الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
المصلحة المشتركة هي التي بها يحصل الارتباط الوثيق والعلاقة الوطيدة بين المجتمعات، وتُمهِّد السبل العديدة للتعارف والتقارب بين الشعوب والأمم؛ بل إنَّها
المصلحة المشتركة هي التي بها يحصل الارتباط الوثيق والعلاقة الوطيدة بين المجتمعات، وتُمهِّد السبل العديدة للتعارف والتقارب بين الشعوب والأمم؛ بل إنَّها من أهم آليَّات التطور الحضاري والامتزاج بين الحضارات، والضابط لتلك المصلحة المشتركة أن يربطها التوازن بين الطرفين المتقاربين، سواء على مستوى الأفراد أم الأمم والحضارات، والأدلة على ذلك متعددة منذ بداية نشأة الحضارات.
وإنَّ من ثمرات التعارف الواضحة بين الأمم والشعوب البعدَ عن التصارع والتقاتل، وتحقيق المصلحة العليا لكلِّ الشعوب؛ فمن المعلوم أنَّ طريق الحرير القديم الذي يربط بين الصين ودول آسيا الوسطى بدول أوربَّا والشرق الأوسط كان سببًا للتعارف التاريخي بين هذه الأمم التي ربطت بينهم علاقات اقتصاديَّة وثقافيَّة عدَّة.
وعلى الرغم من أنَّ دول آسيا الوسطى مثل قيرغيزستان وكازاخستان وأوزباكستان كانت تابعةً حتى القرن التاسع عشر للصين، وأنَّ روسيا القيصريَّة استطاعت أن تضمَّ هذه البلدان إلى إمبراطوريّتها ثُمَّ ضُمَّت بعد ذلك إلى الاتحاد السوفيتي، وهو ما سبَّب عداءً بين الصين وروسيا، إلَّا أنَّ كلا الدولتين استطاعتا أن تتخطيا هذه المشاكل التاريخيَّة؛ ليبنوا جسور الثقة والتعاون فيما بينهم بعد استقلال هذه الدول؛ فقد أنشأت هذه الدول منظَّمة شنجهاي للتعاون التي تأسَّست في يونيو عام 2001م بين الصين وروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزباكستان، وإجمالي مساحة هذه الدول 30 مليون كم2؛ أي نحو ثلاثة أخماس أوراسيا، وإجمالي سكانها 1,455 مليار نسمة أو حوالي ربع سكَّان العالم، وطبقًا للميثاق وإعلان قيام المنظمة فإنَّ الأغراض الرئيسة لمنظمة شنجهاي للتعاون هي: تقوية الثقة المتبادلة، وعلاقات حسن الجوار والصداقة بين الدول الأعضاء، وتطوير علاقات التعاون الفعَّالة في الشئون السياسيَّة والاقتصاديَّة والتجاريَّة والعلوم والتكنولوجيا والثقافة والتعليم والطاقة والنقل وحماية البيئة، ومجالات العلاقات الأخرى، والعمل معًا من أجل الحفاظ على الاستقرار والسلام والأمن الإقليمي، وتطوير إنشاء نظام سياسي واقتصادي دولي جديد يتَّسم بالديمقراطيَّة والرشاد والعدالة[1].
ونلحظ في هذه المنظمة ذات الأغراض المهمَّة أنَّها إنَّما قامت بين هذه الدول على أساس التعارف والصلة فيما بينها؛ إذ العلاقات التاريخيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة بين هذه الدول ساعدت بصورةٍ مباشرةٍ في التقارب والتعارف، وهو ما تُرجم في صورة منظَّمة شنجهاي للتعاون.
