الزِّنا والقذف- لا في القرآنِ ولا في السُّنَّةِ، والأمرُ فيه متروكٌ للإمامِ، يُقَدِّر فيه عددَ الجلداتِ حسب الظُّروفِ التي تمرُّ بها الدَّولةُ، ومدى اجتراءِ النَّاس على شربِ الخمرِ. هكذا شاء الله أَنْ يجعل هذا الأمرَ متغيِّرًا، ويجعل حدَّي الزِّنَا والقذفِ ثابتَيْن، ونحن في كلِّ ذلك طائعون. عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه، قَالَ: «كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِمْرَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ رضي الله عنه، فَنَقُومُ إِلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا، حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ رضي الله عنه، فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ، حَتَّى إِذَا عَتَوْا وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ»[7].
نلحظ في الرِّواية السَّابقة أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ رضي الله عنه لم يُحَدِّد عدد الجلدات أصلًا في عهدِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، وهذا يُؤكِّد أَنَّ الأمرَ تقديريٌّ، ومتوقِّفٌ على تقدير الحاكم لمدى جرأةِ النَّاسِ على الفعل، فإِنْ كان الورع هو الأغلبُ قلَّل العددَ، وإِنْ كان الفسقُ قد استشرى زاد فيه، على ألَّا يزيد على الثَّمانين؛ لأنَّ ذلك هو الأقصى في سُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدين، ولكيلا يزيد على أخفِّ الحدودِ التي شرعها الله، وهو حدُّ القذفِ، ويدعم هذا المبدأ روايةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، وذكر فيها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ»، قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ (ابْنُ عَوْفٍ) رضي الله عنه: أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، «فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ رضي الله عنه»[8].
ونلحظُ في هذه الرِّواية أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه قال: «نَحْوَ أَرْبَعِينَ»، فهذا تصريحٌ بأَنَّ الرَّقم غيرُ محدَّدٍ، وإلَّا لذكره دون تقريبٍ، ونُلاحظ أيضًا أَنَّ الشَّاربَ ضُرِبَ بجريدتين، فهذا قد يحمله بعضهم على أربعين جلدةً، وقد يحمله آخرون على ثمانين جلدةً (كلُّ جريدةٍ أربعين)، وهذا يُعطي مجالًا للاجتهادِ عند الفقهاء والحكَّام عند اختلاف الظُّروف.
أيضًا نُلاحظ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رضي الله عنه لم يُرِدْ لحُكْمِ شاربِ الخمرِ أَنْ يتعدَّى حكمَ قاذفِ المحصناتِ؛ لأَنَّ الله حدَّدَ الأخيرَ، ولو كان حُكمُ شاربِ الخمرِ أغلظَ لبيَّنه الله تعالى، فلذلك اختار أَنْ يكون -في أقصاه- مشابهًا لحدِّ القذفِ، وأقرَّ ذلك عُمَرُ رضي الله عنه، وفعله في آخر إمرتِه.
أيضًا نجد في روايةٍ أخرى ما يُؤيِّد الاتِّجاه نفسه مِنْ أَنَّ عددَ الجلدات ليس محدَّدًا في السُّنَّة بشكلٍ قطعيٍّ، فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ رضي الله عنه، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْآنَ وَهُوَ فِي الرِّحَالِ، يَلْتَمِسُ رَحْلَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رضي الله عنه، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: «اضْرِبُوهُ»، فَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُ بِالنِّعَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُ بِالْعَصَا، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُ بِالْمِيتَخَةِ -قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: الْجَرِيدَةُ الرَّطْبَةُ- ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُرَابًا مِنَ الْأَرْضِ فَرَمَى بِهِ فِي وَجْهِهِ. في هذه الرِّواية وجدنا أَنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم قال: «اضْرِبُوهُ»، ولم يُحدِّد عددًا، وكان تصوير عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ رضي الله عنه كاشفًا أَنَّ الضَّربَ مِنَ الصَّحابةِ لم يكن أصلًا معدودًا لاشتراكِ أكثرِ مِنْ واحدٍ فيه، وبشكلٍ لا يُمكن معه الجزم بعددِ الضَّربات.
مِنْ كُلِّ ما سبق نُدرك أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لم يُخالِف السُّنَّةِ حين ضَرَبَ بالنِّعال والعصا عددًا قليلًا، وحين ضرب أربعين جلدةً، وكذلك حين ضرب ثمانين؛ فهذه المساحةُ أعطتها له الشَّريعةُ، واستشار فيها فقهاءَ المدينةِ، وأشاروا عليه بالرَّأي استنباطًا، ولو كان هناك نصٌّ مِنَ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم في ذلك ما خَفِي عليهم؛ لأنَّ إقامةَ الحدودِ تكون في العلنِ، وسيعلمها الأغلبُ حتمًا لو كانت معروفةَ العددِ.
