ملخص المقال
قضى الإسلام على الطوائف والعصبيات الجاهلية فلا تفرقة بين الطبقات ولا بين العبيد والأحرار
من عظمة الإسلام أنه يمزج بين العدل والمساواة، فالحق أنه لا حرية ولا مساواة بلا عدل، وبلا شريعة حاكمة للناس جميعًا على قدم المساواة، وكل شعارات تنسى العدل ووسائل فرضه وحمايته هي شعارات فارغة المضمون تخدع المظلومين! وفي الإسلام تختلط كلمة المساواة بكلمة العدل، فكأنها كلمة واحدة، أو عملة ذات وجهين، وهذا الحق لا شك فيه؛ فالعدل يفقد معناه إذا كان لأصحاب دين دون دين، أو لقومية دون قومية، أو لطبقة دون طبقة، بل يجب أن يكون مطلقًا بلا حدود، كما يقول الله I في القرآن: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].
فالمساواة في الحقوق والواجبات وأمام العدالة من الحقوق الأساسية للإنسان، ولا يجادل في هذه الحقوق إلا عدو للإنسانية.
وقد كان الإسلام أسبق من كل النظم المعاصرة، وأزكى في تقدير هذا الحق الفطري؛ إذ إن الناس في الإسلام سواسية ولا تفاضل بينهم، فكلهم لآدم وآدم من تراب، ولا فرق بين رجل وامرأة، الغني والفقير سواءٌ في القيمة الإنسانية، فلا تفاضل بين الناس في هذه الناحية إلا بالعمل الصالح والكفاءات الممتازة، وبما يقدِّمه كل فرد لربه، ولإخوانه ووطنه.
القضاء على العصبيات الجاهلية
لقد قضى الإسلام على الطوائف والعصبيات الجاهلية، فلا تفرقة بين الطبقات، ولا بين العبيد والأحرار، فكان الرسول r يُقرِّب إليه كثيرًا من العبيد ويقدمهم على بعض الصحابة الأحرار، كما كان يُرسِلهم قادةً على الجيوش التي تضم بين صفوفها خيرةَ الصحابة وأجِلاّءَهم، فلا تفرقة في الإسلام من أجل حسب ونسب، يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وهذه المساواة في النواحي الإنسانية والتشريعية.
ولم يفرِّق الإسلام بين الرجل والمرأة، بل جعلهما متساوييْن في القيمة الإنسانية؛ يقول رسول الله r في خطبة الوداع: "يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، وكلكم لآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضلٌ إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ اللهُمَّ فاشهد، فليبلغ الشاهد منكم الغائب".
ويُروى أنَّ أبا ذر الغفاري t تناقش مرة في حضرة النبي مع عبدٍ زنجيّ، فاحتدَّ أبو ذر على العبد وقال له: يابن السوداء. فغضب الرسول r وقال: "طفّ الصاع، طفّ الصاع (أي زاد الأمر عن حدِّه)، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضلٌ إلا بالتقوى أو بعمل صالح". فحزن أبو ذر ووضع خده على الأرض، وقال للعبد: "قُمْ فطأْ على خدي". فليس في الإسلام إنسان أكرم من آخر بفضل حسبه ونسبه، بل الكل سواسية، ولا تفاضل إلا بالعمل الصالح فقط.
وهذا من الناحية الإنسانية البحتة.
أمَّا أمام قانون الإسلام فالمساواة قائمة كذلك، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]. وقال أيضًا: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].
مواقف إسلامية خالدة
وينبئنا التاريخ الإسلامي أن تلك القواعد السمحة القوية حول المساواة أمام القضاء كانت منفَّذة بحذافيرها أيام الرسول r والخلفاء الراشدين؛ فيُروى أن أسامة بن زيد -وهو من أحبِّ الصحابة إلى رسول الله r- جاء إلى النبي r ليشفع في فاطمة بنت الأسود المخزوميَّة، وكان قد حُكِم عليها بحد السرقة؛ إذ إنها سرقت قَطِيفة وحليًّا، فغضب رسول الله r، وأنكر موقفه هذا، على الرغم من حبه له، ولم تشفع له منزلته من رسول الله r، وقال له r: "تشفع في حد من حدود الله؟!" وقام فخطب الناس وقال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها".
ولقد شكا يهودي عليًّا t إلى عمر بن الخطاب t في خلافة عمر، فلما مَثَلاَ بين يديه، خاطب عمرُ اليهوديَّ باسمه، ولكنه خاطب عليًّا بكنيته، فقال له: (يا أبا الحسن) حسب عادة خطابه معه، فظهرت آثار الغضب على وجه عليٍّ، فقال له عمر t: أكرهت أن يكون خَصمك يهوديًّا، وتمثل معه أمام القضاء على قدم المساواة؟! فقال علي t: "لا، ولكنني غضبت لأنك لم تسوِّ بيني وبينه، بل فضلتني عليه؛ إذ خاطبته باسمه، بينما خاطبتني بكنيتي".
ويُروى أن ابن عمرو بن العاص ضرب رجلاً من دهماء المصريين، حينما كان أبوه واليًا على مصر، فأقسم المجنيُّ عليه ليشكوه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t، فقال له: اذهب؛ فلن ينالني شيء من شكواك، فأنا ابن الأكرمين. وبينما كان الخليفة عمر بن الخطاب مع خاصته ومعهم عمرو بن العاص وابنه في موسم الحج، قَدِم هذا الرجل عليهم، وقال مخاطبًا عمر: يا أمير المؤمنين، إن هذا -وأشار إلى ابن عمرو- ضربني ظلمًا، ولما توعدته بأن أشكوه إليك، قال: "اذهب؛ فأنا ابن الأكرمين". فنظر عمر t إلى عمرو بن العاص t، وقال قولته المشهورة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!" ثم توجه إلى الشاكي وأعطاه دِرَّته، وقال له: "اضرب بها ابن الأكرمين كما ضربك".
وهكذا من الناحيتين "الإنسانية العامة" و"القضائية" تتجلَّى "المساواة" التي وضع الإسلام قواعدها بين الناس، فلا فضل إلا بالعمل الصالح في الدنيا والآخرة، وأديانهم وأحسابهم موكولة إلى الله يوم القيامة، أمَّا في هذه الدنيا فالشريعة تقوم على العدل والمساواة بين الناس جميعًا.
د. عبد الحليم عويس
التعليقات
إرسال تعليقك