الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
يمثل ديوان الأوقاف تقدما فريدا في الحضارة الإسلامية على الحضارات الأخرى، فالوقف هو الأساس الذي قامت عليه كل المؤسسات الخيرية في تاريخ الحضارة
اتَّجه المسلمون منذ زمن رسول الله r وإلى يومنا هذا إلى فعل الخيرات، وإقامة الطاعات، وكان الوقف من أهمِّ سُبُل الخير وأكثرها نفعًا للمسلمين؛ فالوقف هو الحجر الأساسي الذي قامت عليه كل المُؤَسَّسَات الخيريَّة في تاريخ حضارتنا؛ حيث أسهمت في نهضة المجتمعات الإسلامية نهضةً لافتة للنظر والانتباه، جعلت المتأمِّل في تاريخ وفلسفة الحضارة الإسلامية يقف مشدوهًا لمعرفة المغزى الحقيقي لنشأة ووجود الأوقاف الإسلاميَّة، وعدم انقطاعها منذ بداياتها الأولى في عهد رسول الله r وحتى يومنا هذا، كما يظهر بوضوح أن نظام الأوقاف إضافة إسلامية خالصة لمسيرة الحضارة الإنسانية في وقت لم تظهر فيه معاني التكافل والاجتماعي في أي حضارة معاصرة أو لاحقة لحضارة الإسلام.
الوقف في عهد النبي وأصحابه
وقد سنَّ النبي r الوقف لعامة المسلمين وخاصتهم، وكانت أوَّل صدقة موقوفة في الإسلام أراضي مُخيريق[1]؛ فقد أورد ابن سعد في طبقاته عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: "كانت الحبس على عهد رسول الله r حبس سبعة حوائط بالمدينة: الأعواف، والصافية، والدلال، والميثب، وبرقة، وحسنى، ومشربة أم إبراهيم. قال ابن كعب: وقد حبس المسلمون بعده على أولادهم وأولاد أولادهم"[2].
كما وقف جمهور الصحابة y في حياة رسول الله r ومن بعده: كوقف عمر بن الخطاب t، وعثمان بن عفان t، وطلحة بن عبيد الله t، وعلي بن أبي طالب t فصُرفت هذه الأوقاف على وجوه البِرِّ والخير.
فهذا عمر بن الخطاب t يذكر في وقفيَّتِه أن ريعها يُنْفَقُ على الفقراء والقربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على مَنْ وَلِيهَا أن يأكل منها بالمعروف أو يُطعم صديقًا غير مُتَمَوِّل[3] فيه[4].
في عهد الدولة الأموية
وظلَّ أمر الأوقاف في يد مستحقِّيها، أو نُظَّار الوقف حسب ما جاء في شروط الواقف، دون أن يكون للدولة الإسلاميَّة تَدَخُّلٌ مباشر فيه؛ حتى تولَّى قضاء مصر القاضي الأموي توبة بن نمر الحضرمي[5]، وذلك في زمن هشام بن عبد الملك؛ الذي لاحظ تداوُل الوقف بين أهله ونُظَّاره، فرأى أن يجعل من نفسه مُشْرِفًا عليه؛ حفاظًا عليه من أن يُعبَث به، أو أن ينصرف عن شروط وقفيَّتِه، ولَمْ يَمُتْ توبة حتى أصبح للأوقاف ديوان مستقلٌّ يرعى شئونها، ويُشرف عليها تحت إشراف القاضي، وإن كان هذا الإجراء قد تَمَّ في مصر إلا أنه كان الانطلاقة الأولى للنظام في سائر البلاد الإسلاميَّة، وهكذا استمرَّ الوقف يخضع لإشراف القضاة يَتَوَلَّوْنَه برعايتهم، ويُنَفِّذُون ما جاء في شروطه؛ أمَّا إن كان له ناظر حسب ما اشترطه الواقف، فإنه يَجِدُ من القاضي الرعاية والتوجيه[6].