ويبدو أنَّ الصين قد عرفت الطريق الصحيح السويَّ للتقارب بين الشعوب، من خلال التعارف القائم على مبدأ المصلحة المشتركة؛ فمنذ نصف قرن بدأت الصين في التعارف والتقارب مع القارَّة الإفريقيَّة، والآن تنمو هذه الرابطة بقوَّة؛ فقد تأسَّس في عام 2000م منتدى التعاون الصيني الإفريقي، ومنذ ذلك الوقت ألغت الصين ديونًا على 31 دولة إفريقيَّة مقدارها 1,38 مليار دولار، وتوسَّعت في إلغاء التعريفات الجمركيَّة على بعض الواردات إليها، كما منحت لـ29 دولة إفريقيَّة إعفاءات جمركيَّة على 190 نوعًا من المنتجات، ويُنتظر أن تصل إلى 440 نوعًا، وهذا في مقابل حصول الصين على مصدرٍ رخيصٍ للطاقة بعد الاكتشافات الجديدة لمصادر الطاقة الإفريقيَّة؛ فالصين التي حافظت على معدل نموٍّ يبلغ 9% تحتاج إلى طاقةٍ رخيصةٍ للحفاظ على هذا المعدل، بالإضافة إلى أنَّ إفريقيا سوقٌ جديدةٌ لتصريف المنتجات الصينيَّة، وقد ارتفع حجم التبادل التجاري أربع مرَّات خلال خمس سنوات، فمن 10,5 مليار دولار في 2000م إلى 39,7 مليار دولار في 2005م، كذلك استفادت الصين من أصوات الدول الإفريقيَّة في الأمم المتَّحدة[2].
ومن الأمثلة الشهيرة في هذا السياق قضيَّة النفط العربي، وهي القضيَّة التي بدأت منذ أكثر من نصف قرن، واستمرَّت بأسلوبٍ معروف: الشركة الأجنبيَّة التي تملك الخبرة والوسائل والتقنية لاستخراج النفط من باطن الأرض، والدولة العربيَّة التي تملك حقل النفط. إنَّه يُمكننا استخدام هذه القضيَّة لضرب المثال على استيعاب الدولة العربيَّة والشركة الأجنبيَّة -ومن ورائها الدولة الأجنبيَّة- لمبدأ المصلحة المشتركة لكلا الطرفين، ممَّا أنشأ هذا التعاون وحقَّق هذه الطفرة الاقتصاديَّة في العالم العربي، لا سيَّما في بلاد الخليج، فهنا يبدو -وبوضوح- انعدام وجود مشتركٍ بين الدولة العربيَّة والدولة الغربيَّة إلَّا هذه المصلحة المشتركة، فإذا أضفنا إلى ذلك عشرات الآلاف من العمَّال والمهندسين من شتَّى أجناس الأرض قد جاءوا من أجل فرصة عمل، علمنا كيف يُمكن أن يُؤَدِّي مثل هذا العمل إلى التعارف والاندماج بين عشرات العرقيَّات والجنسيَّات والعقائد.
ومن اللحظات التاريخيَّة الفاصلة ما حدث من توقيع ميثاق الأمن والتعاون الأوربِّي في باريس يوم 20/11/1990م، بواسطة 16 دولةً من دول حلف الأطلنطي + 6 دولٍ تُشكِّل حلف وارسو + 12 دولةً أوربيَّة محايدة + الولايات المتحدة وكندا. هذا التوقيع يُعتبر بداية مرحلة جديدة قام على أنقاض مرحلةٍ قديمة، ومنه يبدأ ما عُرف بـ"النظام العالمي الجديد" الذي دعا إلى حلِّ النزاعات بالمفاوضات، ودون استخدام القوَّة على أساسٍ من تبادل المصالح وتوازنها، مع ترك سباق التسلُّح والتحرُّك على أساس موازين القوى، وكذلك التزام الدول بالديمقراطيَّة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان[3].
إنَّ المصلحة المشتركة كانت العامل الوحيد الذي دخل الكيان الصهيوني من خلاله إلى الدول الإفريقيَّة حيث لا مشتركات أخرى، وهذا ما ذكرته جولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني في مذكراتها، وهي تسرد كيف تخلَّص الكيان الصهيوني من الوحدة التي عاناها، لا سيَّما مع توتُّر علاقاتها مع أميركا وروسيا ومع رفض الدول الآسيويَّة لقيام علاقاتٍ طبيعيَّة معها، قالت: "اعتدتُ على أن أجيل النظر حولي في الأمم المتحدة خلال عامي 57، 1958م قائلة لنفسي: ليست لنا عائلةٌ هنا، فلا يُوجد من يُشاركنا ديننا أو لغتنا أو ماضينا، إنَّ بقيَّة العالم تبدو تكتُّلات وتجمُّعات نشأت بسبب التاريخ والجغرافيا، واجتمعت لتخلق اهتمامات مشتركة لديهم، لكن جيراننا -حلفاءنا الطبيعيِّين- لا يُريدون أيَّ صلةٍ بنا، ونحن في الواقع لا ننتمي لأيِّ مكان، ولا لأيِّ أحدٍ سوى أنفسنا... لكنَّ العالم لم يكن مقصورًا على الأوربيِّين والآسيويِّين؛ فقد كانت هناك الدول الإفريقيَّة الناشئة الساعية إلى الاستقلال، وكان لدى إسرائيل الكثير ممَّا تُعطيه... قد يقول قائلٌ: إنَّنا ذهبنا إلى إفريقيا لأنَّنا كنَّا بحاجةٍ إلى أصوات مؤيِّدة في الأمم المتحدة. وأقول: نعم! صحيحٌ أنَّ ذلك لم يكن العامل الوحيد، لكنَّه كان عاملًا مهمًّا"[4].
