الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إن من الأساليب التي أمدتنا بها التجربة الإنسانية في سياق رحلة التعارف والتواصل بين الشعوب أسلوب التكتلات والاتحادات، وهي خطوة أقوى من الحوار ومنأهم مقتطفات المقال
الاتحاد الاوربى, الاتحاد الأوربي الوحدة وثمارها، الطريق إلى الوحدة, تأسيس الاتحاد الأوربي, ثمار الوحدة, التكتلات الدولية, التكتلات والتقارب الانساني, التكتلات الدولية والتقارب الانساني, الاتحاد الدولي, الاتحاد السوفيتي, الاتحاد الاوربي, مجلس التعاون الخليجي, الاتحاد العربي, المنظمات الدولية, الاندماج, التكتلات الاقليمية, المشترك الانساني, الدكتور راغب السرجاني, راغب السرجاني, قصة الاسلام,
الطريق إلى الوحدة:
شهد عام 1950م وضع حجر الأساس الذي قامت عليه الجماعة الأوربيَّة بعد ذلك؛ إذ دعا روبرت شومان وزير الخارجيَّة الفرنسي إلى إنشاء الجماعة الأوربيَّة للفحم والصلب، والواقع أنَّ فكرة هذا المشروع كان وراءها جان مونيه رئيس قسم التخطيط الاقتصادي في الحكومة الفرنسيَّة، وأحد مستشاري شومان؛ لذا يُعَدُّ جان مونيه الأب الروحي لعمليَّة الاندماج الأوربي[1].
وقد أدرك مونيه بعد عمله في مجال تخطيط الاقتصاد الفرنسي لمدَّة خمس سنوات أنَّه لا سبيل أمام فرنسا لتحقيق نموٍّ اقتصاديٍّ مضطرد ورفع مستويات المعيشة لمواطنيها دون أن تتجاوز إطار الدولة القوميَّة، وتُقيم تعاونًا اقتصاديًّا على مستوى جغرافي أوسع.
كان مونيه واقعيًّا ومن أنصار التدرُّج؛ فلم يتسرَّع في تبنِّي أحلام عريضة لا يُمكن تحقيقها في الواقع؛ ومن ثَمَّ كانت الفكرة هي إنشاء الجماعة الأوربيَّة للفحم والصلب، التي يُمكن التوسُّع منها إلى قطاعات أخرى بعد ذلك؛ وقد اختير الفحم والصلب على أساس أنَّهما مادَّتان أساسيِّتَان في صناعة أدوات الحرب؛ وبالتالي فإنَّ وضعهما تحت إشرافٍ مشتركٍ سيحول دون استخدامهما من إحدى الدول لمحاربة دولةٍ أخرى.
ومن ثمَّ وُقِّعت معاهدة إنشاء الجماعة الأوربيَّة للفحم والصلب في باريس عام 1951م، وبدأت بعضويَّة ألمانيا مع فرنسا ثُمَّ انضمَّت إليهما (إيطاليا، وبلجيكا، وهولندا، ولوكسمبرج)، وكانت الفكرة الأساسيَّة من عضويَّة ألمانيا مع فرنسا محاولة إيجاد آليَّة للتعاون السِّلمي المشترك، ومنع قيام حربٍ أخرى بينهما، وقد رحَّبت ألمانيا بزعامة إديناور بالفكرة؛ لأنَّها كانت تعني عودة ألمانيا للاندماج في القارَّة الأوربيَّة[2].
ونَصَّت المعاهدة على أنَّ الهدف منها هو خلق سوقٍ مشتركةٍ في الفحم والصلب، وضمان الإمدادات من هاتين السلعتين بسعرٍ أقل وجودةٍ أكبر، أمَّا عن الهيكل التنظيمي لهذه الجماعة فقد ضمَّ هيئة عليا ذات استقلاليَّة، بالإضافة إلى مجلسٍ يُعَبِّر عن مصالح الدول الأعضاء، وجمعيَّةٍ عامَّةٍ كانت أقرب إلى المجلس الاستشاري، ومحكمة للعدل.
وتزامن إنشاء الجماعة الأوربيَّة للفحم والصلب مع فكرةٍ أخرى طرحتها فرنسا؛ وهي إنشاء جماعة الدفاع الأوربِّي، وذلك مع تزايد التوتر في العلاقات بين الشرق والغرب، واندلاع الحرب الكوريَّة، والضغط الأميركي على الدول الأوربيَّة للقبول بفكرة إنشاء جيشٍ ألمانيٍّ للإسهام في الدفاع عن المعسكر الغربي، ولكن هذه الفكرة لم تكتمل نظرًا إلى المعارضة الشديدة التي لاقتها خاصَّةً من الجانب الفرنسي؛ لذا تقرَّر الاكتفاء -في هذه المرحلة- بالتعاون الاقتصادي[3].
