الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
مسجد بيبي خانونم أو بيبي هانم وهو الجامع الكبير في سمرقند من أبرز العمائر الإسلامية في أوزبكستان فما قصة بنائه وأبرز ملامحه المعماريية؟
تقف العمارة بين أهم الفنون التي شهدها العالم الإسلامي، وأحد أبرز المجالات التي أبدع فيها المسلمون على مر العصور، وتعتبر مدينة سمرقند العاصمة التاريخية لأوزبكستان إحدى حواضر الإسلام العريقة بعمارتها الإسلامية المتميزة، وبطابعها الخاص، وقد أطلق عليها الرحالة العرب اسم "الياقوتة" الراقدة على ضفاف نهر زرافشان. ومن أبرز العمائر الإسلامية في سمرقند، مسجدها الجامع أو مسجد "بيبي خانونم" "بيبي هانم" أو "مسجد الجامع الكبير في سمرقند".
القيمة التاريخية لمسجد بيبي خانوم
يعتبر مسجد "بيبي هانم" القوام الإنشائي الواضح من المعالم الإسلامية الظاهرة للمشاهد بلونه الجذاب في مدينة سمرقند الأوزبكستانية في آسيا الوسطى، الذي تم إنشاؤه عند تخوم القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين / التاسع الهجري، وهو يشغل أهمية كبيرة ومؤثرة في مجمل الفعاليات الأساسية، التي وسمت المشهد المعماري لمدينة سمرقند، تلك المدينة التي أراد حاكمها وأميرها في القرون الوسطى تيمور لنك أو تيمور الأعرج أن تكون مدينته من أجمل مدن العالم، وأكثرها ثراء وشهرة، تعكس مهام ممارسة بناء وتشييد المسجد الجامع في وسط العاصمة، وبمقاسات ضخمة تعكس تقليدا إسلاميا، وبات أمرا مألوفا وشائعا في فعاليات التمدن الإسلامي، وفي قرارات بناء المدن آنذاك.
فقد ظل هذا الجامع مفردة في النسيج العمراني التي تمثل النواة الرئيسية في مؤشر معالم وخصوصية هذا النسيج ومدللة بمقياسها البنائي المنتخب على سعة أطراف تلك الحاضرة بتعدد سكانها، وهكذا كان حال تلك الممارسة البديعة لجهة ممارسة إضفاء الطابع الإسلامي على المدن المأهولة التي تم فتحها من قبل المسلمين الذين قاموا بتمصيرها وبنائها في الأراضي المحررة التي دخلت ديار الإسلام هناك برغبة قوية.
تاريخ بناء المسجد
يعد مسجد بيبي خانوم أحد أشهر معالم سمرقند في أوزبكستان ويلقب بـ "جوهرة سمرقند"، وتعود فترة تأسيس هذا الجامع الكبير في سمرقند الإسلامية الى عام 802هـ = 1399م وتم تشييده بأمر مباشر من الأمير تيمور لنك بعد أن عاد منتصرا من إحدى غزواته في الهند، وحاملا في الوقت نفسه غنائم تلك الحملة وأسراها الذين قدر لبعضهم أن يشاركوا في بناء وتزيين هذا الصرح المعماري الإسلامي. وقد تابع الأمير بنفسه عملية عمران المسجد الجامع بشكل دوري ومستمر، مكرما لجهود معمارية وفنية مستخدما مختلف أنواع المناشدة والتشجيع من أجل أن تأتي العمارة الإسلامية بأحسن صورة وأدق زخرفة وأوسع مقياسا وأكثر استيعابا.
وبعد مرور خمس سنوات من العمل الدؤوب والمستمر والضخم الذي اشترك في تنفيذه عمال وفنيون مهرة من مختلف الحواضر الإسلامية اكتمل بناء الجامع، وتم افتتاحه للمصلين عام 807هـ / 1404م، ودعاه سكان مدينة سمرقند وضواحيها باسم مسجد "بيبي هانم" أو "بيبي خانوم"، زوجة الأمير تيمور الأعرج الأثيرة لديه، والتي ساهمت هي بنفسها بشكل فعال في بناء وتعمير الجامع ببعض مالها وثروتها.
