الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
لكلمة المصلحة مردود سيِّئ عند أغلب الناس؛ حيث تُفهم على أنها ضرب من ضروب الأنانية والأثرة، لكن في هذا المقال يوضح الدكتور راغب السرجاني المعنى الصحيح
المصلحة مبدأ فطري
الحقُّ أنَّ مِن جملة ما يُميِّز الإنسان أنَّه كائنٌ سريع التأقلم والتكيُّف؛ فهو كائنٌ اجتماعيٌّ يعيش ويتعايش، ويبحث أينما كان عن أضرابه وأشباهه من بني جنسه؛ فأينما كان الإنسان كان الاجتماع البشري، والتعارف بين الأسر الصغيرة والعائلات الكبرى، حتى يصل مستوى التعارف بين الإنسان والآخر إلى أعلى مراحله وأرقى مستوياته بين الدول بعضها مع بعض.
ومن اللافت أن يتناول علماء الاجتماع موضوع التعارف والاختلاط بين الشعوب في دائرة ما يُسمَّى بـ(العلاقات الإيجابيَّة) داخل العمليَّات الاجتماعيَّة، فهم يُقرِّرون أنَّه عندما ينشأ مجتمعٌ ما -أيًّا كان نمط هذا المجتمع- فإنَّه من المسلَّم به أن تنشأ بين أفراده وجماعاته وهيئاته ومؤسَّساته علاقاتٌ اجتماعيَّةٌ متعدِّدة الأشكال، متشابكة الأنواع، مركَّبة الأبعاد والألوان...
و"التعارف" كلمةٌ ترادف -في المصطلح الاجتماعي- "العلاقات الاجتماعيَّة"، وهي نموذجٌ للتفاعل الاجتماعي المتبادل بين شخصين أو أكثر، وقد ارتأى بعض علماء الاجتماع أنَّ العلاقات الاجتماعيَّة تستند إلى الاتصال، ويُشير الاتصال إلى ضرورة تبادل الاتجاهات بين الأشخاص أو الجماعات؛ لحدوث التفاعل الاجتماعي واستمراره[1].
فالتفاعل الاجتماعي المتبادل الذي يجعله علماء الاجتماع شرطًا في إتمام عمليَّة التعارف إنَّما هو دليلٌ على الالتقاء على المصلحة المشتركة، ومبدأ المصلحة هو مبدأٌ يعرفه الإنسان بفطرته وغريزته ويُقرِّره بعقله، بل تعرفه سائر الكائنات الحيَّة التي تعيش في هذه الحياة بدافعٍ من غرائزها، أو بتعبير الإمام الغزالي: "جلب المنفعة ودفع المضرَّة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم"[2].
مبدأ المصلحة في الإسلام
وهو لهذا مبدأٌ قرَّرته الشرائع والأديان والفلسفات على اختلافها الواسع، بل إنَّ هذه الأديان والشرائع والمناهج وجدت في الأصل لتحقيق المصلحة؛ فللمصلحة -وحدها- أنزل الله الكتب وأرسل الرسل وقرَّر الشرائع، وللمصلحة -وحدها- فاضت عقول الفلاسفة والمنظِّرين والمفكِّرين بهذا التراث الإنساني الواسع، و"الحلال والحرام معروفٌ في كلِّ أمَّةٍ من قديم، وإن اختلفوا في مقدار المحرَّمات، وفي نوعها، وفي أسبابها"[3].
ويُفصِّل الإمام الغزالي معنى المصلحة التي نزل لأجلها الشرع فيقول: "مقصود الشرع من الخلق خمسة؛ وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم؛ فكلُّ ما يتضمَّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكلُّ ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدةٌ ودفعها مصلحة"[4].
ويتَّضح هذا المعنى في وصف الله -تعالى- لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( [الأنبياء: 107]. وهو الوصف الذي كرَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن نفسه، فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ"[5].
ويُقرُّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مبدأ المصلحة، بل يَحثُّ على أن يطلب الإنسان ما يُصلح أمره، فيقول: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ"[6]. ويُعلِّق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا بقوله: في الحديث أمر بالتسبب المأمور به وهو الحرص على المنافع، وأمر مع ذلك بالتوكُّل وهو الاستعانة بالله[7].