ومن النماذج الحيَّة والتاريخيَّة لقضيَّة التعارف والتواصل نجد المنطقة الأكثر سخونةً في العالم، ونقصد الشرق الأوسط ممثَّلًا في بلدانه العربيَّة، فهذه المنطقة تقع في مجملها في المنطقة الصحراويَّة، ويُعاني من ندرة المساحة في الأراضي الصالحة للزراعة، ولكنَّ السودان -على سبيل المثال- يُعاني من عجزه عن استثمار المساحات الواسعة من الأراضي الخصبة؛ تبلغ مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في السودان 2,2 مليون فدان؛ أي ثلث المساحة الكليَّة للسودان، لا يُستغلُّ منها إلَّا خُمسها فقط (21%) بواقع 42 مليون فدانٍ فقط، هذا إلى جانب الأراضي الأخرى التي تشغلها الغابات بمساحة 65 مليون فدان، والمراعي بمساحة 215 مليون فدان، وتشكو كلُّ هذه المساحات من ضعف التمويل والاستثمارات، وضعف البنى الأساسيَّة، وتخلُّف التقنيَّات والنظم الإداريَّة[5].
وعلى الرغم من كون المستثمَر من الأرض ليس إلَّا الخمس فقط فإنَّ الزراعة هي النشاط الرئيس والرائد في الاقتصاد السوداني؛ فهي تُسهم في الناتج المحلِّي الإجمالي بنسبةٍ تقترب من النصف، (في عام 2006م كانت نسبة القطاع الزراعي والحيواني 39,2%، ومعدل النمو 8,3%)، وأنَّه يستوعب 75% من القوى العاملة، ويعيش عليه 70% من السكان، ويُسهم بحوالي 90% من العائدات غير البتروليَّة، وبحوالي 90% من حصيلة الصادرات من النقد الأجنبي[6].
كما يمتلك السودان أعلى ثروة حيوانيَّة بالنسبة إلى البلاد العربيَّة والإفريقيَّة؛ إذ يبلغ العدد 140 مليون رأس من الغنم والبقر والإبل، وهذه الثروة الحيوانيَّة تعيش على المراعي الطبيعيَّة التي تملأ الأرض السودانيَّة، وهي تكفي -برأي المراقبين- لأنْ تجعل العالم العربي يعيش في وفرة[7].
فها نحن أمام حالةٍ لا تحتاج إلَّا إلى توافرٍ في رأس المال والخبرة، وهو موجودٌ لدى كثيرٍ من الدول العربيَّة التي تفتقد هذه المساحات الشاسعة من الأراضي الخصبة والمراعي؛ فالمنطقة العربيَّة تُعاني من ندرة الأراضي؛ إذ تُعدُّ نسبة 54,8% (أكثر من نصف مساحة العالم العربي) من مساحتها أراضي خالية، وتُمثِّل المراعي منها نسبة 26,8%، ونسبة الأراضي الصالحة للزراعة 14,5% فقط، ولكن لا تُمثِّل نسبة الأراضي المزروعة إلَّا 29% من مساحة الأرض القابلة للزراعة؛ أي 4,2% فقط[8].
