د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
شهد العالم أزمة مالية عنيفة مؤخرًا، بدأت من الولايات المتحدة الأميركية ثم انتقلت عدواها إلى الأسواق الماليَّة لمختلف الدول، وبات علاجها عسيرًا، فيما
إنَّنا نودُّ أن نتوقَّف عند ما تشهده الولايات المتحدة الأميركيَّة من أزمةٍ ماليَّةٍ عنيفةٍ انتقلت عدواها إلى الأسواق الماليَّة لمختلف الدول، وبات علاجها عسيرًا، فيما عُرف بــ الأزمة المالية العالمية، ونُحَذِّر من تداعيَّاتها على أمن العالم وسلامته.
تعود جذور هذه الأزمة إلى عام 2000م؛ حيث أخذت قيم العقارات وبالتالي أسهم الشركات العقاريَّة المسجَّلة بالبورصة في الارتفاع بصورةٍ مستمرَّةٍ في جميع أنحاء العالم، وخاصَّةً في الولايات المتحدة الأميركيَّة، حتى بات شراء العقار أفضل أنواع الاستثمار في ذلك الحين، وأقبل الأميركيُّون أفرادًا وشركات على شراء العقارات بهدف السكن أو الاستثمار طويل الأجل أو المضاربة، واتَّسعت التسهيلات العقاريَّة إلى درجة أنَّ المصارف منحت قروضًا للأفراد غير القادرين على سداد ديونهم بسبب دخولهم الضعيفة!
وانتفخت الفقَّاعة العقاريَّة حتى وصلت إلى ذروتها، فانفجرت في صيف عام 2007م؛ عندما هبطت قيمة العقارات، ولم يَعُد الأفراد قادرين على سداد ديونهم حتى بعد بيع عقاراتهم المرهونة، وفقد أكثر من مليوني أميركي ملكيَّتهم العقاريَّة، وأصبحوا مُكَبَّلِين بالالتزامات الماليَّة طوال حياتهم، وتضرَّرت المصارف الدائنة نتيجة عدم سداد المقترضين لقروضهم، فهبطت قيم أسهمها في البورصة، وأعلنت شركات عقاريَّة عديدة عن إفلاسها[1].
لم يقتصر الانهيار عند العقارات؛ بل امتدَّ إلى الأسواق الماليَّة، ومنها إلى جميع القطاعات الأميركيَّة، ثُمَّ انتقلت عدوى الأزمة الأميركيَّة إلى جميع أنحاء العالم؛ فقد بلغت قيمة الانخفاضات في القيمة السوقيَّة للأسهم في كلِّ بورصات العالم في 10 أكتوبر 2008م نحو 25 تريليون دولار من أصل 61 تريليونًا وهي قيمة الأسهم في نهاية عام 2007م[2].
وبدأت دول العالم تباعًا تكشف عن مدى خسارتها بسبب هذه الأزمة؛ ففي كندا صرَّح مارك كارني محافظ بنك كندا في نوفمبر 2008م قائلًا: "إنَّ خطر الركود يتزايد". وكذلك ألمانيا -صاحبة أكبر اقتصاد أوربي- سقطت بدورها في مرحلة من الركود لأوَّل مرَّةٍ منذ خمس سنوات؛ بسبب هذه الأزمة الماليَّة، بل وأعلنت وكالة الأنباء الألمانيَّة أنَّ خبراء اقتصاد يخشون من تعرُّض الاقتصاد الألماني لأخطر ركودٍ في تاريخه الحديث منذ الحرب العالمية الثانية[3].
ولم يختلف الحال كثيرًا في بريطانيا؛ حيث وقف الاقتصاد البريطاني في عام 2008م على شفا أوَّل ركودٍ له منذ أكثر من 15 عامًا، وفي اليابان وبسبب الأزمة الماليَّة العالميَّة دخل الاقتصاد الياباني دائرة أوَّل ركودٍ منذ سبعة أعوام، فدفع انخفاض الطلب على المنتجات اليابانيَّة في العالم الميزان التجاري الياباني إلى عجزٍ بمقدار 665 مليون دولار، مقارنةً مع فائضٍ بلغ قرابة الألف مليار دولار في عام 2007م[4].
بالإضافة إلى ما صرَّحت به مجموعة العشرين الاقتصاديَّة في اجتماعها بكندا في يونيو 2010م، أنَّ التحدِّيَّات الاقتصاديَّة الكبرى ما زالت تفرض نفسها، ومخاوف العودة إلى الركود لم تتبدَّد بعدُ[5].