وفي الإسلام هجومٌ شديد على ترك الأخذ بالأسباب، والحرص على المصالح بدعوى التوكُّل على الله. وقد كان أهل اليمن يحجُّون ولا يتزوَّدون، يقولون: نحن المتوكِّلون، فإذا قدموا -أي وصلوا مكة- سألوا الناس، فقال الله تعالى: )وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى([8] [البقرة: 197].
وفي القرآن الكريم أمرٌ بالتعاون في أمر المصالح، قال تعالى: )وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى( [المائدة: 2]، ويرى الإمام القرطبي أنَّ هذا "أمرٌ لجميع الخلق بالتعاون على البرِّ والتقوى"[9]؛ ذلك أنَّ التعاون عليها يُكسب محبَّة تحصيلها، فيصير تحصيلها رغبةً لهم، فلا جرم أن يُعينوا عليها كلَّ ساعٍ إليها، ولو كان عدوًّا، وإن كانوا كفارًا يُعَاوَنون على ما هو بر؛ لأنَّ البرَّ يهدي للتقوى[10].
ويُلاحظ أنَّ الآية ذكرت البر والتقوى، وكما يقول الإمام الماوردي: فإنَّ البرَّ هو رضا الناس، والتقوى هي رضا الله[11]. فمن هنا نرى كيف أنَّ التعاون لمصلحة الناس هو أمرٌ من الله تعالى؛ ولذلك فالتعارف مبدأٌ إلهيٌّ سعى إلى توطيد أركان المصلحة المشتركة بين الإنسان وأخيه الإنسان.
وفي معنى التعاون يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ"[12]. وفي معنى تحقيق مصالح الآخرين يقول صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ"[13].
ومن اللافت أنَّ أحكام الفقه الإسلامي قد قامت على مراعاة مصالح الناس، إلى الحدِّ الذي تتغيَّر فيه الفتوى بخضوعها لاعتبارات المصلحة، ولقد أفرد الإمام ابن القيم فصلًا في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) -وهو الكتاب الذي يُناقش أصول الفتوى والإفتاء- جاء عنوانه هكذا "فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغيُّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيَّات والعوائد؛ بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد"، وضح فيه هذه الفلسفة التي تقوم عليها الشريعة فقال: "الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها ورحمةٌ كلُّها ومصالحُ كلُّها وحكمةٌ كلُّها؛ فكلُّ مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة"[14].
مبدأ المصلحة في الفلسفة
ولقد قامت كلُّ الفلسفات الاجتماعيَّة على قاعدة تحقيق المصلحة بين الناس[15]، فبخلاف الفلسفات التي تطرَّفت في التركيز على الفرد وأهملت النظر إلى المجتمع -كما هو الحال عند نيتشه على سبيل المثال- فإنَّ "المصلحة المشتركة" كانت هي الأساس والمنطلق لبقيَّة الاتجاهات الفكريَّة. ولا يدخل في كلامنا بطبيعة الحال الفلسفات البراجماتيَّة والعبثيَّة والنسبيَّة الشاملة، تلك التي يُسمِّيها الدكتور عبد الوهاب المسيري بـ(العلمانية الشاملة)، حيث المركز الوحيد لكلِّ هذه الفلسفات هي اللذَّة الشخصيَّة الأنانيَّة.
كان حلم أفلاطون متمثِّلًا فيما سمَّاه (الجمهوريَّة الفاضلة)، لم يكن له من هدفٍ سوى "تحقيق الانسجام بين طبقاتها[16] المختلفة؛ ولأجل هذا الانسجام الذي يأتي على الجميع بالسعادة طالب كلَّ فردٍ أن يقوم بوظيفته على الوجه الأمثل في المكان الذي خُلق له"[17].
