الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
طهارة الماء في الفقه الإسلامي، مقال للدكتور راغب السرجاني يتحدث فيه عن اهتمام الفقه الإسلامي بالماء وأنواعه وشروط طهارته وأهميته للمسلم
لقد امتنَّ الله سبحانه وتعالى على الأنسان بنعمة طهورية الماء، وقد ارتبطت حياة المسلم كلها بالماء، ليس فقط باعتباره إنسانًا من الكائنات الحية التي لا يمكنها الاستغناء عن الماء، بل باعتباره مسلمًا أيضًا؛ ففي شريعة الإسلام فُرِضَتْ عليه عبادات وواجبات كان أهمها وأولها فريضة الصلاة؛ وهي الفريضة التي وجب عليه أن يتطهَّر لها من النجاسات والأقذار، فقد أجمعت الأمة على أن الطهارة شرط في صحَّة الصلاة[1]. قال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وقال عز وجل: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11].
من هنا كان اهتمام الفقه الإسلامي بالماء وأنواعه وشروط طهارته، ومتى يخرج من الطهارة إلى النجاسة، وكيف تُزال النجاسة ويُطهَّر الماءُ، بل إننا نجد من آثارهم قسم للماء "الطاهر غير المُطَهِّر"، ونجد كذلك فروقًا اصطلاحية: فليس (الماء الطاهر) هو (الماء الطهور)، كما نجد كثيرًا من التفاصيل والدقائق الأخرى الموجودة في كتب الفقه، أو بالأحرى موجودة في أوَّل كلِّ كتاب فقه.
هذه الدرجة من العناية بطهارة الماء هي مرحلة أولى في موضوع استثمار الماء في المنهج الإسلامي؛ إذ بدايةُ كلِّ استثمارٍ أو تنميةٍ لموارد الماء أن يُحَدِّد بدقَّة وبعناية الفوارق بين بقائها على طبيعتها ونفعها، وبين خروجها عن حدِّ الطبيعة إلى حدِّ الفساد أو التلوث، كما أنَّ تلك العناية بالماء هي مرحلة وسيطة بين جانبي استثمار الماء والمحافظة عليه من التلوث؛ إذ خروج الماء عن طهوريته إلى نجاسته يضع المسلم في حرج، ويُصيبه بمشقَّة وعنت بما يجعله حريصًا على بقاء الماء على أصله الطاهر المطهر.
وقد قسم الفقهاء الماء إلى أقسام:
أولًا: الماء المُطْلَق:
حكمه أنه "طهور"؛ أي: أنه طاهرٌ في نفسه مُطَهِّرٌ لغيره؛ وهو يشمل ماء البحار والأنهار وماء المطر والثلج والبرد، والماء الراكد الذي لم يُلَوِّثْهُ شيء مما ينفكُّ عن الماء كورق الشجر، أو الطحالب، أو الكائنات المائية، وهكذا. قال الشوكاني[2]: "كون الماء طاهرًا مطهِّرًا ولا خلاف في ذلك، وقد نطق بذلك الكتاب والسُّنَّة، وكما دلَّ الدليل على كونه طاهرًا مطهِّرًا وقام على ذلك الإجماع كذلك يدلُّ على ذلك الأصل والظاهر والبراءة؛ فإنَّ أصل عنصر الماء طاهرٌ مطهِّر بلا نزاع، وكذلك الظهور يُفِيد ذلك، والبراءة الأصلية عن مخالطة النجاسة له مستصحبة"[3].