من هي بيبي خانوم؟
بيبي خانوم هو الاسم الذي اشتهرت به "سراي الملك خانوم" الزوجة الأثيرة لدى "تيمور لنك"، وقد منحت هذا الاسم لأحد أهم المعالم العمرانية في سمرقند حاضرة التيموريين، بل وفي كل أرجاء بلاد ما وراء النهر. ولا يعرف على وجه اليقين أصل تلك المرأة التي وصفت بالجمال الأخاذ، ولكنها غالبًا لن تخرج عن كونها تركية الأصل، كما هو حال تيمور زوجها أو مغولية من نسل "جنكيز خان" ويحملنا على ذلك الاعتقاد أن تيمور نفسه ادعى أنه من نسل القائد المغولي الشهير ليضمن ولاء الترك والمغول معًا لدولته.
وقد خلد التاريخ اسم خانوم ببناء كان مقدرًا له أن يكون الأكبر والأفخم بين مساجد الإسلام في بلاد التركستان وهو جامع "بيبي خانوم" بمدينة سمرقند. وتتضارب الروايات التاريخية حول صلة بيبي خانوم ببناء المسجد فمن قائل إن تيمور لنك وضع حجر الأساس بنفسه وتابع أعمال البناء عقب عودته من غزوة مظفرة للهند حصل خلالها على أموال طائلة رصد بعضًا منها للإنفاق على البناء، وإن سراي الملك خانوم تابعت بنفسها أعمال تشييد وزخرفة البناء في الأوقات التي كان تيمور يغادر فيها عاصمته في غزوات هنا وهناك، ومن ثم أطلق اسمها على الجامع.
الوصف المعماري للمسجد
يشغل مسجد الجامع الكبير أهمية كبيرة ومؤثرة في المشهد المعماري لمدينة سمرقند وفي المشهد المعماري الإسلامي عامة، وذلك أنه يجمع في تصميمه بين تخطيط المساجد الجامعة الأولى ذات الصحن المكشوف والظلات الأربع، وتصميم المدارس ذات الإيوانات الأربعة، ويمزج بينها جميعًا مختزلا كل طرز العمائر الدينية.
وجامع "بيبي هانم" يشغل مساحة واسعة لم يعرفها أي مبنى شيد في سمرقند من قبل، يأخذ المسجد شكلًا مستطيلًا، ويبلغ طول ضلعه 167م وعرضه 109م، إذ شكلت أطوال هذا الجامع 99 ×140 مترا مربعا تقريبا، ويعيد الحل التكويني للمسجد الصيغ التي سبقت واختيرت عناصرها سابقا في منشآت اخرى مماثلة قريبة له معماريا كأبنية المدارس والحانات هناك.
ويشتمل هذا الصرح الكبير على الصحن في وسطه، طوله 76م، وعرضه 63م، وهو عبارة عن ساحة متوسطة مكشوفة تحيط بها الأروقة من شتى الجهات. وعلى امتداد المحور الطولي للمبنى يقع المدخل الرئيسي للجامع معبرا عنه بكتلة بنائية تبرز عن حدود جداره المحيط وتحف به أبراج دائرية.
ويحيط بالصحن أربع ظلات للصلاة أكبرها ظلة القبلة، وتعتبر بمثابة حرم أو بيت صلاة صيفي، وبوسط كل ظلة -عدا الظلة الخلفية التالية للمدخل مباشرة- إيوان مغطى بقبة حاكى به المعماري المدارس ذات الإيوانات، وإن استخدم القباب في تغطية تلك الإيوانات عوضًا عن الأقبية الطولية المعروفة في إيران والعراق ومصر. ويمكن النظر إلى تلك الإيوانات باعتبارها مساجد "شتوية" مغلقة نسبيًا لتلائم أجواء آسيا الوسطى المعروفة بمناخها القاري المتطرف، حيث تتجمد الأنهار في فصل الشتاء الشديد البرودة. وهكذا نجد أن تصميم الجامع بقدر ما استوعب مهندسه أنماط الجوامع والمساجد المعروفة آنذاك، بقدر ما راعى بعبقرية الظروف المناخية لسمرقند فجعل جزءًا صيفيًا وأدمج معه قاعات شتوية فسيحة أيضًا.
ولتلك الكتلة المعمارية مدخل رئيسي يقع في الضلع الشرقي وهو من العلامات المميزة لعمارة المسجد والتي انتقلت لمساجد آسيا الوسطى فيما بعد. ويصل ارتفاع المدخل إلى 41 مترًا، وهو عبارة عن فتحة معقودة بعقد فارسي مدبب يرتكز على أعمدة مدمجة، وقد كسي ببلاطات من الخزف المزجج بألوان متعددة تحتوي على زخارف هندسية وكتابات منفذة بخط النسخ مع تكرار للفظ الجلالة "الله" بالخط الكوفي المربع، وثمة شريط كتابي يدور حول العقد به بعض آيات من سورة الجمعة وحديث شريف عن فضل يوم الجمعة.