ولقد انتبهت بعض الدول العربية لهذا الجانب بالفعل؛ فقدمت الكويت في فترات سابقة حوالي مليار دولار لـ24 مشروعًا استثماريًّا بمجالات الزراعة والصناعة في السودان، بجانب 31 مليون دولار لتمويل مشروعات قطاعيَّة ودراسات جدوى. وكذلك تُعدُّ من أهمِّ المشاريع الاستثماريَّة الخليجيَّة بالسودان الهيئةُ العربيَّة للاستثمار والإنماء الزراعي، التي يتمثَّل نشاطها بالإنتاج الزراعي والحيواني شراكةً بين 19 دولة عربيَّة بحوالي 5 مليارات دولار، بلغ المدفوع منها حتى نهاية عام 2004م نحو 1,33 مليار دولار بنسبة استثمار بلغت 17% بالسودان، و29% ببقيَّة الدول العربيَّة الأخرى. وبجانب ذلك مشروع سكر كنانة (في ولاية النيل الأبيض) الذي يُعدُّ نموذجًا للمصانع الناجحة لتكامل رأس المال العربي، وسد مروى (في شمال السودان) الذي يُعتبر أحد أكبر السدود المائيَّة بالمنطقة العربيَّة والإفريقيَّة لإنتاج الكهرباء بتكلفة 1,8 مليار دولار، بالإضافة إلى مصنع سيراميك رأس الخيمة[9].
وتُعتبر العلاقة بين مصر والسودان نموذجًا لحالة المصلحة المشتركة التي تُعمِّق وتُرسِّخ ما بين البلدين من مشتركاتٍ أخرى كالدين واللغة والأرض والتاريخ؛ إذ إنَّ السودان يُمثِّل عمقًا استراتيجيًّا لمصر، واستقراره هو جزءٌ ركينٌ من الأمن القومي المصري، كما تُمثِّل مصر مظلَّة قويَّةً وقوَّة دفعٍ كبيرةٍ وسندًا عربيًّا وإفريقيًّا لا يُمكن الاستغناء عنه.
ولقد برز جانب العمق الاستراتيجي -الذي لا غني عنه للأمن القومي المصري- في عام 1967م حين لم تجد مصر إلَّا السودان لكي تنقل إليه المتبقي من سلاح قوَّات الجوِّ حتى يكون بعيدًا عن متناول الكيان الصهيوني المتمتِّع بتفوُّق جوي كبير، إلى جانب أنَّ السودان هو البلد الذي يستقبل النيل قبل أن يصل إلى مصر، واضطراب الأوضاع في السودان يُفضي إلى كثيرٍ من المتاعب بالنسبة إلى مصر؛ فمنها: تزايد حركات تهريب السلاح التي قد تُستخدم في عنفٍ داخلي، وكذلك تزايد معدلات الهجرة غير الشرعيَّة التي تُمثِّل عبئًا على مرافق الدولة، بالإضافة إلى اختلال التوازن الإقليمي الذي يسمح بصعود دولٍ أخرى في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر، ولن تكون بطبيعة الحال أفضل لمصر من السودان، وكلُّ هذا يُعدُّ هامشيًّا بالنسبة إلى التأثير على شريان الحياة في مصر: النيل. وكلُّ هذا يُؤدِّي إلى حصار مصر وتقلُّص دورها وتأثيرها ومكانتها الإقليميَّة[10]. وعلى الرغم من هذه التأثيرات فإنَّ السؤال المحيِّر: ماذا تنتظر مصر؟ ولماذا تقف متفرِّجة على ما يجري؟[11].
وإذا ابتعدنا عن الجانب الاقتصادي فثمَّة ضرورات إستراتيجيَّة لا يُمكن تجاوزها؛ فالعلاقة بين الشام وبين مصر، وكذلك بين الشام وبين الحجاز، ثُمَّ بين العراق والحجاز، وكذلك بين دول الخليج والحجاز.. كلُّ هذه علاقات تُحدِّدها قاعدة عمقٍ استراتيجيٍّ في مقابل خطوط دفاعٍ متقدِّمة.