ولقد أتت ثورة مذهب المنفعة على يد بنثام، ثُمَّ تلميذه ستيورات مل، ولكن ثَمَّة ملاحظة مهمَّة ينبغي الالتفات إليها في سياقنا الآن، تلك هي أنَّ واضع مذهب المنفعة بنثام كان قد "خرج تمامًا عن الدين (المسيحي)"[18] فيما كان تلميذه المغرم به والمنظِّر الثاني لفلسفته ستيورات مل محتفظًا "بعقله الحكيم والكاثوليكي"[19]. أي أنَّ أصل المذهب وجوهره لم يكن يتناقض مع الدين، ما يعني أنَّ الفكرة نفسها تستطيع أن تكون مشتركًا بين المؤمنين وغير المؤمنين.
وعلى الرغم ممَّا بين فلسفة "العقد الاجتماعي" وفلسفة "المنفعة العامَّة" من فوارق مؤثِّرة، فإنَّه من الواضح بمكان أنَّ نظرة المصلحة المشتركة كانت الأساس الخفي في كلٍّ منهما.
الفرق بين المصلحة الإنسانية والأنانية
غير أنَّه لا بُدَّ من التنبيه بأنَّ المصلحة المقصودة -في رؤية الأديان والفلسفات الأخلاقيَّة- هي المصلحة بمعناها الإنساني الواسع؛ ولذا فهي في أعماقها تعبيرٌ عن التعارف والتعايش الذي يُحقِّق المنفعة للجميع، أو على أقلِّ الأحوال البحث عن المصلحة التي لا تُمثِّل مفسدة لآخرين، وذلك يختلف تمام الاختلاف عن تلك المصلحة الأنانيَّة التي تجور وتعتدي على مصالح الآخرين لحساب منفعة الذات فقط. وعند هذه النقطة ينشأ الافتراق الكبير بين الأديان والفلسفات الأخلاقيَّة، وبين الفلسفة البرجماتية التي تُنَظِّر للمنفعة الشخصيَّة التي تُؤدِّي إلى التقاتل والفناء، وتُعدُّ أحد مظاهر الفلسفات الماديَّة العبثيَّة. إنَّ رسالة الأديان والفلسفات الأخلاقية تتركز على تهذيب النفس، وكبح جماح مشاعرها الأنانيَّة، وانطلاقاتها المفسدة، وهذا هو جوهر ما ترفضه فلسفة البرجماتيَّة.
اتَّضح هذا الأمر في تعاليم الإسلام، من خلال القاعدة الإسلامية الشهيرة (لا ضرر ولا ضرار)، وهذه القاعدة هي نصُّ حديثٍ نبوي؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ"[20]. ونُطالعها -أيضًا- في القرآن الكريم في آيات نفي الضرر، قال تعالى: )وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا( [النساء: 29]، )وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ( [البقرة: 195]، وغيرها.
والفارق بين الضرر والضرار -كما قال ابن عبد البر، وابن الصلاح- هو أنَّ الضرر في أن يُدخل الإنسان على غيره ضررًا في سبيل منفعته هو، وأمَّا الضرار فهو أن يُدخل على غيره ضررًا، ولو لم تكن له منفعة[21].
وقد بلغ الحرص عند فقهاء الإسلام إلى الدرجة التي اختلفوا فيها حول الضرر الذي تُسَبِّبه دابَّةٌ لدابَّةٍ أخرى، هل يلزم صاحبها التعويض؟ يقول الإمام ابن قدامة المقدسي: "وإذا بالت دابَّتُه في طريق، فزلق به حيوانٌ فمات، فقال أصحابنا (أي الحنابلة): على صاحب الدابَّة الضمان إذا كان راكبًا لها أو قائدًا أو سائقًا لها؛ لأنَّه تَلَفٌ حصل من جهة دابَّته التي يده عليها، فأشبه ما لو جَنَتْ بيدها أو فمها. وقياس المذهب (الحنبلي) أنَّه لا يضمن ما تلف بذلك؛ لأنَّه لا يَدَ له (أي: لا سيطرة له) على ذلك، ولا يُمكن التحرُّز منه، فلم يضمن ما تلف به، كما لو أتلفت برجلها، وكما لو لم يكن له يَدٌ عليها، ويُفارق هذا ما أتلفت بيدها وفمها؛ لأنَّه يُمكنه حفظهما"[22].