ثانيًا: الماء الذي خالطته النجاسة:
الماء الذي خالطته نجاسة له حالتان؛ الأولى أن تُغَيِّر النجاسة لون أو طعم أو رائحة الماء، فحينئذ اتفق العلماء على أنَّه غير طهور؛ أي غير طاهر وغير مُطَهِّر، والحالة الأخرى هي ألا تُغَيِّر النجاسة لونه أو طعمه أو ريحه. إذًا فالقاعدة الرئيسة لمناقشة موضوع طهارة الماء في الفقه الإسلامي، هي أنه لا يصلح استعمال الماء الذي خالطته النجاسة إلى الحدِّ الذي تغيَّر فيه أحد أوصافه: اللون أو الطعم أو الرائحة. قال الشوكاني: "قد وقع الإجماع على مضمونها[4] كما نقله ابن المنذر[5] وابن الملقن[6] في البدر المنير والمهدي في البحر، فمَنْ كان يقول بحجيَّة الإجماع كان الدليل عنده -على ما أفادته تلك الزيادة- هو الإجماع، ومَنْ كان لا يقول بحجيَّة الإجماع كان هذا الإجماع مفيدًا لصحة تلك الزيادة؛ لكونها قد صارت مما أُجْمِعَ على معناه وتلقَّى القبول؛ فالاستدلال بها لا بالإجماع"[7].
ثالثًا: الماء المستعمل:
في الفقه الإسلامي مبحث كبير حول الماء المستعمَل، هل يجوز التطهُّر به أو لا يجوز؟ والحقيقة أنّ مجرَّد وجود مثل هذا المبحث في تراثنا الفقهي يُعَدُّ علامة فارقة في مسيرة التطوُّر الإنساني، وإنَّ التنبُّه لمثل هذه الدقائق والتفاصيل يُثبت تلك العناية غير المسبوقة في تاريخ البشرية بأمر الطهارة والتلوث، ولقد تعدَّدت الاجتهادات في تفاصيل حكم (الماء المستعمل) على النحو الآتي:
عند الأحناف:
يرى الأحناف أنَّ الماء المستعمل هو الماء الذي انفصل عن أعضاء المتوضئ أو المغتسِل، وهم يُجيزون استعماله في إزالة النجاسات لا في التوضؤ والاغتسال مرَّةً أخرى؛ أي أنَّ "الماء المستعمل عند الحنفيَّة ليس بطهور لِحَدَث بل لخبث على الراجح المعتمد"[8].
عند المالكية:
يرى المالكية أنَّ الماء المستعمل هو الماء الذي انفصل عن جسد المتوضئ أو المغتسل، ويُعبر عنه بقولهم: "ما استُعمل في رفع حَدَث". وهم في هذا كالأحناف غير أنهم يُضيفون إليه الماء الذي اسْتُعْمِل في تطهير النجاسات، ويُعبَّر عنه بقولهم: "اسْتُعْمِلَ في إزالة حكم خبث". وحكمه عندهم أنه ماء طاهر مُطَهِّر، ولكن كرهوا أن يُسْتَعْمَل في الغُسْل والوضوء مرَّة أخرى، خاصة إذا وُجد ماء غيره وكان قليلًا، وأجازوا أن يُسْتَخْدَم في إزالة النجاسات[9]. ويُفَسِّر مؤلِّفو الموسوعة الفقهية الكويتيَّة هذه الكراهة بأنه: "مختلف في طهوريته"[10]، بينما ذكر د. وهبة الزحيلي أنَّ علَّة الكراهة: "أن النفوس تعافه"[11].
عند الشافعية:
يرى الشافعية أنَّ الماء المستعمل هو الذي انفصل عن جسد المتوضئ أو المغتسل، بشرط أن يكون الوضوء أو الغُسل مفروضًا، بمعنى أنه لو كان يتوضَّأ على وضوء قديم، أو يغتسل وهو طاهر لا يجب عليه الغُسل، فإنَّ الماء المنفصل منه حينئذ طهور (طاهر ومُطَهِّر)، ولا يُعتبر عندهم من الماء المستعمَل، وهم يرون أنَّ الماء المستعمل إذا كان قليلًا (لا يبلغ قُلَّتَيْن) فهو ماء طاهر غير مُطَهِّر؛ أي: لا يجوز التطهُّر به واستعماله في وضوء أو غسل؛ بينما إذا كان الماء المستعمَل كثيرًا، فهو طهور يجوز التطهُّر به.