فكلُّ نقطةٍ متقدِّمة تُمثِّل لمن خلفها خطَّ دفاعٍ أوَّل، وكذلك النقطة المتأخِّرة تُمثِّل عمقًا استراتيجيًّا وخطوط إمدادٍ خلفيَّة، ولا أدلَّ على هذا من العلاقة بين الشام ومصر؛ "فوفقًا لمفهوم الأمن القومي المصري، كما تُشكَّل عبر التاريخ، فإنَّ الدفاع عن مصر يبدأ شمالًا من جبال طوروس جنوب الأناضول، مرورًا بسوريا وهو خطُّ دفاعها الأوَّل، ثُمَّ تُشكِّل فلسطين خطَّ دفاعها الثاني، ثُمَّ نأتي إلى سيناء وهي خطُّ الدفاع الأخير عن مصر"[12].
وتبدو هذه القاعدة في غاية الوضوح إذا استرجعنا تاريخ المنطقة، ولا سيَّما في حالة الهجمة المغوليَّة الكاسحة، فلقد مثَّلت مصر خطَّ الإمداد لمنطقة الشام، ومثَّلت الشام خطَّ الدفاع عن مصر، إلى أن انكسر المغول على أيدي الجيش المصري فوق الأرض الشاميَّة. ومن قبل هذا كانت الوحدة بين مصر والشام هي الضربة القاصمة للوجود الصليبي في الشرق، ومن بعدها صارت المسألة مسألة وقت.
فالعالم العربي -على وجه الخصوص- نموذجٌ مثاليٌّ لاجتماع عوامل الوحدة وعوامل المصلحة المشتركة، ولكن يبقى الاحتياج إلى إرادةٍ سياسيَّةٍ تستثمر هذه العوامل لصناعة التقاءٍ متينٍ يكون له وزنه على الساحة العالميَّة؛ ولذلك يُمكن أن نلحظ بكلِّ وضوحٍ مدى التقارب والتعايش والتعارف الذي وصلت إليه هذه البقعة الجغرافيَّة حينما تحقَّقت تلك العوامل المهمَّة.
ولسنا نُبالغ إن قلنا: إنَّ القرن الماضي -لا سيَّما نصفه الأخير- كان مسلسلًا من التكتُّلات والتحالفات المبنيَّة على قاعدة المصلحة المشتركة؛ فلقد سعى كلُّ قومٍ تجمع بينهم نوع مصلحةٍ إلى إنشاء رابطةٍ أو حلفٍ أو عقد معاهدةٍ أو اتفاقيَّةٍ مشتركةٍ لرعايتها؛ ولذا تعدَّدت الروابط والهيئات والمنظَّمات وكثرت أسماؤها، فلدينا: الاتحاد الأوربِّي، حلف وارسو، حلف بغداد، الكومنولث المستقل، مجلس التعاون الخليجي، الاتحاد الإفريقي، جامعة الدول العربيَّة، منظمة الفرانكفونيَّة، منظمة دول حوض النيل، دول بحر قزوين.. إلخ. حتى الدول التي لم ترد أن تكون تابعةً لقطبٍ في الشرق أو الغرب، قادت حركة "دول عدم الانحياز"!
والأصل أنَّ "أعضاء مثل هذه النظم يُكوِّنون عائلةً واحدةً تتَّفق مصالحها وتسعى فيما بينها إلى الأمن المتبادل.. في مثل هذه الأنظمة يتحرَّك الأعضاء بإراداتٍ ناقصةٍ ليُحقِّقوا معظم أغراضهم، ويُوزِّعون فيما بينهم الأدوار، ويعملون جبهةً واحدةً لمواجهة التهديدات الخارجيَّة أو التحديَّات الداخليَّة"[13].
إنَّ هذه المنظمات هي تعبيرٌ عن التواصل المستند إلى "المشتركات الخاصَّة" بين أعضائها، ثُمَّ تثبيتها وترسيخها وتطويرها عبر إضافة عنصر "المصلحة المشتركة" إلى علاقات الارتباط القائمة.