ثُمَّ مرَّت سنوات على توقيع معاهدة باريس، واستقرَّت مشاعر الثقة بين أطرافها، ولمسوا الفائدة الاقتصاديَّة المشتركة التي جلبها لهم الاتفاق؛ لذا كان من الطبيعي التفكير في الخطوة التي تليها، وتمثَّلت في توقيع معاهدة روما في عام 1957م، التي تقضي بإنشاء المجموعة الاقتصاديَّة الأوربيَّة، والمجموعة الأوربيَّة للطاقة النوويَّة.
وتأسَّست أوَّل وحدةٍ جمركيَّةٍ أوربيَّة عُرفت باسم المؤسَّسة الاقتصاديَّة الأوربيَّة (European Economic Community)، وسُمِّيت في بريطانيا -بشكلٍ غير رسمي- "السوق المشتركة"[4].
وتُعَدُّ هذه المعاهدة بمثابة التدشين الحقيقي للاتحاد الأوربي الذي نراه في أيَّامنا الحاليَّة؛ حيث تعدَّت بنودها الجانب الاقتصادي، وبدأت تُلامس الجوانب الأخرى للدول الأوربيَّة؛ الجوانب التي تُلامس فئات الشعب، وتجعله يشعر مع مرور الأيام بأهميَّة التعايش والعيش المشترك مع جيرانه في القارَّة الأوربيَّة، ونضرب لذلك مثلًا بما نصَّت عليه المادة الثالثة من المعاهدة، التي تشرح أهداف المؤسَّسة الاقتصاديَّة الأوربيَّة (EEC) وتتلخَّص فيما يلي:
1- إزالة الرسوم الجمركيَّة بين الدول الأعضاء، وكافَّة الحواجز الكمِّيَّة بالنسبة إلى تصدير واستيراد السلع.
2- الاتفاق على سياسة تجاريَّة مشتركة تجاه الأطراف الأخرى.
3- إقامة سياسة زراعيَّة مشتركة.
4- تبنِّي سياسة مشتركة في مجال المواصلات.
5- إنشاء صندوق اجتماعي أوربِّي لتحسين فرص توظيف العمالة، والإسهام في رفع مستويات المعيشة في كافَّة الدول الأعضاء[5].
وعلى الرغم من اختلاف الأهداف بين الدول الستِّ المُؤَسِّسَة للجماعة الاقتصادية الأوربية فإنَّهم سارعوا بعقد الاتفاقيَّة المشتركة بينهم؛ لتأكُّدهم من النفع والمصلحة العائدة عليهم جميعًا، وهذا ما قد حدث؛ فألمانيا كانت في حاجةٍ إلى الأسواق الأوربيَّة لتصدير فائض منتجاتها، وقد أتاح انضمامها إلى المجموعة ضمان دخول منتجاتها إلى الدول الأعضاء دون أدنى تمييز ضدَّها؛ إذ أكَّدت عضويَّة ألمانيا للمجموعة على إعادة تأهيلها السياسي في المجتمع الأوربِّي، في حين كان الهدف الأساسي وراء انضمام فرنسا إلى المجموعة هو فتح سوقٍ أوسع لمنتجاتها الزراعيَّة في الدول الأوربيَّة، أمَّا بلجيكا فكان موقفها شبيهًا بألمانيا من حيث اعتماد اقتصادها على التصدير إلى الخارج؛ ومن ثَمَّ أتاحت لها المجموعة فرصة طيبة لتأمين تلك الأسواق، و-أيضًا- تنمية صناعات جديدة، وكذلك بالنسبة إلى إيطاليا -التي بدأت مسيرتها في التصنيع- وجدت في الجماعة الأوربيَّة فرصةً للنموِّ والتوسُّع، وفي حالة هولندا فبجانب رغبتها في دفع جهودها الصناعيَّة كان الشعب الهولندي توَّاقًا إلى إزالة العقبات أمام حريَّة الحركة بين البلدان الأوربيَّة المختلفة، بينما كانت لوكسمبرج -العضو السادس في المجموعة- تهدف من وراء انضمامها تأمين مصالحها السياسيَّة والاقتصاديَّة؛ فبسبب موقعها الجغرافي كانت دائمًا واقعةً تحت ضغط الصراعات بين جيرانها الأقوياء[6].
