الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
لقد أضحى التعارف والتعايش عند عقلاء الأمم الأولى ضرورةً بشريَّةً مُلِحَّة، وسوف نفهم قول الله تعالى: "يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ
التعارف لتحقيق المصلحة المشتركة:
لقد أضحى التعارف والتعايش عند عقلاء الأمم الأولى ضرورةً بشريَّةً مُلِحَّة، وسوف نفهم قول الله تعالى: )يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا( [الحجرات: 13]. فيما سنعرضه من حقائق إنسانيَّة وتاريخيَّة مهمَّة.
لقد كانت أولى الأماكن التي هاجرت إليها الشعوب البدائيَّة تتمثَّل في مناطق الخصب الزراعي، فلقد اكتشف الإنسان البدائي كيفيَّة الزراعة في بحثه عن القوت والغذاء، لكنَّ العائق الذي كان يقف أمام هذه الشعوب قد تمثَّل في مياهٍ عذبةٍ ثابتة، وأرضٍ طمييَّةٍ خصبة، ومِنْ ثَمَّ كان البحث والترحال من أهمِّ الآليَّات الموصِّلة إلى الهدف المنشود.
ولذلك كان من الطبيعي أن تتَّجه الجماعات البشريَّة الأولى تجاه المستنقعات وأماكن المياه، ثُمَّ الاستقرار، وكانت من أقدم الحضارات التي قامت في تاريخ البشريَّة على ما يُقرِّر علماء التاريخ والآثار: الحضارتان المصريَّة على ضفاف النيل، والسومريَّة في العراق على ضفاف نهري دجلة والفرات، ولقد كان لخصب التربة واعتدال البيئة في هذه الأقطار الفضل في ظهور هذه المدنيَّة؛ لأنَّ خصب التربة أفسح المجال لإمكان المعيشة في الأراضي التي تستقي من الأنهر الثلاثة؛ أي دجلة والفرات والنيل، وتخصب تربتها، وتقيت العائشين عليها؛ من أجل هذا كان الناس يتواردون على هذه الأقطار، يسكنونها، ويشتغلون بها، ويستثمرون مواردها الطبيعيَّة، ويعيشون فيها عيشةً جماعيَّة، يتعاونون ويتبادلون، ويأكلون من خيراتها، ويتزاوجون، ويتوالدون، ويُؤلِّفون أوَّل مجتمعٍ إنسانيٍّ في التاريخ المعروف.
ولقد أدرك أفراد هذه المجتمعات -وهم مجموعةٌ من القبائل الوافدة- فائدة الزراعة والحراثة، وقيمة الأرض، ثُمَّ ألفوا الحياة الاجتماعيَّة، وبدءوا في إنشاء المدن، وإقامة العمران[1].
فالمصلحة المشتركة هي التي حرَّكت تلك الشعوب إلى أماكن الخصب والمياه، وكان من الرائع أن تتعارف هذه الشعوب وتتعايش، بل تتزاوج وتتوالد مكوِّنة المجتمع الإنساني الأوَّل القائم على مبدأ التعايش السلمي.
ومن أقدم المدنيَّات في تاريخ البشريَّة -على ما يُقرِّر علماء الإنسان- تبرزُ مدنية أريحا في فلسطين، وقد كانت مدنيَّة حقيقيَّة ظهرت نتيجة هجرة مجموعةٍ من القبائل إليها كانت تقتات على القمح البري الذي وجدوه متوفِّرًا فيها، وقد استوطنت هذه القبائل بجوار ينابيع المياه، ثُمَّ ما لبثوا أن صنعوا أدوات لحصاد هذا القمح البري دون أن يعرفوا كيفية زراعته، ومن المفارقات المهمَّة، وأحد التفسيرات التي يُقدِّمها برونوفسكي على قيام الحضارات القديمة، تكمن في وجود أنواعٍ معيَّنةٍ من القمح نتجت عن طريق التهجين الذي كانت تنتجه الطبيعة من خلال فضلات الحيوان، أو الرياح، أو غير ذلك[2].
لقد كان من الطبيعي أن تتطوَّرَ الحياة البشريَّة الأولى من البساطة إلى التمدُّن والتحضُّر، ومن الترحال إلى الاستقرار، وقد كانت الأسباب التي أثَّرت في تقدُّم البشريَّة متنوِّعة ومتعدِّدة، لكنَّ اللافت أنَّ الإنسان البدائي استطاع أن ينتقل إلى مرحلةٍ جديدةٍ تتَّسم بالرقيِّ والهدوء، ومن ثَمَّ بناء الحضارة، ونشأة الأمَّة؛ ذلك أنَّ الجماعات البشريَّة الأولى لم تكن متَّحدة في مكانٍ بعينه، أو تحت لواءٍ سياسيٍّ أو اجتماعيٍّ بذاته؛ فقد كانت منتشرةً في أرجاء العالم، ولمـَّا كان التطوُّر الاجتماعي والاقتصادي والمصلحي لهذه الجماعات في تلك الأعصر السحيقة متقاربًا بصورةٍ لافتة للانتباه فإنَّها بحثت في الوقت ذاته عن الآخر؛ لتستكمل معه تلك الطموحات والمتطلبات والاحتياجات التي وضعها أسلافهم، واتَّضح فيما بعد أنَّها تكبر بكبر الجماعة؛ ولذلك كان انضمام هذه العشائر والقبائل إلى قبائل وعشائر أخرى أمرًا تُمليه المصلحة المشتركة على الإنسان.
إذًا كان أمام العشائر الإنسانيَّة أحد طريقين لتحقيق المصالح: إمَّا التحايل والتصادم وإمَّا التعارف والتعايش، ولقد وجدنا أنَّ التعارف كان الخيار الأفضل والأنسب لتلك القبائل "العاقلة" التي وعت جيِّدًا أنَّ المصلحة التي يبحثون عنها، ويُريدون تحقيقها إنَّما هي مصلحةٌ مشتركةٌ عامَّة، وهذا لا يعني أنَّ التعارف والتعايش كان المنطق السائد، فهناك من ارتأى المصلحة الذاتيَّة الخاصَّة دون النظر إلى مصالح الآخرين؛ ولذلك كان التصادم والتحايل سبيله لتحقيق ما أراد.
ولقد استقرَّ الإنسان في مناطق الخصب والمياه، وأنشأ علاقاتٍ اجتماعيَّةً مع الآخر تقوم على مبدأ المصلحة المشتركة، ولكن بقي أمرٌ يجب أن يُنظِّم العلاقات، ويُحدِّد الغايات، ويُنمِّي الأفراد، ويكشف للأمم المجاورة أنَّ هذه أمَّةٌ مثلهم، لها من الإمكانات الماديَّة والمعنويَّة ما يُبرز قيمتها، ويكشف عن هويَّتها وثقافتها.
لقد كانت المرحلةُ التي تفرض نفسها على الشعوب التي وصلت إلى تلك المنزلة مرحلةَ إقامة الدولة، التي فيها تنصهر القبائل، وتتَّحد الهمم.
ولقد وضع علماء الاجتماع مجموعةً من التفسيرات المنطقيَّة لإقامة المجتمعات المدنيَّة الأولى، وإنَّ من أشهر هذه النظريَّات التي تناولت نشأة الدولة وإقامة المجتمع قد عُرفت باسم "العقد الاجتماعي"، وهو عبارةٌ عن اتِّفاق مجموعةٍ من (الأفراد) فيما بينهم لتكوين (مجتمع)، بِناءً على قاعدة الفائدة المتبادلة وتجنُّب الأضرار، مقابل تسليم الفرد لإرادة الجماعة، ممثَّلة بالسلطة، وهو شكلٌ من الأشكال الجديدة التي لم يعهدها الإنسان من قبلُ في التقارب مع الأجناس والأعراق والقبائل المختلفة داخل القطر الواحد.
ونظر الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (ت 1704م) إلى أنَّ الأصل في قيام الدولة يعود إلى المحافظة على الملكيَّات -ويقصد بها الحياة والحريَّة والمصير- ضدَّ من تُسوِّل له نفسه الاعتداء عليها؛ ولذلك فإنَّ الاجتماع البشري لا بُدَّ أن يُنتج نوعًا من القوة تستطيع أن تردع كلَّ معتدٍ، وعلى ذلك فالأفراد الذين تجمعهم هيئةٌ واحدةٌ ويخضعون لقانون وسلطة شرعيَّة عامَّة تفضُّ المنازعات بينهم، وتُعاقِب المجرمين، هؤلاء الأفراد يكوِّنون مجتمعًا مدنيًّا فيما بينهم، وأمَّا هؤلاء الذين لا يجتمعون على شيءٍ ثابتٍ فهم من يعيشون في حالة الطبيعة، حيث يُباشر الرجل كافَّة السلطات التشريعيَّة والتنفيذيَّة بنفسه[3].
ويرى الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (ت 1778م) أنَّ ثمَّة تفسيرًا آخر مهمًّا كان من شأنه أن يُقيم دولة القانون في المجتمعات الأولى بأقصى سرعة؛ فالأفراد الذين كانوا يعيشون في الغابات تجمَّعوا تدريجيًّا، وكوَّنوا جماعاتٍ منفصلة، ثُمَّ في كلِّ منطقةٍ استقلَّت جماعةٌ ببقعةٍ معيَّنة، تشابهت طبائعها ومشاربها نتيجة عوامل المناخ ووسائل الحياة، وليس عن تنظيماتٍ أو قوانين موضوعة، ولم تكن مجاورة الجماعات بعضها البعض لتظلَّ قائمةً دون أن يحدث الاتِّصال أو التَّقارب بمرور الوقت بين العائلات المختلفة ثُمَّ تزاوج وانصهار، ثُمَّ بدأت هذه المجموعات التجمُّع أمام الأكواخ أو حول الأشجار؛ للتعارف والغناء يربطهم التآلف والمحبَّة.
ثُمَّ كانت الثورة الحقيقيَّة التي أقامت الدولة؛ إنَّها ثورة الزراعة والتعدين، ويرى روسو أنَّه قد ترتَّب عليها عواقب أخلاقيَّة وخيمة؛ ففي بادئ الأمر كان استخدام الحديد واستهلاك السلع يسير دائمًا بطريقةٍ متوازنة، فلم يكن هناك ما يكفل المحافظة على هذا التوازن، وهكذا كان الأقوى يقوم بمعظم العمل، والأكثر مهارةً يصل بعمله إلى أحسن مستوى، والحاذق يبتكر أساليب جديدة في العمل، ثُمَّ احتاج المزارع إلى مزيدٍ من الحديد، أو احتاج الصانع إلى مزيدٍ من القمح، وبينما كان كلاهما يقوم بالعمل على قدم المساواة، كان لأحدهما الغُنْم والآخر الغُرْم[4].
ومن الواضح أنَّ روسو يُلمِّح إلى وجود الطبقيَّة الأولى في تلك المجتمعات، والنتائج السلبيَّة الخطرة التي كانت تُهدِّد أصل هذه التجمُّعات، وكان من أبرز هذه النتائج وأخطرها أنَّ الحرب بين الطبقات الفقيرة والغنيَّة قد بدأت بالفعل، وأنَّ الفزع والرعب وعدم الاطمئنان للآخر قد حلُّوا محلَّ الأمان والاطمئنان والسكينة؛ ولذلك "بدأ الفرد يصوغ أفكارًا ويُدلي بآراءٍ من شأنها مسايرة ما يُريده، فبدأ يُنادي: لنتكاتف ونُوحِّد جهودنا لحماية الضعفاء من الظلم والاستبداد، لنقف في وجه الأطماع ونُحقِّق لكلِّ فردٍ نصيبه الذي هو جديرٌ به، فلنضع أحكامًا للعدالة والسلام يخضع لها الجميع دون استثناء، أحكامٌ تستهدف تعديل الأوضاع وإعادة توزيع الثروات، وبإخضاع القوي والضعيف لالتزامات وواجبات متقابلة. وبعبارةٍ أخرى، بدلًا من أن نستنفد جهودنا وقوَّتنا في مقاتلة بعضنا البعض علينا أن نوحِّدها ونجمعها وندافع عن كافَّة أعضاء الجماعة، ونقف في وجه العدوِّ المشترك، ونعمل على إيجاد نوعٍ من الانسجام والتآلف فيما بيننا"[5].
إذًا سادت لغة العقل، وبحث الجميع عن آلية توحُّدهم وتجمُّعهم على ما يشتركون فيه، ومِن ثَمَّ كانت القوانين الوضعيَّة في تلك المجتمعات الأولى نتيجةً حتميَّةً للمواجهات أو شبه المواجهات الدامية بين أفراد تلك المجموعات، واستطاع الإنسان الأوَّل بعبقريَّةٍ فذَّةٍ أن يُحوِّل حياته من عدم الأمان والخوف والصراع إلى الوحدة والتقارب من الآخر، بفضل اختراعٍ جديدٍ تمثَّل في القانون الذي يجب أن يُحترم[6].
ومهما يكن من رؤًى وتفسيرات لحقيقة قيام الدول وطبيعة إنشاء القوانين، فإنَّ الإنسان استطاع خلال وجوده على الأرض، وتعاقب أجياله، ونموِّ فكره، وكثرة اكتشافاته- أن يُنظِّم لنفسه طبيعة العلاقة الاجتماعيَّة مع الآخر؛ من خلال وضع القانون وإقامة الدولة، وهكذا أصبحت دولة القانون وقانون الدولة من المسلَّمات التي لا تستطيع أيُّ أمَّةٍ أن تنهض وتتقدَّم دونها.
وثمَّة أمرٍ يطرح نفسه بقوَّة، وهو إذا أردنا أن نعرف تاريخ أيِّ حضارةٍ -فضلًا عن تاريخ المشتركات بين البشر- فلا بُدَّ أن نملك من الوثائق ما يفضُّ الإشكاليَّات المتعلِّقة بها، هذه الوثائق هي التي تُعبِّر عن كنه الحضارة التي نبحث عنها، ولا يُمكن أن تُعبِّر أيُّ حضارةٍ عن نفسها إلَّا بأيدي أبنائها الذين سطَّروا تاريخها، سواءٌ كان ذلك على الرقاع أو الحجر أو الطين أو الورق أو على أيِّ شيءٍ كان.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
التعليقات
إرسال تعليقك