فبُعيْد تفكُّك الاتحاد السوفيتي وحصول دول وسط آسيا على استقلالها عن الاتحاد السوفيتي اشتركت هذه الدول منذ البداية في تحالف كانت موسكو -وريثة الاتحاد السوفيتي- من أعضائه، ما جعلها تبدو متحالفةً معها، حتى أوزبكستان التي خرجت من هذا التحالف بإغراءٍ أميركي في عام 2002م، سرعان ما عادت إليه حين لم تعجبها قواعد اللعبة، ثُمَّ عقدت هذه الدول مع أرمينيا وأذربيجان وبيلا روسيا ومولدوفيا اتفاقيَّة الأمن الجماعي في مايو 1992م، هدفت إلى إقرار مبدأ الحماية المشتركة والردِّ الجماعي على أيِّ اعتداءٍ تتعرَّض له إحدى الدول الأعضاء، ثُمَّ تطوَّرت الاتفاقيَّة -في مايو 2006م- إلى مرحلةٍ أعلى تتمثَّل في "بناء دولي متعدِّد الوظائف" له الحقُّ في إنشاء قوَّة ردعٍ سريعة، متبعة منهج حلف الناتو في هذا الشأن، وفي نهاية العام أعلنت أنَّها بصدد توحيد القوَّات الجويَّة بين الدول الأعضاء خطوةً أولى على طريق تشكيل تحالفٍ عسكريٍّ مشترك[14].
ولنا أن نعلم أنَّ العالم العربي مضطرٌّ إلى التفاهم عن طريق المصالح المشتركة -مع الدول التي يشترك معها في الأرض وفي بعض التاريخ وبعض العرق- للحصول أو المحافظة على موارده المائيَّة؛ فالحجم الإجمالي لموارد المياه المتوافرة في البلدان العربيَّة بنحو 300 مليار متر مكعب سنويًّا، تُمثِّل منها موارد المياه السطحيَّة ما يُقدَّر حجمه الإجمالي بنحو 277 مليار متر مكعب في السنة[15]، ولكن المهم -في سياقنا الآن- أنَّ أكثر من نصف موارد المياه السطحيَّة في العالم العربي مشتركٌ مع دول أخرى (57%)؛ أي أن النهر قد يصدر في البلد العربي ويمرُّ ببلادٍ أخرى، أو العكس[16].
وعلى كلٍّ فإنَّ البحث عن الأسباب والآليَّات التي تُقرِّب بين الشعوب وتعمل على تعارفها ستأخذنا -لا محالة- إلى التجارة وآثارها؛ باعتبارها من أعظم الوسائل المعبِّرة عن المصلحة المشتركة بين الشعوب؛ لقد كان لشركة الهند الشرقيَّة الهولنديَّة دورٌ كبيرٌ في إنشاء العلاقات التاريخيَّة بين الهولنديِّين والعرب، وخاصَّةً شبه الجزيرة العربيَّة، ويعود عمق هذه العلاقات إلى مدَّة تقارب الأربعة قرون، حيث بدأت تحديدًا في عام 1614م بإقامة علاقاتٍ تجاريَّةٍ بين جنوب وشرق شبه الجزيرة العربيَّة، خاصَّةً تجَّار جدَّة ومكة وعدن وبين الشركة.
ويبدو من خلال ذلك أنَّ شركة الهند الشرقيَّة الهولنديَّة كانت من أوائل الشركات التي تُعرف بالمفهوم الحديث بالشركات "العابرة للحدود" رمزًا من رموز العولمة، ونمطًا اقتصاديًّا يمدُّ العلاقات بين الدول والشعوب والأنساق الاقتصاديَّة. ومن اللافت أن يتبع "التعارف الاقتصادي" تعارف "ثقافي علمي" خاصَّةً من الجانب الهولندي؛ حيث بدأ الاهتمام ببعض كتب التراث العربي المشهورة، وقد كان لقيام الشاعر الهولندي فان مارلانت بترجمة النصِّ اللاتيني للكتابين العربيَّين "سر الأسرار" و"عروة وعفراء" الدافع الرئيس للعلماء الهولنديِّين لمعرفة روعة اللغة العربية، وأهميَّة تعلُّمها للاطلاع على الأبعاد الثقافيَّة والعلميَّة لهذه الحضارة الشرقيَّة الراقية، خاصةً في المجالات الأكثر تقدُّمًا: كالأدب والفلسفة وعلوم الطبِّ والفيزياء والكيمياء والرياضيَّات والجغرافيا والفلك وغيرها، ومن جهةٍ ثانيةٍ كان تعلُّم اللغة العربيَّة ضروريًّا لتدعيم النشاطات التجاريَّة المميَّزة التي اشتهرت بها هولندا في تعاملاتها مع البلاد العربيَّة وغيرها، وباتت مفردات اللغة الهولنديَّة -وفق المصادر الرسميَّة- تتضمَّن أكثر من 160 كلمة من الكلمات ذات الأصل العربي، وتنوَّع التعرف الثقافي والعلمي، وزاد نشاطه في القرون المتأخرة، حتى تُوِّج هذا التعارف والتواصل الحضاري بأن تولَّت جامعة لَيْدن تنظيم مؤتمر عالمي حول الإسلام في القرن الواحد والعشرين في الفترة من 3-7 يونيو 1996م بالتعاون مع وزارة الشئون الدينيَّة الإندونيسيَّة، وحضر المؤتمر 120 باحثًا من أنحاء العالم، وقد بحث المؤتمرون أوضاع العالم الإسلامي في القرن القادم من خلال ثلاثة محاور: الإسلام والمجتمع الدولي، والإسلام والتنمية، والإسلام والتعليم. وقد كانت هذه الفعاليَّات نتيجةً مباشرةً للتعارف الحضاري بين العرب وهولندا منذ بدايات القرن السابع عشر[17].
