الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
الحضارات المنغلقة هي الحضارات هي التي تعيش في عزلةٍ عن العالم الخارجي، فلا هي تتعارف مع الحضارات المعاصرة، ولا هي تتصادم معها، إنَّما تنكفئ على نفسها
"الحضارات المنغلقة"..
هي الحضارات التي تعيش في عزلةٍ عن العالم الخارجي، فلا هي تتعارف مع الحضارات المعاصرة، ولا هي تتصادم معها، إنَّما تنكفئ على نفسها فقط.
وهذه يُمكن أن نُصنِّفها إلى نوعين:
أمَّا النوع الأوَّل فهو "الحضارات المنغلقة دون اختيار"؛ وهي الحضارات التي أدَّت ظروف معيَّنة إلى عزلها عن العالم.. وقد تكون هذه الظروف جغرافيَّة؛ مثل وجودها في مكانٍ ناءٍ جدًّا، مثل الهنود الحمر قديمًا، أو مثل الإسكيمو، أو مثل القبائل الإفريقية التي عزلها سوء المواصلات والطرق، وقلَّة الإمكانيَّات.
وهذه الحضارات "لا تستطيع" أن تتعارف على غيرها، وإن كانت من الممكن أن تتميَّز بروحٍ تعارفيَّةٍ لكنَّ الظروف الجغرافيَّة منعتها.
وقد تكون الظروف المانعة لغويَّة.. وذلك مثل الحضارة الصينية، التي شهدت تعارفًا داخليًّا جيدًا جدًّا، لكنَّها "لم تستطع" أن تتواصل مع العالم الخارجي بقوَّةٍ على مدار قرونٍ طويلة؛ لأسبابٍ كثيرةٍ يأتي في مقدِّمتها صعوبة اللُّغة الصينيَّة، فهذه شعوب إن توفَّرت لها وسائل التعارف أقدمت عليها، وبالتالي حقَّقت نجاحًا في التعاملات.
أمَّا النوع الثاني فهي "الحضارات المنغلقة اختياريًّا"! وهذه حضارات اختارت "بإرادتها" أو إرادة حكوماتها أن تنغلق على نفسها ولا تتعارف على الآخرين، وهذا الانغلاق له أسبابٌ كثيرة..
من هذه الأسباب الإحساس بعلوِّ العنصر، وأنا أعتقد أنَّه يكون هنا أعلى من الشعور الموجود عند الشعوب المتصادمة، لدرجة أنَّ هذا الشعور يدفعهم إلى ازدراء بقيَّة الشعوب، وعدم الرغبة في التعامل معهم، ولا التزاوج منهم.
ومن هذه الأسباب -أيضًا- وجود نوعٍ من الشكِّ والريبة في الآخرين، وبالتالي يفقد هذا الشعب الانغلاقي الثقة في كلِّ الشعوب الأخرى، ويُفَضِّل التقوقع على نفسه.
وأنا أعتقد أنَّ الحالتين السابقتين هي حالاتٌ مَرَضِيَّةٌ تحتاج إلى علاج؛ لأنَّ المنطق لا يُؤَيِّدها، والخسارة من وراء هذا السلوك كبيرة..
وقد يكون الانغلاق اختيارًا حكوميًّا وليس شعبيًّا، وهنا يُجبر الدكتاتور شعبه على الانغلاق، فلا يعرف شيئًا مطلقًا عن العالم الخارجي، ليسهل على الحاكم المتسلِّط قيادة شعبه.. وهكذا كانت معظم الأنظمة الشيوعيَّة في آسيا وفي شرق أوربَّا، بل ما زال بعضها يُمارس المنهج الانغلاقي نفسه، ولعلَّنا رأينا في كأس العالم لكرة القدم سنة 2010م أنَّ حكومة كوريا الشمالية سمحت ببثٍ تليفزيونيٍّ مباشرٍ لمباراة كوريا الشماليَّة مع البرتغال، وكانت هذه -كما نقلت وسائل الإعلام[1]- المرَّة الأولى في تاريخ كوريا الشماليَّة التي تنقل فيها أمرًا على الهواء مباشرة! لأنَّ الأصل هو عدم التواصل مع الخارج!
وأخطر أنواع الانغلاق أن يكون نابعًا من عقيدةٍ تُحَرِّم التعارف مع الناس، وتمنع الاختلاط بهم، وتحضُّ على العزلة التامَّة عن البشر، وهذا خطر؛ لأنَّ الذي يُمارسه لا يشعر بأيِّ نوعٍ من الألم لبعده عن المجتمعات والبشر، بل على العكس من ذلك هو يشعر بالسعادة؛ لأنَّه يُطَبِّق بنود عقيدته كما يفهمها، ومن ثَمَّ فهذه حالة انغلاقٍ دائمة، وعلاجها عسير.. ومن أمثلة ذلك بعض المناهج الانحرافيَّة التي خرجت عن خطِّ الإسلام، الذي هو دينٌ يحضُّ أتباعه على التواصل مع الناس ودعوتهم للخير، فإذا بالفكر المنحرف يُبعد المسلمين عن واحدةٍ من أهمِّ الوظائف التي كلَّفتهم بها شريعتهم، وهي إيصال الخير للناس، وهداية البشر إلى الله، وكأنَّهم لم يعرفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ"[2].
ولعلَّ هذا الفكر قد تسرَّب إلى بعض المسلمين نتيجة تأثُّرهم ببعض الفلسفات الهندية الداعية إلى العزلة، وكذلك نتيجة التأثر ببعض المذاهب الفارسيَّة كـ المانويَّة، التي تحضُّ على هجر الحياة، والعزلة التامَّة، وعدم التعامل مع الناس، بل عدم الزواج أصلًا، وكلُّ هذا مخالف بداهة للإسلام..
ومن خلال رصدي لهذه الحضارات الانغلاقيَّة خاصَّةً التي اختارت الانغلاق بإرادتها، أقول: إنَّها في الغالب تسير نحو صدامٍ قريبٍ مع حضارةٍ أخرى، وقد لا تسعى هي للصدام، ولكنَّ الحضارات المحيطة غالبًا ما تتوجَّس خيفةً من هذه الحضارات الانغلاقيَّة، وتتوقَّع منها دومًا الشرَّ، وقد تُنْسَج حولها قصص وأساطير وأوهام، ثُمَّ قد يأتي حدثٌ بسيط لا يأبه به أحدٌ عادةً، بيد أنَّه بفعل الجهل بدواخل الحضارة الانغلاقيَّة وطبيعتها قد يكون سببًا في صدامٍ كبير، وعند التحليل واكتشاف وهم الأسباب تكون الفرصة قد فاتت للإصلاح، ويخسر الجميع!
إذًا انطلاقًا من النظريَّة نحن أمام ثلاثة أنواعٍ من الحضارات؛ فالأولى هي الحضارات التعارفية، وهذه منها ما هو متعارفٌ داخليًّا فقط، ومنها ما هو متعارفٌ على المستويين الداخلي والخارجي، وهذا النوع الأخير هو الأفضل في كلِّ الحضارات، ثُمَّ هناك نوع ثانٍ من الحضارات وهي الحضارات التصادمية، التي يُمكن أن تكون تصادميَّة داخليًّا، وهذا هو أسوأ أنواع الحضارات، أو تكون تصادميَّة خارجيًّا، وهذا سيئٌّ كذلك، ولكنَّه أقل من الذي قبله، ثُمَّ النوع الأخير من الحضارات وهي الحضارات الانغلاقيَّة، وهذه إمَّا أن تكون انغلاقيَّة دون اختيار لظروفٍ قهريَّةٍ تعرَّضت لها، أو تكون قد اختارت الانغلاق لأحد الأسباب التي ذكرناها..
وأنا أعتقد أنَّ هذا التصنيف الذي ذكرتُه سيُضيف بعدًا جديدًا مهمًّا في تعريف كلمة "الحضارة"، وفي شرح مدلولاتها، وفي تقويم الحضارات وتحديد درجة رُقِيِّها، وهذا في رأيي من أفضل النتائج لهذه النظريَّة.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
التعليقات
إرسال تعليقك