الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
موسوعة جينيس تحسم الجدل لجامعة القرويين.. فخر المغرب!
نافذة اليوم نفتحها على مدينة عريقة من مدن الإسلام، وهي مدينة فاس المغربية والتي تقع في أقصى شمال شرق المملكة المغربية، وهي ثالث أكبر مدن المغرب بعد الدار البيضاء والعاصمة الرباط. ويعود تاريخها إلى القرن الثاني الهجري، عندما قام إدريس بن عبد الله الأول مؤسِّس دولة الأدارسة عام (172هـ=789م) ببناء مدينة عام 193ه على الضفة اليمنى الشرقية لنهر فاس، ووفد إليها عشرات العائلات العربية من القيروان، قد عُرِفَت باسم "عدوة القرويين" (تسهيل للقيروانيين)، كما وفد إليها الأندلسيون لاحقًا ليُكوِّنوا حي "عدوة الأندلسيين" على الناحية الغربية من النهر. ظلت المدينة مقسَّمة إلى أن وحَّدها يوسف بن تاشفين، فصارت القاعدة الحربيَّة الرئيسة في شمال المغرب، بالإضافة إلى كونها مركزًا دينيًّا وعلميًّا، وارتفعت قيمتها بشكل كبير في عهد بني مرين حيث اتَّخذوها عاصمة لملكهم.
أما الملمح الحضاري الذي نتحدَّث عنه اليوم هو جامع القرويين الذي تحوَّل فيما بعد لجامعة القرويين الشهيرة، ومؤسِّسة هذا المسجد امرأة عظيمة هي أم البنين فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ الفِهْرِيِّ القَيْرَوَانِيِّ، قَدِمَت ضمن مجموعةٍ من مدينة القيروان للإقامة في مدينة فاس، وذلك في عهد دولة الأدارسة، ثم مات زوجها وأختها، فورثت منهم مالًا كثيرًا، فأرادت أن تُنفقه في وجوه الخير، وكانت بجوار منزلها أرض فضاء، فاشترتها من صاحبها، وعزمت على بناء مسجدٍ فيها، وبدأ بناء المسجد في رمضان عام 245هـ= 859م، في عهد يحيى الأول الإدريسي وعندما تمَّ البناء انتقلت إليه الخطبة الرئيسة في المدينة لكبر حجمه، وصار هو المسجد الأساس في المدينة، حيث عَادَت بركَة نِيَّتهَا وورعها على الْمَسْجِد الْمَذْكُور حَتَّى كَانَ مِنْهُ مَا ترى.
تعود تسمية القرويين إلى مدينة القيروان التي قدمت منها فاطمة الفهرية، وقد يكون لعدوة القرويين التي بُنِيَ فيها، لن أتطرَّق إلى بناء المسجد ومعماره وتوسعته وزخارفه، فليست هذه الأمور هي التي أعطت للمسجد أهميته الكبرى، إنما الذي أعطاه القيمة العالمية هو دوره العلمي كجامعة، حيث انتقل من مرحلة الجامع إلى مرحلة الجامعية في العهد المرابطي أو المريني؛ حيث اتخذ العديد من كبار العلماء المسجد مقرا لدروسهم. ويُعدُّ العصر المريني هو العصر الذهبي للمسجد؛ حيث بنيت العديد من المدارس حوله وعزز الجامع بالكراسي العلمية والمكتبات.
ومن المشهور أن جامعة القرويين هي أقدم جامعة في العالم كله، والمقصود بالجامعة هو المكان الذي يدرس فيه الطلاب علومًا مختلفة بعيدة عن بعضها البعض كنوع من الدراسات المتخصِّصة الأعلى من الدراسات العامة التي يدرسها كلُّ الطلاب في المدارس.
إذا نظرنا إلى تاريخ تأسيس الجامع، وهو 245هـ (859 م)، تكون جامعة القرويين هي الأولى في العالم. نعم كانت المساجد الإسلامية التي أنشأت قبل القرويين، كالمسجد النبوي، وعمرو بن العاص، والأموي، وعقبة بن نافع، كلها قبل القرويين، لكنها كانت تدرس علومًا شرعية فقط، ودون تخصُّص ظاهر، ولذلك اعتُبرت القرويين الأولى في هذا المجال.