هم كالأحناف والمالكية في التفريق بين الماء الذي استُعْمِل في طهارة الحدث، والذي استُعْمِل في طهارة النجس، وفي عبارةٍ جامعةٍ موجزة يقول الشيرازي: "الماء المستعمل ضربان: مستعمل في طهارة الحدث، ومستعمل في طهارة النجس. فأمَّا المستعمل في طهارة الحدث فيُنظر فيه: فإن استُعْمِل في رفع حدثٍ فهو طاهر؛ لأنه ماءٌ طاهرٌ لاقى محلاًّ طاهرًا، فكان طاهرًا، كما لو غُسِلَ به ثوبٌ طاهر". ثم قال: "وأمَّا المستعمل في النجس فيُنظر فيه: فإن انفصل من المحلِّ وتغيَّر فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ"[12]. وإن كان غير متغيِّر ففيه ثلاثة أوجه"[13]. ونَقَل أقوالًا تفصيليَّة، خلاصتها أنَّ الماء الذي اتفق الشافعية على طهوريته هو الذي استُعْمِلَ في وضوء أو غُسْل غير واجب، وأمَّا الذي استُعْمِلَ في وضوء أو غُسْل واجب، أو استُعْمِل في إزالة النجاسة فاشترطوا ألاَّ يتغيَّر لون الماء أو طعمه أو ريحه؛ لكي يكون طاهرًا، ولكنه ليس طهورًا، فحكم المستَعْمَل -عند الشافعية- أنه طاهر غير طهور، فلا يُتَوَضَّأُ أو يُغْتَسل به، ولا تُزال النجاسة به.
عند الحنابلة:
ظاهر المذهب أنَّ الماء المستعمل سواءٌ كان في رفع حدث أو إزالة نجس ولم يتغيَّر أحدُ أوصافه (لونه أو طعمه أو ريحه) هو ماء طاهر، ولكنه غير مُطَهِّر؛ أي لا يجوز استخدامه في وضوء أو غُسْل[14]، وهم في هذا كالشافعية. وفرَّق بعضهم بين الماء المستعمَل في طهور واجب كالوضوء الواجب والغُسْل الواجب، وبين الماء المستعمَل في طهور مستحبٍّ كتجديد الوضوء أو غُسل الجمعة، فقالوا بطهوريَّة الماء المستعمل في طهور مستحب.
إذًا فالحدُّ الأعلى هو عدم جواز التطهُّر بالماء المستعمل، كما قال الحنابلة والشافعية، والحدُّ الأدنى هو الماء المستعمَل الذي لم يتغيَّر لونه ولا طعمه ولا ريحه؛ فإنه يُكْرَه استخدامه إذا وُجِدَ غيره وكان قليلاً في التطهُّر، وهذا قول المالكية.
وجدير بالنظر في هذا الموضوع الفقهي ذلك الحسُّ الدقيق الذي دعا إلى الانتباه والتفريق بين الماء المستعمَل لإزالة النجاسة، وبين الماء المستعمَل للتطهُّر، بل إلى الحدِّ الذي يُفَرِّق فيه بين ماء مستعمَل في طهارة واجبة، وماء مستعمَل في طهارة زائدة، فيُفضَّل الثاني على الأوَّل، ثم يُفضَّل كليهما على الذي استُعْمِلَ لإزالة النجاسة.
وهذه العناية الفائقة والمفصَّلة قامت على نصوصٍ قرآنيَّةٍ ونبويَّةٍ ظهرت قبل أن يعرف الإنسان تأثير الملوِّثات على حياته، وقبل أن يكتشف أنَّ لها ضررًا، وهي نصوصٌ قيلت في بيئةٍ صحراوية تعزُّ فيها المياه وتنعدم فيها الأنهار، بخلاف ما كانت عليه أوربا القرون الوسطى؛ حيث كانت تعيش على الأنهار، ويفتخر بعض رؤسائها الدينيين بأنهم لم يقترفوا "إثم غسل الرجلين"[15].