أمَّا عن آثار هذه الأزمة على الدول الفقيرة فقد أشارت دراسة أمميَّة[6] إلى أنَّ عدَّة صدمات اقتصاديَّة ناجمة عن الأزمة الماليَّة أخذت تُؤَثِّر بشدَّة على أشدِّ البلدان فقرًا؛ حيث تسبَّب هبوط معدلات التجارة العالميَّة في إلحاق أضرارٍ كبيرةٍ بالبلدان منخفضة الدخل، بجانب انخفاض تدفُّقَات رءوس الأموال من القطاع الخاصِّ العالمي إلى أشدِّ البلدان فقرًا إلى 21 مليار دولار أميركي في عام 2008م من 30 مليار دولار أميركي في عام 2007م، وذلك فضلًا عن الهبوط الضخم في حجم تحويلات العاملين إلى البلدان منخفضة الدخل.
كما توقَّع تقرير "الآفاق الاقتصاديَّة العالميَّة 2010م" أنَّه على الرغم من أنَّ أسوأ آثار الأزمة قد وقعت بالفعل، فإنَّ تعافي الاقتصاد العالمي ما زال هشًّا، ويتوقَّع التقرير أن تُؤَدِّيَ آثار الأزمة إلى تغيير المشهد العام بالنسبة إلى التمويل والنموِّ على مدى السنوات العشر المقبلة، وجاء في التقرير تصريحٌ للسيد جستن لين، النائب الأوَّل لرئيس البنك الدولي لشئون اقتصاديَّات التنمية، ورئيس الخبراء الاقتصاديِّين، قائلًا: " للأسف! لا يُمكننا توقُّع حدوث تعافٍ من هذه الأزمة العميقة والمضنية بين عشيَّةٍ وضحاها؛ فالأمر سيستغرق عدَّة سنوات حتى يُمكن إعادة بناء اقتصادات البلدان، وخَلْق المزيد من فرص العمل، وستترك هذه الأزمة أثرًا بالغًا على الفقراء، وقد تحتاج البلدان الأكثر فقرًا في العالم -التي تعتمد على المنح أو الإقراض المدعوم- إلى ما يتراوح بين 30 و50 مليار دولار من التمويل الإضافي؛ حتى تتمكَّن فقط من الحفاظ على برامجها الاجتماعيَّة، التي كانت قائمةً قبل الأزمة"[7].
علاوة على ذلك، فمن المتوقَّع -بحسب التقرير- خلال الأعوام الخمسة إلى العشرة المقبلة أن تُؤَدِّيَ زيادة تفادي تحمُّل المخاطر، وتطبيق تدابير تنظيميَّة أكثر تحوُّطًا، والحاجة لكبح بعض ممارسات الإقراض الأكثر خطورة التي سادت خلال فترة الانتعاش قبل اندلاع الأزمة- إلى شحِّ رءوس الأموال، وارتفاع تكلفتها بالنسبة إلى البلدان النامية.
ونُضيف إلى ذلك شيئًا أخطر من امتناع الدول الكبرى عن تقديم مساعداتها للدول الفقيرة، وهو عودة التفكير الاستعماري من جديد عن طريق شنِّ حملات عسكريَّة لتعويض خسائر الأزمة الماليَّة العالميَّة.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] صباح نعوش: خطورة الأزمة المالية الأميركية على الاقتصاد العالمي، دراسة منشورة على موقع الجزيرة نت، بتاريخ 7 فبراير 2008م، (www.aljazeera.net).
[2] أحمد السيد النجار: كراسات استراتيجية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد (194)، ديسمبر 2008م، ص16.
[3] صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، العدد (11046)، بتاريخ 24 فبراير 2009م.
[4] تأثيرات الأزمة المالية على دول العالم: الجزيرة نت، بتاريخ 25 نوفمبر 2008م، www.aljazeera.net.
[5] صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، العدد (11535)، بتاريخ 28 يونيو 2010م.
[6] بيان صحفي رقم: 2010/64/EXC، البنك الدولي، بتاريخ 16 سبتمبر 2009م، http://web.worldbank.org.
[7] بيان صحفي رقم: 2010/234/DEC/AR، البنك الدولي، بتاريخ 21 يناير 2010م، http://web.worldbank.org.
التعليقات
إرسال تعليقك