وثمة أربع منائر (منارات) دائرية عالية ورشيقة، تقع في أركان الجامع الأربعة، ويشكل حرم الجامع من أروقة عميقة تغطي فضاء واسعا، حيث يتلاءم الفضاء مع خصوصية المكان كونه الفضاء الرئيسي لأداء الصلاة.
وتعتبر جميع الأروقة سواء في الحرم أم المجنبتين أم في المؤخرة، تتألف من أعمدة مرمرية تسندها قباب صغيرة تكون سقف الجامع في كثير من تخطيطات المساجد الجامعة، ويتم الانتقال من الصحن إلى الحرم عبر مداخل واسعة تخترق الجدار الفاصل بينهما، أي بين مبنى الحرم والصحن.
وفي حال هذا الجامع يتم الانتقال بين القضاءين عبر إيوان لبوابة عالية وضخمة، تماثل بتشكيلاتها الهندسية عناصر المدخل الرئيسي للمسجد، من حيث ضخامة الكتلة البنائية وحضور العقد الكبير المحاط بأبراج مضلعة وكذلك في تشابه طبيعة ونوعية التزيينات المستخدمة في كلتا البوابتين.
ويقود المدخل إلى قاعة رحبة داخل الحرم خالية تماما من الأعمدة التي عادة ما تزرع أحياز بواسطتها أحياز أقسام الحرم الأخرى. وهذه القاعة ذات شكل هندسي منتظم تسند جدرانها الضخمة قبة شاهقة الارتفاع ليصل علوها في الخارج إلى 44 مترا. وبهذا الارتفاع فإن عنصر قبة مسجد "بيبي هانم" يلعب دورا مهما أساسيا في إثراء خط سماء مدينة سمرقند الجميلة وفضائها الرحب، منذ تشييد الجامع حتى هذا الوقت، رغم تصدع وانهيار أجزاء كبيرة من قبة الجامع في الوقت الحالي.
وتعتبر قبة المسجد الهائلة من أكبر وأجمل القباب بلون بلاطاتها الخزفية الزرقاء، التي تحاكي زرقة السماء، وهي من طراز القباب السمرقندية ذات الطبلة أو منطقة الانتقال الطويلة، حتى تبدو من البعد أشبه ببيضة الدجاج، ولكن هذه القبة الرائعة تعرضت للدمار الجزئي عقب الزلزال الذي ضرب سمرقند في عام 1897م. وإلى جانب قبة الحرم الضخمة ثمة قبتان أخريان واقعتان على امتداد المحور العرضي للمسجد، فإن فضاء مجنبتي المسجد يشكل كل منهما هيئة بنائية تكرر عناصر القبة الرئيسية الموجودة في فضاء الحرم، ولكن بمقياس أصغر.
وعلى العموم فإن المخطط المعماري لجميع القباب هو مخطط متماثل ومتشابه، فالحجوم المكعبة الرحبة تسند حجوما مكعبة أخرى أقل منها في الضخامة، وهذا ينتهي بإسطبل أسطواني (حوش) يحمل قبة ذات شكل نصف دائري من الخارج.
الجدير بالذكر أن سقف جامع "بيبي هانم" من الداخل هو أوطأ ارتفاعا من مقاس القبة في الخارج. أي هناك سقف ثانوي يفصل بين سقف ارتفاع القبة الأصلي عن سقف فضاءاتها الداخلي. وهذه المعالجة نراها شائعة جدا ليس فقط في مباني سمرقند المهمة.
وتقف في المسجد مئذنتان أسطوانيتان مكسيتان ببلاطات خزفية، تزدان بزخارف هندسية تتخللها كتابات مكررة بالخط الكوفي المربع لعبارة "محمد رسول الله"، وبكل مئذنة فتحة باب معقودة تؤدي إلى درجات سلم يصعد إلى شرفة الأذان. وهناك أربع مآذن بواقع مئذنة ذات بدن مربع الأضلاع في كل ركن من أركان الجدران الخارجية للجامع، وهي تزدان جميعًا ببلاطات من الخزف الملون.
ويقول الدكتور خالد سلطاني في بحثه عن مسجد سمرقند الجامع: إن وحدات المجمع المعماري لمسجد بيبي هانم مبنية على اقترانات متداخلة بين الأشكال المعمارية والاستخدامات اللونية، فثمة وحدة بنائية، نجدها مكررة في جميع العناصر التصميمية للمسجد، وهذه الوحدة تعتمد على توظيف منظومة المقياس التناسبي والتي بإمكانها أن تسهم في تضخيم الأبعاد بصورة واضحة، كما أن حضور الاستخدامات الواسعة للون والتلوين في عمارة مسجد سمرقند الجامع، يظل يمثل أمرًا غاية في الأهمية، فالأثر اللوني الناجم عن توظيفات الرقش "الأرابسك" والذي يغطي سطوح جميع عناصر المبنى بدءا من تلوينات الجدران المحيطة وحتى مسطحات القباب التي كسيت باللون الأزرق الفيروزي، تجعل من مبنى المسجد ذاته قطعة فنية فريدة من نوعها".
أما ظلات الصلاة فجميعها من أروقة تفصل فيما بينها بوائك من أعمدة رخامية تحمل عقودًا مدببة، بينما غطيت الأروقة كلها بقباب صغيرة، وبوسط كل من ظلة القبلة والظلتين الجانبيتين فتحة معقودة تؤدي إلى إيوان أو قاعة صلاة شتوية مغطاة بقبة ضخمة في جانب القبلة تكاد تماثل القبة التي تغطي المدخل، أما القبتان في الجانبين فهما متماثلتان وإن كانتا أقل حجمًا من قبة المدخل وقبة ظلة القبلة.
وإذا ما نظرنا لبناء الجامع من أعلى فثمة قبتان ضخمتان بوسط الضلع الشرقي "المدخل" والضلع الغربي "القبلة"، ويردد صدى إيقاعهما قبتان أصغر بالضلعين الشمالي والجنوبي، ثم قباب صغيرة تتناثر بينها جميعًا وهو أمر ينم عن عبقرية مهندس البناء. ويتميز إيوان ظلة القبلة باتساعه الكبير وقبته الزرقاء الرائعة التي تحوي برقبتها كتابات منفذة ببلاطات القاشاني تضم آيات من القرآن الكريم تشير إلى القبلة، وبهذا الإيوان المحراب الكبير، وعلى جانبي الإيوان في الجهة المطلة على الصحن مئذنتان مضلعتان وكأنهما تقابلان مئذنتي المدخل.
ويظهر أن مواد الزخارف في جامع بيبي خانوم كانت متعددة ومتنوعة، فقد استخدم الطوب المزجج باللون الأزرق الفيروزي والداكن، وكذا البلاطات الخزفية والرخام بل والفسيفساء الرخامية والزجاجية.
كما تنوعت أيضًا الزخارف التي ازدانت بها القباب والجدران، فاستخدمت الزخارف الهندسية بأنواعها واستخدم خط النسخ على نطاق واسع في تنفيذ الكتابات التذكارية وآيات القرآن الكريم، وإن لم يخل الأمر من اعتماد ملحوظ على الخط الكوفي المربع المناسب لزخرفة العمائر. ووضع أولغ بك -حفيد تيمور لنك وحاكم سمرقند فيما بعد- دعامة ضخمة من المرمر الأبيض، يقال إنها كانت تستخدم لحمل المصحف أثناء التلاوة، وقد نقلت في عام 1875م إلى وسط صحن الجامع.
نتائج الإهمال
والحقيقة أن البناء الضخم والفخم للجامع تعرض للتفكك بصورة مرعبة، لا تتوافق مع ما أنفق عليه، وبات خربًا بعد سنوات قلائل من افتتاحه للصلاة، ورغم أن العمل في بنيانه استغرق نحو خمس سنوات (802 - 807هـ)، فإن الدراسات الأثرية تؤكد أن العجلة والسرعة في البناء هي التي أدت لتشعث الجدران والقباب.
فقد طال الإهمال جـدران هـذا الجامع، فتهدمت القباب وأجـزاء من الجـدران وفقـدت بلاطاتها الخزفية الرائعة، ورغم كل جهود ترميم البناء فإنه لم يستعد بعد رونقه الذي كان عليه وقت افتتاحه للصلاة في عام 807هـ / 1404م.
___________________
المراجع:
- دكتور خالد سلطاني: عمارة مسجد الجامع الكبير في سمرقند، موقع إيلاف.
- أحمد الصاوي: مسجد بيبي خانوم .. قُبلة على خد سمرقند، موقع جريدة الاتحاد.
- غيث خوري: مسجد بيبي خانوم .. جوهرة سمرقند، موقع الخليج نت.
التعليقات
إرسال تعليقك