وتُمثِّل الوصايا العشر في الكتاب المقدَّس محاربة للنفعيَّة الأنانيَّة التي تدفع الإنسان للقتل أو السرقة أو شهادة الزور، لا سيَّما أن يشتهي المرء زوجة آخر أو يتطلَّع للحصول على أملاكه؛ "لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد علي قريبك شهادة زور، لا تشتهِ بيت قريبك، لا تشتهِ امرأة قريبك، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئًا ممَّا لقريبك"[23].
وأضاف العهد الجديد -بعد أن أقرَّ هذه الوصايا- مبدأ التكافؤ والمساواة، فنجد في رسالة القديس بولس إلى أهل روما قوله: "لا فرق بين اليهودي واليوناني؛ لأنَّ ربًّا واحدًا للجميع غنيًّا لجميع الذين يدعون به"[24].
وفي الديانة الزرادشتية ثمَّة قاعدة تُسمَّى (القاعدة الذهبيَّة) تقول: "الطبيعة لا تكون خيِّرة إلَّا إذا منعت صاحبها أن يفعل بغيره ما ليس خيرًا له هو نفسه"[25].
كما نجد في التقاليد الصينيَّة التي ترجع إلى خمسمائة عام قبل الميلاد سؤال جونج - جونج للمعلم كونفوشيوس عن "الفضيلة الكاملة"، فإذا به يقول: "الفضيلة الكاملة ألَّا تفعل بغيرك ما لا تُحبُّ أن يُفعل بك"[26]. وبعد أربعة قرونٍ أخرى وقبل ميلاد المسيح بعشرين سنة، سنجد نفس هذه القاعدة في التراث اليهودي عبر تعاليم الحاخام اليهودي هيليل (Hillel)[27].
وإذا تركنا مجال الأديان إلى مجال الفلسفة، فلقد أُدرِكَ أنَّ البحث عن المصلحة أو المنفعة أو حتى السعادة قد يخلق في النفس نوعًا من الأنانيَّة أو الأثرة، فيُغلِّب منفعته على منفعة الآخرين، مخالفًا بذلك ما تقضي به قوانين العدالة؛ ولهذا رأى دعاة مذهب المنفعة -وأبرزهم جون بنثام وستيوارت مِل- أن يستعيضوا عن مفهوم "اللذة" ومفهوم "السعادة" بمفهومٍ آخر يقوم على مراعاة مصلحة البشريَّة، فاتخذت كلمة "المنفعة" عندهم طابعًا اجتماعيًّا، واتَّخذ المذهب اسم "أخلاق المنفعة العامَّة"[28].
لقد طوَّر بنثام مفهوم "اللذة" -الذي بدأ في الفلسفة القديمة عند الأبيقوريِّين- فنظر إلى ضرورة الحديث عن مقدراها وامتدادها، وليس فقط عن قوَّتها وأنواعها وكيفيَّاتها، ثُمَّ خلص من ذلك إلى أنَّ بيت القصيد أن تشمل اللذة أكبر عددٍ ممكنٍ من الأفراد؛ فالمنفعة العامَّة هي الأولى والأهم، ولا بُدَّ للباحث عن منفعته الشخصيَّة ألَّا ينتهك -في سبيل نفسه- هذه المنفعة العامَّة، و"مهمَّة القانون هي التأكد من أنَّ أيَّ شخصٍ في سعيه إلى سعادته القصوى لن يمسَّ حقَّ الآخرين في السعي إلى الهدف نفسه"[29].
بهذه الضوابط التي أقرَّتها الأديان والعقلاء من بني البشر يرتفع الإنسان إلى مستوى الإنسانيَّة اللائق به، ويتمايز المجتمع الإنساني عن مجتمعات الغابة التي يُمثِّل فيها الافتراس القانون السائد؛ ذلك أنَّ الحيوانات المدفوعة بغرائزها لا تملك من العقل والحكمة والتفكير ما تستطيع به أن تتوصَّل إلى حلولٍ وسطى أو تتنازل في سبيل الاتفاق على تبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة.