وفي الوقت نفسه الذي كانت فيه العلاقات تزداد قوَّةً بين دول المجموعة الأوربيَّة، كانت هناك دولٌ أوربيَّةٌ أخرى تُراقب الأمر عن كثب، ولكن دون الدخول في إطار المجموعة؛ ونذكر منها بريطانيا التي ظَلَّت خارج إطار الجماعة الاقتصاديَّة الأوربيَّة؛ لتخوُّفها من المساس بسيادتها كدولة، وفضلَّت إقامة رابطة تجارة أوربيَّة حُرَّة عام 1959م؛ بحيث تُزال الحواجز الجمركيَّة بين الدول الأعضاء مع احتفاظ كلِّ دولةٍ بسيادتها، وضَمَّت الرابطة كلًّا من بريطانيا، والنرويج، والسويد، والدنمارك، والنمسا، والبرتغال، وأيسلندا، وسويسرا، وفنلندا.
ولكن بمرور الوقت، ونتيجةً للنجاحات التي بدأت الجماعة الاقتصاديَّة الأوربيَّة في تحقيقها- أعادت بريطانيا النظر في موقفها تجاه الجماعة الاقتصاديَّة الأوربيَّة، وقرَّرت الانضمام لها للاستفادة من الأسواق الواسعة في إطار الجماعة، وخوفًا من العزلة بالبقاء خارج الجماعة الأوربيَّة، وبالفعل قدَّمت بريطانيا طلبها الأوَّل للعضويَّة في أغسطس 1961م، وقُوبل الطلب البريطاني بالرفض من قِبَل فرنسا برئاسة ديجول؛ لخوفه من المنافسة البريطانيَّة داخل الجماعة، ولكن مع الإصرار البريطاني على اللحاق بركب الوحدة الأوربيَّة وتجديدها لتقديم الطلب في عام 1972م -في عهد الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو- قُبِلَت عضويَّتها وَوَقَّعت اتفاقيَّة الانضمام في 22 يناير 1973م[7].
ولنا هنا وقفةٌ للدرس والعبرة من الموقف البريطاني ثُمَّ الفرنسي؛ فلا مانع من التدرُّج في خطوات الاندماج بين الشعوب، وأن تُعْطَى كلُّ خطوةٍ ومرحلةٍ فترةً زمنيَّةً قد تطول، وتكون كلُّ مرحلةٍ مصحوبةً بضماناتٍ لكلِّ الأطراف؛ فيطمئن الجميع، فلا يُوجد تهديدٌ يمسُّ سيادة دولةٍ على أرضها، أو مسخ لهويَّة وتاريخ شعب، المقصود هنا هو التلاقي والتوافق على المشتركات مع حفاظ كلِّ طرفٍ على مكتسباته التاريخيَّة الخاصَّة.
وقد كانت الشراكة الاقتصاديَّة مرحلةً بدأ بها القادة الأوربيُّون كخطوةٍ مبدئيَّةٍ على طريق الوحدة، ولم يكتفوا بها؛ لذا فبعدما تَوَثَّقَتْ عُرى الصلات الاقتصاديَّة بين تلك الدول، وصارت القوَّة الاقتصاديَّة لكلِّ دولةٍ منها مرهونةً بقوَّة اقتصاديَّات شريكاتها الأوربيَّات بدت الحاجة مُلِحَّة، والأجواء مُهَيَّأة لخطوةٍ جديدة؛ ففي عام 1986م بُدِءَ إصدار جوازات السفر الأوربيَّة، ورُفِعَ العلم الأوربِّي على أنغام السيمفونيَّة التاسعة لبيتهوفن، وهي تُمثِّل السلام الأوربي، كما دخل القانون الأوربِّي الموحَّد حَيِّزَ التنفيذ؛ ليُزِيل العوائق التجاريَّة المصطنعة ما بين الدول الأعضاء؛ لكي تتمكَّن البضائع ورءوس الأموال والخدمات وكذلك الأفراد من التنقُّل والعيش والعمل بحُرِّيَّة دون قيودٍ في أيٍّ من الدول الأعضاء[8].
تأسيس الاتحاد الأوربي:
أمَّا على المسار السياسي فقد وُقِّعَت في 7 فبراير 1992م معاهدةُ الاتحاد الأوربِّي في مدينة ماستريخت الهولنديَّة، ودخلت هذه المعاهدة حَيِّزَ التنفيذ في الأوَّل من نوفمبر 1993م، ويرجع تأخُّر تطبيقها إلى تأخُّر قبول الدنماركيِّين المعاهدة وشروطها، وبسبب قضيَّةٍ دستوريَّةٍ أُقيمت ضدَّها في ألمانيا.
ولم يضع الاتحاد الأوربي بادئ الأمر أيَّة شروط إضافيَّة لانضمام الدول المرشحة للعضويَّة، عدا الشروط العامَّة التي تمَّ تبنِّيها في الاتفاقيَّات المؤسِّسَة للاتحاد، لكنَّ الفرق الشاسع في المستوى الاقتصادي والسياسي بين دول أوربا الوسطى والشرقيَّة ودول الاتحاد دفع مجلس الاتحاد الأوربي عام 1993م ليضع عدَّة شروط؛ تكفل حدًّا أدنى من المشتركات العامَّة؛ منها:
شروط سياسيَّة: على الدولة المترشحة للعضويَّة أن تتمتَّع بمؤسَّسات مستقلَّة تضمن الديمقراطيَّة والحريَّة، وأن تقوم على دولة القانون، وأن تحترم حقوق الإنسان، وحقوق الأقليَّات.
شروط اقتصاديَّة: وجود نظام اقتصادي فعَّال، وقادر على تلبية الاحتياجات الأساسيَّة لمواطنيه، ويعتمد على اقتصاد السوق، وقادر على التعامل مع المنافسة الموجودة ضمن الاتحاد.
شروط تشريعيَّة: إذ على الدولة المترشِّحة للعضويَّة أن تقوم بتعديل تشريعاتها وقوانينها بما يتناسب مع التشريعات والقوانين الأوربيَّة، التي تمَّ وضعها وتبنِّيها منذ تأسيس الاتحاد[9].
ومن أهمِّ مبادئ الاتحاد الأوربِّي نقل بعض صلاحيَّات الدول القوميَّة إلى المؤسَّسات الدوليَّة الأوربيَّة، لكن تظلُّ هذه المؤسَّسات محكومة بمقدار الصلاحيَّات التي منحتها كلُّ دولةٍ على حدة، بما يكفل لكلِّ دولةٍ أو مجموعة دول الحفاظ على مشتركاتهم الخاصَّة.
كما تمَّ الاتفاق بين قادة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي على وضع دستور لأوربَّا، وجاءت المبادرة من بلجيكا في عام 2001م، خلال رئاستها للاتحاد، وتشكَّلت لجنةٌ للقيام بهذه المهمَّة برئاسة الرئيس الفرنسي السابق ديستان[10].
وأصبح للاتحاد الأوربي نشاطات عديدة؛ أهمُّها كونه سوقًا موحَّدةً ذات عملةٍ واحدةٍ هي اليورو، وبدأ التداول الرسمي له في الأوَّل من يناير 2002م.
ثُمَّ في يوم الجمعة 13 ديسمبر 2002م الذي يُعَدُّ يومًا مشهودًا في تاريخ أوربَّا الحديثة؛ حيث انعقدت في كوبنهاجن القمَّة الأوربيَّة التي أسفرت عن توسيع دائرة العضويَّة للاتحاد بقبول انضمام 8 دول من أوربَّا المركزيَّة (أو الوسطى) وأوربَّا الشرقيَّة؛ هي: بولندا، والمجر، والتشيك، وليتوانيا، وإيستونيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، ثُمَّ إضافة دولتين هما قبرص ومالطا، على أن تلتحق هذه العشر بالاتحاد في مايو سنة 2004م، بينما تلتحق دولتان أُخْرَيان هما رومانيا وبلغاريا في عام 2007م[11].
وقد تنفَّذَت البنود المتَّفق عليها في قمَّة كوبنهاجن ليرتفع بذلك عدد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي إلى 27 دولة[12]، ويُصبح من القوى المرشَّحة لقيادة العالم في المستقبل القريب.
ثمرات الوحدة:
يقول (زبيجينيو بريجنسكي) مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس جيمي كارتر: "بعد أن أصبحت الإمكانات الاقتصاديَّة للاتحاد الأوربي تُضاهي إمكانات الولايات المتحدة الأميركيَّة، وبعد تكرار التصادم بين الكيانين بشأن مسائل ماليَّة وتجاريَّة، فإنَّ بروز أوربَّا من الناحية العسكريَّة قد يجعل منها منافسًا مرعبًا للأميركيِّين، وتحديًّا خطرًا للهيمنة الأميركيَّة"[13].
فلم يأتِ منتصف التسعينيَّات من القرن الماضي إلَّا وكان الاتحاد الأوربِّي يحتلُّ موقعَ أكبر قوَّةٍ اقتصاديَّةٍ في العالم؛ إذ بلغ ناتجه المحلي الإجمالي 7294 مليار دولار، في مقابل 6638 مليار دولار في الولايات المتحدة الأميركيَّة، واستحوذ على نسبة 20% من إجمالي صادرات العالم، في مقابل 16% للولايات المتحدة الأميركية[14].
وعلى الرغم من كونه لا يزال يُعاني من إجهاد وتكلفة عمليَّة التوسُّع الأخيرة في مايو 2004م، التي انتقل بموجبها عدد أعضاء الاتحاد من 15 إلى 25 دولة، وبالانضمام الأخير الذي أصبح بعده يشمل 27 دولة، فقد أصبحت القوَّة الاقتصاديَّة والعسكريَّة للاتحاد الأوربِّي ملموسةً على مستوى العالم؛ إذ أنتجت دول الاتحاد ما يزيد على 27 تريليون دولار من السلع والخدمات في سنة 2005م، وأنفقت ما يزيد على 77% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي؛ حيث خصَّصت أكثر من 780 مليار دولار لقوَّاتها المسلَّحة في عام 2005م[15].
وبمرور الأعوام يزداد الاتحاد الأوربي -الذي احتفل في مارس 2007م بمرور 50 عامًا على إنشائه- قوَّةً وتأثيرًا؛ حيث أصبحت مساحته الإجمالية 4,325 مليون كم2، وبلغ عدد سكَّانه 491,6 مليون نسمة عام (2009م)[16].
وعلى الجانب الاقتصادي قفز الناتج السنوي للاتحاد الأوربي إلى 14,5 تريليون دولار (عام 2009م)، بمعدَّل نموٍّ بلغ 4% سنويًّا، وتعدَّى الناتج المحلي الإجمالي للفرد 32,5 ألف دولار سنويًّا (عام 2009م)، وبلغ حجم قوته العاملة 225 مليون فرد[17].
وبذلك استطاع الاتحاد الأوربي تأكيد تخطِّيه للحاجز الأميركي كأكبر قوَّةٍ اقتصاديَّةٍ في العالم؛ حيث بلغ الناتج الإجمالي للولايات المتحدة الأميركية 13,7 تريليون دولار (عام 2009م)، وتلتها اليابان بدخل قومي بلغ 4,4 تريليون دولار، ثم الصين بـ 3,2 تريليون دولار، وفقًا لتقرير التنمية البشريَّة الصادر عن الأمم المتحدة 2009م[18].
كما أصبحت قاعدة الاتحاد الأوربي الصناعيَّة الأكبر في العالم وأكثرها تقدُّمًا من الناحية التكنولوجيَّة، وصارت تضمُّ إنتاج المعادن وتجهيزها، والبترول والفحم والإسمنت والكيماويات، والصناعات الدوائيَّة، والطيران، والسكك الحديدية ومعدات النقل، والمعدات الصناعيَّة، وبناء السفن، والمعدات الكهربائيَّة، وذلك بجانب نُظم التصنيع الآلي والإلكترونيَّات، ومعدات الاتصالات السلكيَّة واللاسلكيَّة، والصناعات الغذائيَّة، والأثاث والورق والمنسوجات والسياحة، بالإضافة إلى تحقيق الاتحاد الأوربي لمعدل نموٍّ صناعي بلغ 9,9٪ (عام 2008)[19].
وتنوَّعت صادرات الاتحاد لتشمل الآلات والسيارات والطائرات، والمواد البلاستيكية والصناعات الدوائية.. وغيرها من المواد الكيميائية والوقود، والحديد والصلب، والمعادن غير الحديدية، ولبَّ الخشب والمنتجات الورقية والمنسوجات، واللحوم ومنتجات الألبان، والأسماك، لتقترب قيمة صادراته من الـ2000 تريليون دولار (عام 2007م)[20].
وفضلًا عن ذلك يُعَدُّ الأوربيُّون من أكثر الشعوب المتعلِّمة في العالم؛ حيث يستطيع 90% من سكَّان أوربَّا القراءة والكتابة؛ باستثناء مالطا والبرتغال؛ إذ تَقِلُّ نسبة المتعلمين فيهما عن 90%.
