ملخص المقال
كان الظاهر بأمر الله من أواخر الخلفاء العباسيين، تولى الحكم في فترة تاريخية صعبة للغاية؛ ولكنه كان دائمًا يسارع في عمل الخيرات.
الظاهر بأمر الله من أواخر الخلفاء العباسيين، تولى الحكم عام 622هجرية، ولم يحكم بعده إلا ابنه المستنصر بالله ثم حفيده المستعصم بالله الذي سقطت الخلافة العباسية في عهده لصالح التتار، كانت الفترة التاريخية صعبة للغاية؛ فقد شهدت حروب التتار، والحروب الصليبية، وتنازع الأيوبيين، وسقوط الدولة الخوارزمية، إضافة إلى ذلك كان الناصر لدين الله والد الظاهر بأمر الله فيه عسف وجور.
كان ما يميز الظاهر بأمر الله أنَّه يسارع في عمل الخيرات وله عديد من المواقف التي تشهد له بذلك ومنها ما قاله عنه ابن الأثير في قوله: «ولقد سمعتُ عنه كلمةً أعجبتني جدًّا، وهي أنَّه قيل له في الذي يُخرجه ويُطلقه من الأموال التي لا تسمح نفسٌ ببعضها، فقال لهم: أنا فتحت الدُّكَّان بعد العصر، فاتركوني أفعل الخير، فكم أعيش؟»[1]! يعني أنَّه تولَّى الخلافة وهو كبير السِّنِّ، فالمتبقِّي في حياته قليل، ولذا فهو يُسْرِع في الإنفاق! ولقد صَدَقَ حدسُ الخليفة؛ فقد مات بعد أقلَّ من عشرة شهورٍ على ولايته، ولكنَّه نَفَعَ في هذه الفترة القصيرة خَلْقًا عظيمًا!
تولَّى الظاهر بأمر الله الخلافة وهو في الحادية والخمسين من عمره، ولم يَعِشْ بعدها إلَّا تسعة شهورٍ ونصف، ومع ذلك فقد تمكَّن في خلال هذه المدَّة الوجيزة من ردِّ كثيرٍ من المظالم، والسَّخاء على كثيرٍ من المحتاجين، ولَفَتَ نظر المؤرِّخين إلى عدله ورفقه.
وقد شهد لهذا الخليفةِ الكريمِ المؤرِّخُ الإسلامي الكبير ابنُ الأثير الجزري، وذكر كثيرًا من أخباره الحميدة، وشهادته معتبرةٌ جدًّا، ومقدَّمةٌ على غيرها؛ لأنَّه من أهل الموصل القريبة من بغداد، بالإضافة إلى أنه كان معاصرًا للظاهر بأمر الله.
يقول ابن الأثير: «لما ولي الخلافة، أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سُنَّةَ العُمَرَيْن، فلو قيل إنَّه لم يَلِ الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقًا؛ فإنَّه أعاد من الأموال المغصوبة في أيَّام أبيه وقبله شيئًا كثيرًا، وأطلق المكوس في البلاد جميعها، وأمر بإعادة الخراج القديم في جميع العراق، وأن يُسْقَط جميع ما جدَّده أبوه، وكان كثيرًا لا يُحْصَى»[2]!
نبوءة عجيبة:
قال ابن الأثير: «ولم أزلْ -عَلِمَ اللهُ سبحانه- مذ ولي الخلافة، أخاف عليه قِصَرَ المدَّة؛ لخُبْثِ الزَّمان وفساد أهله، وأقولُ لكثيرٍ من أصدقائنا: وما أخوفني أن تقصر مدَّة خلافته؛ لأنَّ زماننا وأهله لا يستحقُّون خلافته، فكان كذلك»[3]! وهذا -والله- من عجيب الأمور؛ فقد كان ابن الأثير يرى التَّعاسة التي يُعانيها المسلمون على يد التتار من جهة، والصليبيِّين من جهةٍ أخرى، والمتصارعين على الملك من المسلمين من جهةٍ ثالثة، فيرى أنَّ هذا الزَّمان الخبيث لا يستحقُّ أن يشهد خليفةً في عدل العُمَرَيْن! وقد كان مثلما توقَّع! في 13 رجب عام 623 هجرية تُوفِّي الظاهر بأمر الله عن اثنين وخمسين عامًا!
الغريب أن والده حاول أن يُبعده عن الخلافة لكن شاء الله أن تصل إليه!
خطب له أبوه أحمد النَّاصر لدين الله (575-622 هجرية) بولاية العهد في سنة 585ه، وعمره إذ ذاك 14 سنة، ومضت على ذلك مدة ثم نفر عنه بعد ذلك وخافه على نفسه فانه كان شديدًا قويًا عالي الهمة فأسقط اسمه من ولاية العهد في الخطبة سنة 601هـ، واعتقله وضيق عليه ومال إلى أخيه الصغير الأمير علي. فاتفقت وفاة الأمير علي الصغير في حياة والده، فعلم الناصر أنه لم يبق له ولد تصير الخلافة إليه بعده غير ولده محمد الظاهر بأمر الله، فعهد إليه في سنة 618هـ، وبايع له الناس وهو في الحبس مضبوط عليه، وكانت عامة أهل بغداد يميلون إليه، فلما توفي الناصر أخرجه أرباب الدولة وبايعوه بالخلافة!
عظماء كثيرون عاشوا قليلًا في فترة حكمهم
أبو بكر الصديق (ربيع الأوَّل 11ه- جُمَادَى الْآخِرَة 13هـ) (سنتين وثلاثة أشهر).
الحسن بن علي (رمضان 40هـ- ربيع الأوَّل 41هـ) (6 أشهر)
عمر بن عبد العزيز (صفر 99ه-رجب 101هـ) (سنتين وخمسة شهور).
سيف الدين قطز (ذي القعدة 657- ذي القعدة 658هـ) (سنة واحدة).
يجمع هؤلاء المسارعة في الخيرات، والإحساس الضاغط بأن العمر قصير، وأن الموت قريب:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]
{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]
روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ[4]» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ».
طيب الذكر حتى بعد موته، والناس يتوارثون الدعاء له:
يقول أبو بكر معين الدين ابن نقطة البغدادي: "كان الله عز وجل قد حبب الظاهر بأمر الله إلى الناس وكان فيه الشفقة على رعيته والرأفة بهم والرحمة لهم وأنزل الله البركة بين الناس في أيامه ونشر العدل فيهم وأوصل إلى كل ذي حق حقه وغمر الفقراء ببره وإحسانه وكانت أيامه أعيادًا للناس رضي الله تعالى عنه وأرضاه وجعل الجنة متقلبه ومثواه أمين"[5].
[1] ابن الأثير أبو الحسن: الكامل في التاريخ، 10/403.
[2] ابن الأثير أبو الحسن: الكامل في التاريخ، 10/401.
[3] ابن الأثير أبو الحسن: الكامل في التاريخ، 10/414.
[4] البخاري، كتاب الرقاق: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (2358).
[5] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: الظاهر بأمر الله والمسارعة في الخيرات
التعليقات
إرسال تعليقك