هذا ما أخذت به موسوعة جينيس العالمية للأرقام القياسية:
The oldest existing, and continually operating educational institution in the world is the University of Karueein, founded in 859 in Fez, Morocco. The University of Bologna, Italy, was founded in 1088 and is the oldest one in Europe.
ومع ذلك يعترض البعض على هذه المعلومة التاريخية بأن مسجد الزيتونة، ومن ثم جامعة الزيتونة، مثلًا في تونس أسِّس قبل القرويين بمدَّة (79 ه/ 698 م)، أي قبله بنحو 166سنة، وإذا أخذنا اعتبار أن مسجد القرويين تحول إلى جامعة في عهد المرابطين، يعني في أواخر القرن الخامس الهجري، فإن الجامع الأزهر في مصر يكون قبله كذلك في كونه جامعة، فقد تأسَّس في عام 359 ه (970 م)، أي قبل تحوُّل القرويين إلى جامعة بأكثر من قرن، ومع ذلك يمكن أن نأخذ من المعلومات التي رجعت إليها موسوعة جينيس تفسيرًا لذلك، وهي وصفها لجامعة القرويين بأنها: (continually operating)، أي مستمرة للعمل دون انقطاع، وهذا ما لم يحدث مع الزيتونة أو الأزهر، حيث توقَّفت بهما الدراسة عقودًا كثيرة نتيجة اضطرابات سياسية.
أيضًا يُذكَر أن جامعة القرويين هي أول جامعة في العالم تعطي إجازة في الطب، وقد منحت هذه الإجازة للطبيب عبد الله بن صالح الكتامي في عام 603 ه (1207 م)، وسُلمت بحضور القاضي الموثق عبد الله طاهر إلى جانب الأطباء ضياء الدين المالقي الملقب بأبي البيطار، وأبو العباس بن مفرج المعروف بالنبطي، وأبو عمر الملقب بالإشبيلي.
حفلت جامعة القرويِّين منذ نشأتها بتدريس معظم العلوم الشرعيَّة والحياتيَّة؛ مثل علوم القرآن، والسنة، والعقيدة، والفقه، والفلسفة، والرياضيَّات، والفلك، واللغات، وغيرها، وقد انتسب إليها من العلماء المشهورين الذين درسوا أو درَّسوا فيها، مثل: الفيلسوف «ابن رشد»، والجغرافي «محمد الإدريسي»، والفيلسوف اليهودي «موسى بن ميمون»، والمؤرخ «ابن خلدون»، والصيدلاني عالم النبات «الكتاني»، والرحالة الجغرافي «ليون الإفريقي»، وبابا الفاتيكان «سلفستر الثاني»، والفقيه «البناني»، وغيرهم.
أُدمجت في نظام الجامعات الحكومية الحديثة في المغرب في عام 1382هـ= 1963م، وشملت خمس كليات: كلية الشريعة الإسلامية في فاس، كلية الدراسات العربية في مراكش، وكلية أصول الدين في تطوان، وكلية الشريعة بأيت ملول، وكلية العلوم الشرعية بالسمارة.
يحضر جامعة القرويين طلاب من جميع أنحاء المغرب وأفريقيا الغربية الإسلامية، ويُطلب من الطلاب المرشحين للدراسة في جامعة القرويين حفظ القرآن كاملاً، فضلاً عن العديد من النصوص الإسلامية حول القواعد النحوية والفقه المالكي، مع التمكن من اللغة العربية.
في 2015 أُلحقت 5 كليات كانت تابعة لجامعة القرويين، بالجامعات التابعة لها، وصار تابعًا لها عدة معاهد أخرى مثل معهد محمد السادس للقراءات، معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، معهد الفكر والحضارة الإسلامية بالدار البيضاء، المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، المدرسة القرآنية[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك