الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إنَّ الآليَّات التي تعمل على إثبات قيمة التعارف والتعايش بين البشر كثيرةٌ، لكن ثمَّة آليَّة إنسانيَّة مهمَّة كان لها دورها في تعارف الشعوب والأمم،
إنَّ الآليَّات التي تعمل على إثبات قيمة التعارف والتعايش بين البشر كثيرةٌ في الحضارات الإنسانيَّة المختلفة، لكن ثمَّة آليَّة إنسانيَّة مهمَّة كان لها دورها في تعارف الشعوب والأمم، تمثَّلت هذه الآليَّة في الزواج، صحيحٌ أنَّ فلسفة الزواج تقوم على تحقيق مصلحة الإشباع الغريزي، وتكوين الأسرة، لكن هذه المصلحة المشتركة التي تسعى إلى تحقيقها البشريَّة صباح مساء قد ساعدت في تقريب الأمم والشعوب؛ فمن اللافت أن نجد ما يُسمَّى بـ"الزواج الخارجي" عند الشعوب البدائيَّة، والقبائل المختلفة؛ فالزواج الخارجي عند هنود أميركا الشماليَّة كان موجودًا في كلِّ قبيلةٍ من قبائلها الستَّة التي كانت تُشكِّل كونفدراليَّة سكَّان "الإيروكوا"، وقد وجد علماء الأنثروبولوجيا شيئًا لافتًا في هذه القبائل؛ فقد كانت كلُّ واحدةٍ منها تتكوَّن من ثماني عشائر، وكانت القاعدة العامَّة التي تحكم أعرافها وعاداتها تقضي باستحالة زواج الرجل من امرأةٍ تنتمي إلى أيَّة مجموعةٍ من عشيرته، فعليه أن يتزوَّج من خارج القبيلة بأكملها، ويقول لويس مورجان عن هذا الأمر: "كلُّ من يخرق أو يُخالف قوانين الزواج هذه يُعرِّض نفسه لأشدِّ الأهوال، وأسوأ أنواع الاحتقار"[1].
ويُفضِّل هنود "بيلاكولا" التزاوج مع أقرباء بعيدين نسبًا، أو حتى مع غير أقرباء لا تربطهم بهم أيَّة علاقة نسبٍ أو مصاهرةٍ مهما كانت درجتها، ويُحدِّثنا أحد المستكشفين والأنثروبولوجيِّين وهو "جاب" عن ثلاث قبائل تسكن السفح الأطلنطيكي لكوستاريكا بقوله: "لم أستطع أن أُحدِّد بدقَّة كيف يُمكن حلَّ مشكلة انتماء كلِّ فردٍ إلى العشيرة، وعمَّا إذا كان سيرث من أبيه أو من أمِّه، ولكن على حدِّ معرفتي فإنَّه سوف يرثُ من أبيه، ويعتبر أبناء العمومة والخئولة حتى من ذوي القرابة البعيدة إخوة وأخوات، ويحظر عليهم التزاوج فيما بينهم، علمًا بأنَّ هذا القانون أو هذا العرف لم يتسرَّب إليهم من الخارج، بل تناقل فيما بينهم عن طريق التقاليد منذ أزمانٍ قديمة، إنَّ جزاء من يُخالف هذا القانون أو ينقضه كان رهيبًا جدًّا، أقلُّه دفن المذنبين أحياء! ولم تكن هذه العقوبة تُطبَّق في حالة الزواج المحرَّم فقط، ولكن في حالة قيام علاقات جنسيَّةٍ غير مشروعةٍ بين أشخاصٍ مدرجين ضمن درجات القرابة الممنوعة"[2]. ومثل هذا النوع من الزواج الخارجي، قد وجده علماء الآثار والأنثروبولوجيا في كلِّ أرجاء العالم تقريبًا.
ونذكر في هذا الأمر ما كان يقوم به الإسكندر الأكبر؛ إذ لم تكن أهدافه التوسعيَّة تقتصر على إيجاد طرق الاتصال بين الشرق والغرب فقط، بل كان يهدف إلى جسور المحبَّة والتفاهم بين الشعوب؛ فتزوَّج من سيِّدة شرقيَّة، وأمر رجاله بالزواج من سيِّدات فارسيَّات، وأُقيم لهذا الغرض حفلٌ كبيرٌ تزوَّج فيه تسعة آلافٍ من المقدونيِّين من سيِّداتٍ آسيويَّات؛ ليُؤكِّد على أنَّ رابطة التزاوج من أقوى الروابط التي تُقرِّب بين الشعوب، مهما تباعدت الأقطار، وتناءت البلدان[3].
وقد كان لزواج ملوك وأمراء أوربَّا في القرون الوسطى أثره الكبير في تقريب وتوطيد العلاقات فيما بينهم؛ فقد كانت التقاليد تقضي بأن يتزوَّج ملوك فرنسا من الأسرة الحاكمة في إسبانيا والعكس، وهذا ما قوَّى العلاقات الإسبانيَّة الفرنسيَّة سياسيًّا ودينيًّا أيضًا.
وقد تعارف العرب في جاهليَّتهم على زواج الأباعد وأهميَّته البالغة، وكانوا يَرَوْنَ أنَّ ذلك أنجب للولد وأبهى للخلقة، وأحفظ لقوَّة النسل؛ لأنَّ إنكاح الأهل والأقارب يضرُّ بالمولود، ويَسِمُه بالضعف والهزل، وبهذا المعنى حضَّ الإسلام على زواج الأباعد، ورغَّب فيه، ونبَّه على النتائج الإيجابيَّة المترتِّبَة عليه؛ منها: نتائج جسمانيَّة تتعلَّق بصحَّة النسل الجديد، ونتائج اجتماعيَّة تتعلَّق بالتعارف والتواصل، وقد أوصى حصن بن حذيفة بن بدر قومه أن "ينكحوا الكفء الدريب، فإنَّه عزَّ حادث". وقال عمر رضي الله عنه مخاطبًا آل السائب: "يا بني السائب؛ إنَّكم قد أضويتم، فانكحوا في النزائع". أي: تزوَّجوا في البعاد الأنساب، لا في الأقارب؛ لئلا تضوى أولادكم. والنزائع جمع نزيعة، وهي المرأة التي تُزَوَّج في غير عشيرتها، وأضوى: وُلِدَ له وَلَدٌ ضاوٍ؛ أي: ضعيف"[4].
ومن خلال هذه المشاهدات نتأكَّد من أنَّ الزواج الخارجي كان عاملًا مهمًّا من عوامل تقريب القبائل والشعوب بعضها من بعض، ولنا أن نتخيَّل كيف التحمت هذه القبائل مكوِّنة أممًا كانت من القوَّة والمنعة ما حدَّ من تحرُّكات الغزاة المعتدين، ومن ثَمَّ يجب أن نستثمر مثل هذه الآليَّة التي عرفتها الثقافة الإنسانيَّة على مرِّ العصور؛ ليحدث التقارب والتآلف بين الجنس البشري في عصرنا الحاضر.
وأمَّا النتائج المترتبة على التعارف فكثيرةٌ كثيرة، منها قيام المدنيَّة والدولة المنظَّمة، وما يترتَّب على ذلك من إخضاع كلِّ الأفراد لسلطةٍ عليا تُقرُّ القانون، وتضع الدستور في تعاملات الأفراد في هذا المجتمع الجديد ذي العرقيَّات المختلفة، ولكن قد يقول قائل: إنَّ المدنيَّة المترتِّبة على التعارف أوسع من ذلك، إنَّها أكثر من مجرَّد جهاز سياسي رسمي، إنَّها ثقافةٌ واسعةٌ معقَّدة؛ فالكلمة تستحضر إلى الذهن صورًا لمدنٍ عظيمة، ولأبنيةٍ رائعة، ولجماهير كثيفة من السكان، ولكميَّاتٍ كبيرةٍ من السلع، وعندما نسمع هذه الكلمة يطرأ على ذهننا نظام اجتماعي بديع النسيج يظهر فيه التجار والفلاحون والرهبان والعمال والأمراء.. كل هذا صحيح، لكنَّ المدنية القائمة على تعارف القبائل والشعوب مجتمعٌ كبير، ومنقسمٌ من الداخل في الوقت نفسه، سكَّانه كثيرون، وقد يكونون مختلفين عرقيًّا، منقسمين وظيفيًّا إلى مهنٍ متخصِّصة، ونظرًا إلى اختلاف درجات اكتسابهم لوسائل السلطة فإنَّهم ينقسمون إلى طبقاتٍ متفاوتة الحظوظ، وتعتمد كلُّ منجزات المدنيَّة الثقافيَّة على حجم هذا التنظيم وتعقده، لكن مثل هذا المجتمع الضخم، المختلف العناصر، المنقسم من الداخل، لن يدوم بلا وسائل للتحكم والالتحام. تأمَّل ماذا تكون عليه الحال لو تُرك كلُّ امرئٍ لحماية نفسه ومصالحه على خير ما يشتهي، لو أعلن كلُّ فردٍ في الدولة: "الدولة أنا". سينهار النظام إلى حريَّاتٍ فوضويَّة، وسيكون عرضةً للتخريب والحرب الأهليَّة، هذا النظام الذي نراه في حياتنا المعاصرة، الذي جرَّبه آباؤنا الأوَّلون هو ثمرةٌ طيِّبةٌ للتعارف بين الشعوب والالتحام بين القبائل، وقد يُستفاد من هذا التعارف (العلاقة الإيجابيَّة) في إحداث أنظمةٍ اجتماعيَّةٍ وثقافيَّةٍ وحضاريَّةٍ جديدة بين الشعوب، سيكون لها دورها الرائع في التقريب والاشتراك حول مواضيع ووجهات نظرٍ من شأنها التقاء الأمم والشعوب[5].
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] إدوار ويسترمارك: موسوعة تاريخ الزواج، ص572.
[2] جاب: القبائل الهنديَّة واللغات الخاصَّة بسكَّان كوستاريكا، نقلًا عن إدوار ويسترمارك، ص580.
[3] أبو اليسر فرح: تاريخ مصر في عصري البطالمة والرومان، ص31.
[4] جواد علي: المفصل في تاريخ العرب 8/230.
[5] مارشل ساهنلز: فصل "القبليون في التاريخ والأنثروبولوجيا" ضمن كتاب (البدائية)، إشراف أشلي منتاجيو، ص229.
التعليقات
إرسال تعليقك