ملخص المقال
أخبار القدس وأهلها وبيت المقدس وأكنافه تدمي قلب كل مؤمن، فمتى تصحو الأمة؟ وأين الأيدي المؤهلة لتسلم مفاتيح بيت المقدس؟
أخبار القدس وأهلها، وبيت المقدس وأكنافه تدمي قلب كلِّ مؤمن، وتقلقه وتثير أشجانه، وهو يقف مكتوف الأيدي، ويرى أيدي العابثين المفسدين في الأرض، من قتلة الأنبياء وأحفاد القردة والخنازير يعيثون فسادًا فيه، ويدنّسون حماه، وينفّذون مخطّطاتهم على مرأى أمة المليار وسمعها، وهي لا تحرِّك ساكنًا.
ولكنَّ العواطف وحدها لا تكفي ولا تغني؛ فالقدس مرآة حال الأمّة، قوّةً وضعفًا، تمكّنًا وحرمانًا، والمقدّسات كلّها كذلك.. بدءًا بالكعبة المشرفة، وتثنية بالمسجد النبوي الشريف، ثم المسجد الأقصى، وما حوله من الأرض المباركة.. وكذلك كل أرض تشرّفت بحكم الإسلام، وتسبيح الرُّكَّع السجود، الذين لا يحنون جباههم إلاّ لربِّ العزّة والجلال.. نلمح في ذلك سُنَّة لله تعالى ماضية، وقانونًا في خلقه وعباده، لا يحابي أحدًا، يتكرّر مشهده في التاريخ، وتتشابه فصوله وأبوابه، كلّما تكرّرت أسبابه..
ففي فترة من الرسل، وخفوت من نور التوحيد، وضياع لمعالم الحقّ، وعربدة من طغيان الجاهليّة، رزحت كعبة الحقّ التي بناها إبراهيم الخليل u، بأمره تعالى ولتوحيد الله وعبادته.. رزحت تحت وطأة الشرك والوثنيّة، وانتصب حولها ثلاثمائة وستون صنمًا، وطاف الناس بالبيت عراة بحجج شيطانيّة تافهة.
ولم تعد الكعبة إلى رحاب الحقّ والتوحيد إلاّ بالأيدي الطاهرة المتوضّئة، التي صدقت مع الله في إيمانها، وأخلصت لله في جهادها، وتحقّقت بالطاعة والاستجابة لنبيّها e، فشرّفها الله بأن كانت كتيبة الحقّ، التي كان لها شرف الفتح المبين، تحت لواء سيِّد المرسلين e.
والمسجد النبوي الشريف لا يخفى على مسلم كيف كان بناؤه من أوَّل يوم على تقوى الله، بإشراف النبيّ e ويديه الطاهرتين، ومعه تلك الثلّة من المهاجرين والأنصار، فكان مسجد التوحيد الخالص لله تعالى، ومركز دولة الإسلام الأولى، ومدرسة تلقين القرآن، والتعليم والتربية.. واستمرّت رسالته وازدهرت ما كانت دولة الحقّ قائمة، وأمّة الإسلام تحمل الراية، وتذود عن حياض العقيدة.
ومع امتداد نور الإسلام في كل اتجاه آن لبيتِ المقدس أن يئول إلى أيدي حماة الحقّ وجنده؛ لأنهم أحقّ به وأهله، فكان الفتح له في عهد الفاروق الخليفة الراشد الثاني t.. وأبى حملة مفاتيحه من رهبان النصارى وقسيسيهم أن يسلّموها لأحد إلاّ أن يتسلّمها منهم بيده t، فحضر من المدينة المنوّرة إلى بيت المقدس لهذه المهمَّة، وتسلّم مفاتيحه منهم.. وكأنّهم وقد حرموا من شرف رعايته، وقضت حكمة الله وسُنَّته أن ينتقل إلى أيدي الأمناء من حملة الرسالة الخاتمة.. قد أرادوا ألاّ يُحرموا من شرف تسليمه للخليفة الراشد يدًا بيد؛ ليذكر لهم التاريخ هذا الشرف.
وعندما رتعت الأمّة في مستنقع الفتن، وتفرّقت كلمتها، وحادت عن منهج النبوّة الراشد، وأصبح بأسها بينها، لم تخرج عن سنة الله وقدره.. فقد ضُرب بيت الله بأيدي بعض أبنائها، واعتدي على حرمات مدينة نبيِّها e، ووقع من الظلم وهتك الحرمات ما لا يخفى.. ولا يظلم ربُّك أحدًا.
وامتدّ تاريخ هذه الأمّة مدًّا وجزرًا، صعودًا وهبوطًا، قوّة وضعفًا.. وعندما تمادى الضعف والإدبار في جوانب شتّى من كيانها، سُلِّط عليها عدوُّها، فانتزع منها شرف رعاية بيت المقدس وحمايته، ليكون ذلك مؤشّرًا على ما آلت إليه أوضاعها من ضعف وتقصير، وإدبار كبير.. وكان انتزاع بيت المقدس من يدها حافزًا لها على اليقظة والنهوض، وإصلاح أوضاعها في كلّ مجال، حتّى تأهّلت من جديد، فعاد إليها بيت المقدس من أيدي الصليبيين، على يد القائد الفذ صلاح الدين.
وعملت سنّة الله في التاريخ المعاصر عملها، عندما انتكست الأمّة عن حمل راية الحقّ والدفاع عنها انتكاسًا خطيرًا، فسُلّط عليها شذّاذ الآفاق، المفسدون في الأرض بنصِّ الكتاب، فانتزعوا منها بيت المقدس، وكثيرًا من الأرض المباركة، وعاثوا في الأرض فسادًا، فاغتصبوا الأرض، ودنّسوا العرض، وسفكوا الدماء، وقتلوا الأبرياء، وهجّروا إخواننا من ديارهم، فعاشوا في المخيّمات، وعالة على الدول والمنظّمات.. فمتى تصحو الأمّة من سباتها؟! وتعرف داءها ودواءها؟! ومن أين أتيت؟! وأين الأيدي المؤهَّلة لإعادة بيت المقدس إلى أهله، وتسلُّم مفاتيحه من جديد؟!
أهي الأيدي التي تتحالف مع اليهود، وتتعاون معهم على أبناء دينها ووطنها؟! أم هي الأيدي التي تعيش تحت سلطة دايتون، وتأتمر بأمره؟! أم هي الأيدي التي تسوم شعبها سوء العذاب، ويلقى في سجونها ما لم يلقه في سجون الأعداء؟! ولا تستحيي من الله ولا من عباده أن تسلِّم المجاهدين لأعدائهم، وأن تمنع أيَّ مظهر من مظاهر المقاومة، ولو كانت مظاهر سلميَّة!!
أم هي الأمّة السادرة في غفلاتها، المُستَهلكة في شهواتها، الغارقة في لعبها ولهوها، المتفرّقة المتدابرة، المتناحرة على توافه الأمور؟!
إنّا على يقين أنّ مفاتيح بيت المقدس يتسلّمها غير هؤلاء وأولئك، فهو شرف عظيم ينتظر الأيدي الطهور، والوجوه المضمّخة بالنور، الذين يتحرّكون بهذا الدين، غيرةً على حماه وحرماته، وإنّ طلائعهم بادية بإذن الله، وإنّهم لقادمون قادمون، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون.. {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 51].
بقلم د. عبد المجيد البيانوني[1]
[1] المشرف على شبكة الميثاق التربوية.
التعليقات
إرسال تعليقك