عمر وصلاة التراويح جماعة:
يعتقد بعض النَّاس أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد غيَّر السُّنَّة؛ لأنَّه جمع الناس خلف إمامٍ واحدٍ في صلاة التراويح في رمضان، بينما أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته وهو يُصَلِّي التراويح منفردًا، والواقع أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى التراويح منفردًا كما صلَّاها جماعة، ولم ينْهَ عن الجماعة إنَّما امتنع منها لسببٍ مؤقَّت، ومراجعة الرِّواية تُفسِّر الأمرَ. عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي المَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ القَابِلَةِ، فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: «قَدْ رَأَيْتُ الذي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ». وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ[9].
فالسُّنَّةُ إِذَنْ فيها الأمران؛ صلاةُ التَّراويح جماعةً، أو منفردين، وقد امتنع الرَّسول صلى الله عليه وسلم من أدائِها جماعةً بعد أَنْ فعل ذلك ليس لأَنَّ الانفراد نَسَخَ الجماعةَ، ولكن -كما قال- خشيةَ أَنْ تُفْرَض على المسلمين، فلمَّا مات الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وصار مِنَ المستحيل أَنْ تُفْرَض الجماعةُ في التَّراويح على المسلمين، عاد المسلمون إلى خيار الصَّلاة جماعةً أو منفردين، واختار عُمَرُ رضي الله عنه الخيار الأوَّل للحاجةِ إليه، وهذا ما تُفَسِّره الرِّوايةُ الآتية. عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ القَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَر بْن الْخَطَّابِ رضي الله عنه، لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى المَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: «إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ، لَكَانَ أَمْثَلَ» ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: «نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ، وَالتي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ التي يَقُومُونَ»، يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ[10].
ولعلَّنا نُلاحظ أنَّ بعضَ الصَّحابةِ كان يُصَلِّي التَّراويح جماعةً قبلَ أمرِ عُمَرَ رضي الله عنه؛ ففي الرِّواية السَّابقة: «وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ»، فهو في الواقع لم يأتِ بجديدٍ؛ إنَّما هو فقط وَحَّد الإمام فجعله أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنه، ولم يفرض أمرًا على النَّاس، ولم يُعاقب مَنْ تخلَّف عن جماعةِ التَّراويح، بل ما زال الخياران موجودَيْن، والواقع أَنَّ الصَّحابةَ اجتمعوا على اختيار عُمَرَ رضي الله عنه دون خلافٍ، وكذلك معظم العلماء في شتَّى الأزمانِ اللَّاحقة، وقد نقل النَّوَوِيُّ في المجموعِ قولَ أَبِي العَبَّاسِ وأَبِي إِسْحَاقَ: «صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً أَفْضَلُ مِنَ الِانْفِرَادِ؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَإِجْمَاعِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، عَلَى ذَلِكَ»[11].
أمَّا قولُ عُمَرَ رضي الله عنه: «نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ»، فليس المقصودُ هنا بدعةٌ سيِّئةٌ في الدِّين؛ إنَّما المقصود أنَّه بدأ أمرًا كان قد انقطع، وهذا الأمرُ له أصلٌ معروفٌ في السُّنَّةِ النَّبويَّةِ. يقول في ذلك ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: «وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ، فِي لِسَانِ الْعَرَبِ اخْتِرَاعُ مَا لَمْ يَكُنْ وَابْتِدَاؤُهُ، فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي الدِّينِ خِلَافًا لِلسُّنَّةِ التي مَضَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ فَتِلْكَ بِدَعَةٌ لَا خَيْرَ فِيهَا، وَوَاجِبٌ ذَمُّهَا، وَالنَّهْيُ عَنْهَا، وَالْأَمْرُ بِاجْتِنَابِهَا، وَهِجْرَانُ مُبْتَدِعِهَا إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ سُوءُ مَذْهَبِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ بِدْعَةٍ لَا تُخَالِفُ أَصْلَ الشَّرِيعَةِ وَالسُّنَّةِ فَتِلْكَ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ كَمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه، لِأَنَّ أَصْلَ مَا فَعَلَهُ سُنَّةٌ»[12].[13].
[1] أحمد (2397)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده قوي على شرط مسلم.
[2] أحمد (3061)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[3] الطبراني: الزيادات في كتاب الجود والسخاء، دار البشائر الإسلامية، الطبعة الأولى، 1423هـ= 2003م، ص247.
[4] البخاري: كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: 38]، (6407)، مسلم: كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها، (1684)، واللفظ له.
[5] أبو داود: كتاب الحدود، باب ما لا قطع فيه (4388)، والترمذي (1449)، والنسائي (4960)، وابن ماجه (2593)، والموطأ رواية يحيى الليثي (1528)، وأحمد (17299)، وقال الأرناءوط: حديث صحيح. والدارمي (2304)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح.
[6] البغوي: شرح السنة، 10/319.
[7] البخاري: كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال، (6397)، والنسائي: السنن الكبرى (5279).
[8] مسلم: كتاب الحدود، باب حد الخمر، (1706)، واللفظ له، والدارمي (2311)، وابن حبان (4450).
[9] البخاري: أبواب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، (1077)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، (761).
[10] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، (1906).
[11] النووي: المجموع شرح المهذب، 4/32.
[12] ابن عبد البر: الاستذكار، 2/67.
[13] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه
التعليقات
إرسال تعليقك