ومن أبرز الأمثلة التي تُدلِّل على أثر التعارف بين الأمم ما قام به بعض المستشرقين من حفظٍ ونشرٍ للتراث الإسلامي، وكان لمجهود هؤلاء دورٌ كبيرٌ في استعادة النصوص القديمة المفتقدة، وفتح الباب من جديد أمام تراثٍ أعاق نشره عنت المستعمرين فضلًا عن جهل المسلمين في العصور المتأخرة، ومن اللافت أنَّ حركة نشر التراث التي حمل عبأها المستشرقون من علماء الغرب قد ساعدت -بشكلٍ كبيرٍ- في إحداث نوعٍ من التقارب بين المسلمين وبعض هؤلاء المستشرقين المنصفين، فضلًا عن المعرفة الوثيقة التي نشرها المستشرقون ومن خلفهم أبناء جلدتهم وشعوبهم، كما أنَّ كثيرًا من أبناء المشرق قد ذهبوا في بعثاتٍ علميَّةٍ منذ بداية القرن العشرين للتخصُّص في العلوم المحضة، وكذا الإسلاميَّة والعربيَّة وتعلُّمها على أيدي المستشرقين وعلماء الغرب، وهو ما زاد من وتيرة التقارب والتواصل بين الجانبين[18].
ومن وسائل التقارب والتعارف والتواصل الإنساني الموجودة بالفعل وجود أمم خوَّلها الموقع الجغرافي، والبنية الاجتماعيَّة لأنْ تكون ملتقًى للشعوب، وجسرًا للتفاعل الحضاري بين الأمم، ومن هذه المناطق نجد بلاد البلقان؛ فلقد اعتُبِر هذا الموقع حتى وقتٍ قريبٍ حافزًا للتفاعل والتعاون، وكان يُشار إليه دائمًا باعتباره الجسر بالمفهوم الجغرافي والثقافي، وهكذا لم تمنع مطرانيَّة فان نولي (1882-1965م) رأس الكنيسة الأرثوذكسيَّة في ألبانيا ورئيس الحكومة فيها خلال عام 1924م على أن يعتبر ألبانيا بالذات -لكونها تحتضن الإسلام والأرثوذكسيَّة والكاثوليكيَّة- هي التي تقوم بدورٍ خاصٍّ يقوم على الإسلام والمسيحيَّة، وكذلك كان الرئيس الألباني السابق صالح بريشا (1992- 1997م) يُرحِّب بأن تلعب ألبانيا دور الجسر بين أوربَّا والعالم الإسلامي[19].