وإن كان ثمَّة مشاهدات تُؤكِّد أنَّ نوعًا ما من التلاقي على المصلحة المشتركة قائمٌ في عالم الحيوان؛ فمن الملاحظات التي شُوهدت معبِّرة عن هذا النوع من المصلحة المشتركة في عالم الحيوان ما تقوم به قنافذ البحر؛ فإذا أرادت سمكةٌ أن تُنظِّف نفسها فإنَّها تذهب إلى قنافذ البحر، فيتسلَّق أحدها على السمكة ويقوم عن طريق مخالبه الصغيرة جدًّا بالتقاط وأكل الجلد الميِّت الموجود على السمكة فيُنظِّفها بذلك، وكذلك الأمر بالنسبة إلى طيور النقار التي تحطُّ على أعناق الزرافات ووحيد القرن والحيوانات الضخمة، وهذه الحيوانات لا تُبالي حينما يحطُّ عليها هذا الطائر؛ لأنَّها تعرف أنَّه يلتقط الحشرات[30]. وكذلك ما يفعله نوعٌ معيَّنٌ من العصافير تُسمَّى عصفور التمساح؛ إذ يفتح له التمساح فمه حتى يأكل الفضلات الموجودة من الطعام العالق في فمه، الذي يتسبَّب في ألمٍ له إذا نزل إلى جوفه.
إنَّ اكتشاف هذا السلوك في عالم الحيوان -ولو بهذا القدر المحدود- ليُؤكِّد أنَّ الإنسان إذا تخلَّى عن قضيَّة التعاون والتعارف والبحث عن المصالح المشتركة فإنَّه ينزل إلى المستوى الأدنى من عالم الحيوان[31].
وتاريخ البشريَّة حافلٌ بالأحداث والوقائع التي تُؤكِّد على أنَّ الإنسان انطلق باحثًا عن المصلحة المشتركة من قاعدةٍ راسخةٍ صلبةٍ هي التعارف والتعايش، فمن الملاحظ أنَّه قلَّما وُجِدت حضارةٌ من جنسٍ واحدٍ أصيل؛ فغالبيَّة الحضارات العالميَّة خليطٌ من أجناسٍ وعرقيَّاتٍ مختلفة، تعايشت وتعارفت وتكيَّفت فيما بينها لتكوِّن في نهاية المطاف دولةً ثُمَّ حضارة، ومن أبرز الحضارات التي تُبرز أثر التعارف على مجريات نموِّها، نجد الحضارة الصينية القديمة وكذا الهندية، "فالجنس المغولي الحاضر مزيج معقد اختلطت فيه السلالة البدائيَّة مرارًا وتكرارًا بمئات السلالات الغازية أو المهاجرة من منغوليا وجنوب روسيا (السكوذيِّين) ووسط آسيا؛ فالصين من هذه الناحية كالهند يجب أن نُشبِّهها بأوربَّا بأكملها لا بأمَّةٍ واحدةٍ من أممها؛ فليست هي موطنًا موحَّدًا لأمَّةٍ واحدة؛ بل هي خليطٌ من أجناسٍ مختلفة الأصول متباينة اللغات غير متجانسةٍ في الأخلاق والفنون، وكثيرًا ما يُعادي بعضها بعضًا في العادات والمبادئ الخلقيَّة والنظم الحكوميَّة"[32]، لكنَّها مع هذا كلِّه فقد تمكَّنت من التعايش ووضع قيم الالتقاء والاتصال على رأس أولويَّاتها.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] أحمد رأفت عبد الجواد: مبادئ علم الاجتماع، ص91، 92.
[2] الغزالي: المستصفى، ص174.
[3] يوسف القرضاوي: الحلال والحرام في الإسلام، ص12.
[4] الغزالي: المستصفى، ص174.
[5] رواه الحاكم (100) وقال: حديث صحيح على شرطهما، فقد احتجَّا جميعًا بمالك بن سعير، والتفرُّد من الثقات مقبول، ووافقه الذهبي، والدارمي (15)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح ولكنَّه مرسل.
[6] رواه مسلم عن أبي هريرة: كتاب القدر، باب في الأمر بالقوَّة وترك العجز والاستعانة بالله... (2664)، وابن ماجه (79).
[7] ابن تيمية: الفتاوى الكبرى 1/109. وحمل بعض العلماء الحديث على ما ينفع في الآخرة، قاله النووي (المنهاج 16/215) وغيره. ولا نرى ما يُوجب هذا التخصيص في الحديث.