كما يُوجد بأوربَّا عددٌ من أشهر الجامعات في العالم؛ مثل: كمبردج وأدنبره ولندن وأكسفورد في بريطانيا، وجامعة باجلونيا في كراكاو ببولندا، وجامعات بولندا بإيطاليا، ودبلن بإيرلندا، وهايدلبرج بألمانيا، بالإضافة إلى جامعات موسكو وباريس وروما وفيينا[21].
ختامًا..
لا يسعنا إلا أن نُقِرَّ أنَّ هذه الخطوات الكبيرة التي اتخذتها الدول الأوربيَّة على طريق الوحدة لَتدلُّ على عزيمةٍ جبارة- وَضعت الوحدة هدفًا أسمى يُبذَل من أجله الغالي والنفيس، كما تدلُّ على تخطيطٍ دقيقٍ ودراسةٍ واعيةٍ لمقتضيات الوحدة، وتنفيذٍ واعٍ لما يُقَرَّر، بالإضافة إلى مرونةٍ عاليةٍ تسمح بالتنازل عن بعض الخصوصيَّة القائمة لكلِّ دولةٍ في سبيل تحقيق التكامل والاتحاد مع بقيَّة الدول الأوربيَّة[22].
وخير ما نختم به حديثنا عن هذه التجربة العظيمة ما جاء في الصفحة التعريفيَّة للاتحاد الأوربي على شبكة المعلومات الدوليَّة عن الرؤية المستقبليَّة للاتحاد؛ إذ جاء فيها: "سوف يأتي يومٌ تجتمع فيه جميع الدول الأوربيَّة، دون أن تفقد خصائصها المميزة أو شخصيَّتها التاريخيَّة، وسوف تلتحم مع بعضها لتُشَكِّل أعلى وحدة وطنيَّة أوربيَّة، وسوف يأتي يومٌ تكون فيه ساحة المعركة الوحيدة المتاحة هي الساحة الفكريَّة، حيث يُسْتَبْدَل الرصاص والقنابل بالحجج والآراء"[23].
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] صدام مرير الجميلي: الاتحاد الأوربي ودوره في النظام العالمي الجديد، ص39.
[2] محمد مصطفي كمال، وفؤاد نهرا: صنع القرار في الاتحاد الأوربي، ص23.
[3] صدام مرير الجميلي: الاتحاد الأوربي ودوره في النظام العالمي الجديد، ص40.
[4] الاتحاد الأوربي تجربة وحدوية ناجحة وقدوة رائدة، صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، 25 ديسمبر 2002م، العدد 8793.
[5] محمد مصطفي كمال، وفؤاد نهرا: صنع القرار في الاتحاد الأوربي، ص25.
[6] المرجع السابق، ص25.
[7] صدام مرير الجميلي: الاتحاد الأوربي ودوره في النظام العالمي الجديد، ص100.
[8] راغب السرجاني: بين التاريخ والواقع، 1/165.
[9] المرجع السابق، 1/165.
[10] محمد المجذوب: التنظيم الدولي.. النظرية والمنظمات العالمية والإقليمية، ص556.
[11] الاتحاد الأوربي تجربة وحدوية ناجحة وقدوة رائدة: صحيفة الشرق الأوسط اللندنية 25 ديسمبر 2002م، العدد 8793.
[12] الموقع الرسمي للاتحاد الأوربي على الشبكة العالمية، الرابط: http://europa.eu/index_en.htm.
[13] زبيجينيو بريجنسكي: الاختيار.. السيطرة على العالم أم قيادة العالم، ص106.
[14] محمد مصطفي كمال، وفؤاد نهرا: صنع القرار في الاتحاد الأوربي، ص15.
[15] صدام مرير الجميلي: الاتحاد الأوربي ودوره في النظام العالمي الجديد، ص220.
[16] الموقع الرسمي للاتحاد الأوربي على الشبكة العالمية، الرابط: http://europa.eu/index_en.htm.
[17] كتاب الحقائق الأميركي 2009م، www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook.
[18] تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة 2009م، http://hdrstats.undp.org/en/indicators/150.html.
[19] كتاب الحقائق الأميركي 2009م، www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook.
[20] المرجع السابق.
[21] الموقع الرسمي للاتحاد الأوربي على الشبكة العالمية، الرابط: http://europa.eu/index_en.htm.
[22] راغب السرجاني: بين التاريخ والواقع، 1/165.
[23] - http://europa.eu/index_en.htm - About the EU - What future for Europe?
التعليقات
إرسال تعليقك