رابعًا: الماء الذي خالطه طاهر:
أي إلى الحدِّ الذي يتغيَّر فيه أحد أوصاف الماء (لونه أو طعمه أو رائحته)، فإن عدم تغيُّر أحد هذه الأوصاف في الماء تجعله طهورًا، والأشياء الطاهرة التي يمكن أن تخالط الماء مثل الصابون والزعفران واللبن والخل ونحو هذا. فالمالكية والشافعية والراجح عند الحنابلة أنه لا يجوز التطهُّر به[16]، وأمَّا الأحناف وبعض الحنابلة فقالوا: يجوز التطهُّر به[17]. واشترط الأحناف مجرَّد التغيُّر في أوصاف الماء لا أن يغلب عليه أوصاف المختلط، وهذا هو المفهوم -أيضًا- من كلام مَنْ أجازوا من الحنابلة.
إننا نُبصر في هذا القدر من العناية بأمر الماء في الفقه الإسلامي -إلى حدِّ أنَّ جمهور العلماء لا يُجيزون التطهُّر بالماء الذي اختلط بموادَّ طاهرة- نُبصر ذلك الاستيقاظ المبكِّر، الذي يسبق تاريخ البشرية ومعارفها في هذا الباب، ويضع الأساس الأوَّل في المحافظة على الماء واستثماره بذلك التحديد المفصَّل، الذي يُنَبِّهَ المسلم إلى الحدِّ الفاصل بين أنواع الماء، وسُبُل تطهيره مما أصابه مما يخرج به عن طهوريته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] النووي: المنهاج بشرح صحيح مسلم بن الحجاج 3/102.
[2] الشوكاني: هو محمد بن علي بن محمد بن عبد الله (1173-1250هـ = 1760- 1834م): فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، ولي قضاء صنعاء، ومات حاكمًا بها، تفقه على مذهب الإمام زيد، وعقيدته عقيدة أهل السنة والجماعة. من مؤلفاته: فتح القدير، نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار، التحف بمذهب السلف. انظر: الزركلي: الأعلام 6/298.
[3] الدراري المضية شرح الدرر البهية 1/17.
[4] يقصد الزيادة الضعيفة في الحديث الصحيح: "إن الماء طهور"، وهي: "إلا إن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه".
[5] ابن المنذر: محمد بن إبراهيم النيسابوري (242 - 319هـ): فقيه مجتهد، من الحفّاظ، كان شيخ الحرم بمكة، قال الذهبي: ابن المنذر صاحب الكتب التي لم يُصنف مثلها، منها المبسوط في الفقه، والأوسط في السنن. انظر: الذهبي: تذكرة الحفاظ 3/782، والزركلي: الأعلام 5/294، والذهبي: سير أعلام النبلاء 14/490.
[6] ابن الملقن: هو سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الانصاري (723 - 804 هـ = 1323 - 1401 م) من أكابر العلماء بالحديث والفقه وتاريخ الرجال، أصله من وادي آش (بالاندلس)، ومولده ووفاته في القاهرة، له نحو ثلاثمائة مصنف، منها (إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال) و(الاعلام بفوائد عمدة الاحكام). انظر: الزركلي: الأعلام 5/57.
[7] الدراري المضية شرح الدرر البهية 1/19.
[8] الكاساني: بدائع الصنائع 1/66، 67، وابن عابدين: حاشية ابن عابدين 1/134.
[9] الدسوقي: حاشية الدسوقي 1/41، 42، والدردير: الشرح الصغير 1/56، وحاشية العدوي على الخرشي 1/74-76.
[10] الموسوعة الفقهية الكويتية 39/360.
[11] د. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته 1/123.
[12] رواه ابن ماجه (521) عن أبي أمامة الباهلي، والطبراني: المعجم الكبير (7503).
[13] المهذب 1/8.
[14] ابن قدامة المقدسي: المغني 1/18-21.
[15] ليكي: تاريخ أخلاق أوربا صiv، نقلاً عن أبي الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ ص151.
[16] الكشناوي: أسهل المدارك 1/38، والنووي: المجموع 1/104، وابن قدامة المقدسي: المغني 1/12، والمرداوي: الإنصاف 1/32.
[17] المرغيناني: الهداية 1/8، وابن قدامة المقدسي: المغني 1/12، ومجد الدين ابن تيمية (الجد): المحرر 1/2.
التعليقات
إرسال تعليقك