[8] البخاري: كتاب الحج، باب قول الله تعالى: )وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى( [البقرة: 197] (1451)، وأبو داود (1730).
[9] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 6/46.
[10] الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 6/87.
[11] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 6/46.
[12] رواه أبو داود عن أبي مسعود الأنصاري: كتاب الأدب، باب في الدال على الخير كفاعله (5129)، والترمذي (2670) واللفظ له، وأحمد (23077)، وقال الألباني في التعليق على أصحاب السنن: حسن صحيح، وقال شعيب الأرناءوط في التعليق على المسند: إسناده صحيح.
[13] رواه أحمد (9187)، والحاكم (59)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (6662).
[14] ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين 3/3.
[15] ونعني بكلمة الناس هنا الدائرة التي بحث الفيلسوف فيها واعتبرها (الناس)، فكثيرٌ من الفلاسفة كان تفكيره منصبًّا على بني قومه فحسب، ولم يكن يرى بأسًا في اعتبار الأعراق الأخرى في مرتبةٍ أقل، أو حتى إنَّها خُلقت لتكون عبيدًا لبني جنسه المتفوِّقين. سنغضُّ الطرف عن هذا الاعتبار الآن؛ لأنَّ سياقنا هو البحث في اعتباره لقيمة (المصلحة المشتركة) في ذاتها.
[16] لأنَّ فلسفته قامت على التقسيم الطبقي الذي تدرج من الحكماء في أعلى الهرم، ثُمَّ المحاربين، ثُمَّ العبيد.
[17] السيد محمد بدوي: الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، ص52.
[18] برتراند رسل: حكمة الغرب 2/158.
[19] رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوربي الحديث، ص339.
[20] ابن ماجه: كتاب الأحكام، باب من بنى في حقِّه ما يضرُّ بجاره (2340)، والموطأ - رواية يحيى الليثي (1429)، وأحمد (2867). وقال شعيب الأرناءوط: حسن. والحاكم (2345) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (250).
[21] ابن رجب: جامع العلوم والحكم، ص304.
[22] ابن قدامة المقدسي: المغني 9/577.
[23] سفر الخروج 20/12-17.
[24] رسالة القديس بولس إلى أهل روميَّة 10/12.
[25] وِل ديورانت: قصة الحضارة 2/432.
[26] وِل ديورانت: قصَّة الحضارة 4/58.
[27] هانس كونج: الإسلام رمز الأمل، ص18.
[28] زكريا إبراهيم: المشكلة الخلقية، ص147، 148.
[29] براتراند رسل: حكمة الغرب 2/159.
[30] مقال بقلم Amy Sarver، منشور بموقع مجلة (nationalgeographic): http://magma.nationalgeographic.com.
[31] لقد أدَّت الفلسفات الماديَّة العبثيَّة إلى نتائج كارثيَّة في حياة البشر، لا سيَّما وأنَّها انطلقت من رؤيةٍ زعمت أنَّها رؤيةٌ تفسيريَّة للكون وللإنسان، ثُمَّ إقرارها كأنماطٍ راسخةٍ لا يُمكن إصلاحها، وفي هذا السياق يبرز دارون كواحد ممَّن أسهم في التنظير للصراع والدمويَّة بمقولته عن البقاء للأقوى أو للأصلح، حتى إنَّ فرويد تساءل عن حكمة الدعوة إلى فضائل مستحيلة مثل كبح جماح الرغبات الجنسيَّة والعدوانيَّة، بل إنَّه يتحدَّث -في لقطةٍ متوحِّشةٍ حقيقيَّة- عن "فضل" اليهود على المدنيَّة؛ فقد انتشروا في أرجاء العالم ومن ثَمَّ اتَّجه إليهم عدوان الشعوب التي عاشوا بينها، فأتاحوا لتلك الشعوب فرصة التنفيس عن طاقة العدوان. انظر: عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهوديَّة والصهيونيَّة 8/329.
[32] ديورانت: قصة الحضارة 4/14.
التعليقات
إرسال تعليقك