واستمرَّ الأمر كذلك حتى كان النصف الأوَّل من القرن الرابع الهجري، فأصبح للأحباس (الأوقاف) مُتَوَلٍّ مستقلٌّ يُشْرِف على شئونها، ويُنَظِّم أمورها، وكان هذا مبعثًا لأن يُصبح للأوقاف ديوان مستقلٌّ، وعلى الرغم من حداثة هذا الديوان إلاَّ أن رئيسه سرعان ما ارتقى إلى مركز كبير في الدولة، حتى فاق منصبُه منصبَ قاضي القضاة في مصر، حتى إنه ليقال: إذا كان عيدٌ أو موسمٌ يُهَنَّأ فيه السلطانُ؛ بَعَثَ قاضي القضاة رسولَه ليقف بباب السلطان إلى أن يَجِيءَ صاحبُ ديوان الأحباس يُهَنِّئَ ثم ينصرف، فإذا انصرف جاء غلام قاضي القضاة وأَعْلَمَهُ بذلك؛ حينئذ يركب قاضي القضاة إلى تهنئة السلطان، ويُعَلِّل النابلسي[7] صاحب كتاب (لمع القوانين المضيَّة في دواوين الديار المصرية) ذلك أنه خوفًا من تصادف تواجدهما في بلاط السلطان، فيجلس صاحب الأحباس على يسار السلطان، وذلك لِمَا لمنصبه من مكانة مرموقة وحظوة لدى الدولة؛ إذ يذكر المقريزي أنه أوفر الدواوين مباشرة ولا يخدم فيه إلا أعيان كُتَّاب المسلمين من الشهود المعدَّلي[8].
في عهد الخلافة العثمانية
وفي زمن الخلافة العثمانية صدر نظام وقفيٌّ جديد، تضمَّن بيان أنواع الأراضي ومعاملات المسقفات[9] والمُستغلات[10] الوقفيَّة، وما زال كثير من هذه التقسيمات معمولاً بها إلى يومنا هذا في العديد من الدول العربية، ومن الأنظمة التي أصدرتها الخلافة العثمانية -كذلك- والمرتبطة بالأوقاف نظام يُعرف بنظام توجيه الجهات، والذي نُظِّم بموجبه كيفيَّة توجيه الوظائف في الأوقاف الخيرية، وإجراء الاختبارات للمرشَّحين لتولية الوقف، ويشمل إجراء الاختبارات للمرشَّحين للوظائف الدينية مثل: الإمامة والخطابة والتدريس والأذان.
وهكذا تتابعت الأنظمة والقوانين المتعلِّقة بالوقف في أقطار العالم الإسلامي منذ الخلافة العثمانية حتى يومنا هذا، فأصبح للوقف وزارة خاصَّة به[11].
د. راغب السرجاني
[1] مخيريق النضرى: صحابي، كان من علماء اليهود وأغنيائهم، أسلم، وأوصى بأمواله للنبي r، واستشهد بأحد سنة 3هـ. انظر ابن حجر: الإصابة 6/57.
[3] غير مُتَمَوِّل: أي غير متخذ منها مالاً أي مِلْكًا، والمراد أنه لا يَتَمَلَّك شيئًا من رقابها. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة مول 11/635.
[4] انظر: صحيح البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف (2586)، ومسلم: كتاب الوصية، باب الوقف (1632).
[5] أبو محجن توبة بن نمر بن حرمل الحضرمي، قاضي مصر، قال ابن حجر: هو أول من قبض الأحباس (الأوقاف) من أيدي أهلها وأدخلها ديوان الحكم خشية عليها من أن يتجاحدوها ويتوارثوها، توفي سنة 120هـ. انظر ابن حجر: تعجيل المنفعة ص 61.
[7] عثمان بن إبراهيم النابلسي، فخر الدين: من أمراء الدولة الأيوبية، ولاه السلطان نجم الدين أيوب النظر على الدواوين المصرية سنة 632هـ، وصنف بأمره (لمع القوانين المضية في دواوين الديار المصرية)، توفي نحو سنة 685هـ. انظر: الزركلي: الأعلام 4/202.
[8] المقريزي: المواعظ 2/295، والقلقشندي: صبح الأعشى 3/567، والنابلسي: لمع القوانين المضية في دواوين الديار المصرية ص28، والسامرائي: المؤسسات الإدارية في الدولة العباسية ص 298- 307. والمُعَدَّل من الناس: المَرْضِيُّ قولُه وحُكْمُه. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادَّة عدل 11/430
التعليقات
إرسال تعليقك