وهذه الدعوة التي وجهها زعماء ألبانيا للتعارف والتقارب، نجدها في بلدٍ يحوي تعدديَّة مذهبيَّة وطائفيَّة وإثنيَّة بشكلٍ لافتٍ وملحوظ، ونقصد لبنان؛ فرئيس وزراء لبنان الأسبق (سليم الحص) يُقَرِّر أنَّ التعدُّدِيَّة "هي قوَّة لبنان، إنَّه ملتقى الأديان السماويَّة؛ ففيه المسلم والمسيحي يعيشان جنبًا إلى جنبٍ في تفاعلٍ اجتماعيٍّ وطنيٍّ وثقافيٍّ بنَّاء. التعدديَّة في لبنان طائفيَّة: بوجود الإسلام والمسيحيَّة، وكانت اليهوديَّة حتى الحرب العربيَّة الصهيونيَّة عام 1948م. وهي -أيضًا- مذهبيَّة بوجود شتَّى المذاهب الإسلاميَّة، وهي كذلك إثنيَّة؛ فوسط أكثريَّة عربيَّة تجد الأرمني والكردي والآشوري وخلافهم"[20]؛ ولذلك تُوصف لبنان بأنَّها من أكثر دول الشرق الأوسط ديمقراطيَّة، وأنَّ التعارف والانفتاح الذي تشهده لبنان وتعايشه يوميًّا قد أتاح لها نوعًا من الثقافة لا نكاد نجده في دولةٍ من الدول القريبة منها؛ ولذلك فالتجربة اللبنانيَّة جديرةٌ بالدراسة لمن أراد التعايش والتواصل والتعارف على الآخر بصورةٍ قائمةٍ على أسسٍ سليمة، ومعاييرَ واضحة، وتجربةٍ سابقة.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] مدحت أيوب: تقرير بعنوان "العلاقات الآسيوية في إطار منظمة شنجهاي"، ضمن كتاب (العلاقات الآسيوية الآسيوية)، تحرير هدى ميتكس ص230، 231.
[2] جورج ثروت فهمي: العلاقات الصينية الإفريقية.. شراكة اقتصادية دون مشروطية سياسية، مجلة السياسة الدولة - العدد 167، يناير 2007م، ص89.
[3] أمين هويدي: أزمة الخليج، أزمة الأمن القومي العربي، ص82.
[4] جولدا مائير: اعترافات جولدا مائير، ص242.
[5] من تقرير منشور على موقع وزارة الزراعة والغابات السودانية: http://www.sudagric.gov.sd.
[6] من تقرير منشور بموقع بوابة الاقتصاد السوداني: www.sudaneconomy.com.
[7] من موقع وزارة الثورة الحيوانيَّة والسمكيَّة السودانيَّة: www.marf.gov.sd.
[8] مصطفى كمال طلبة: التحديَّات البيئيَّة الأساسيَّة في البلدان العربيَّة، ص34.
[9] تقرير منشور على شبكة الجزيرة الإخبارية، بتاريخ 10/11/2006م، على الرابط: www.aljazeera.net.
[10] هانئ رسلان: العلاقات المصرية السودانية.. نحو شراكة استراتيجية، مجلة السياسة الدولية - العدد 169 - يوليو 2007م، ص215.
[11] فهمي هويدي: مقال "مصر في السودان.. غيبة أم غيبوبة؟"، موقع الجزيرة نت، على الرابط: www.aljazeera.net.
[12] داليا عبد القادر عبد الوهاب: غزة والأمن القومي المصري، مجلة السياسة الدولية - العدد 175- إبريل 2010م.
[13] أمين هويدي: أزمة الخليج، أزمة الأمن القومي العربي، ص13، 14.
[14] عاطف عبد الحميد: روسيا آسيا الوسطى.. حماية المصالح واحتواء الأخطار، مجلة السياسية الدولية القاهرية - عدد 170- أكتوبر 2007م، ص83.
[15] طبقًا لحسابات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي - مكتب تقرير التنمية الإنسانية العربية، بالاستناد إلى قاعدة البيانات الإحصائية لنظام المعلومات العالمي عن المياه والزراعة (AQUASTAT) لدى منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة.
[16] من تقرير المنظمة العربية للتنمية الزراعية، التابعة لجامعة الدول العربية لعام 2003م.
[17] حميد الهاشمي: العرب وهولندا، الأحوال الاجتماعية للمهاجرين العرب في هولندا، ص85-87.
[18] انظر: علي بن إبراهيم: المستشرقون ونشر التراث، ص47، 48.
[19] محمد الأرناءوط: فصل بعنوان "البلقان ساحة للتفاعل/ عدم التفاعل بين الثقافات"، ضمن كتاب أوربا وحوار الثقافات الأورمتوسطيَّة، ص143، 144.
[20] سليم الحص: تعالوا إلى كلمة سواء، ص305.
التعليقات
إرسال تعليقك