د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
قصة الاتحاد الأوربي مقال بقلم د. راغب السرجاني، يستخلص فيه الدروس والعبر من تاريخ قصة الاتحاد الأوربي، مؤكدا على أهمية الوحدة وأثر الاتحاد في انتصارات
تسعى الدول دائمًا إلى القوة، وتبحث عن أسبابها، ومن أجل ذلك تقدم هذه الدول بعض التضحيات التي تُضطرُّ إليها؛ كي تصل إلى ذلك الهدف: القوة.
ولمَّا كانت القوة مرادفة للوحدة – غالبًا – فإن القادة العقلاء الذين يبحثون عن القوة يحاولون دائمًا سلوك سبيل الوحدة مع الدول التي توجد بينها وبين بلادهم عوامل مشتركة؛ كالدين، واللغة، والحوار، والتاريخ المشترك.
وقد عاشت أوربا تاريخًا طويلاً حافلاً بالصراعات والانقسامات؛ مما جعلها تربة خصبة للجهل والتخلف، وقضى على أفكار التقدم التي حملها عددٌ من المصلحين في بعض عصورهم. وفي ذات الوقت عاصرت أوربا أزهى عصور الوحدة الإسلامية، ورأت في الأقطار الإسلامية المتحدة تحت راية خلافة واحدة خير نموذج لأثر الاتحاد على قوة الدول؛ إذ ظلَّت أوربا – في ظل عداوتها للإسلام – تحت وقع الهزائم المستمرة من الخلافة الإسلامية، وبينما كان العالم الإسلامي يعيش ذروة المجد والعلم والثقافة، كانت أوربا ترزح تحت وطأة الجهل والخرافة.
أدركت أوربا أثر الوحدة في انتصارات المسلمين، وأثر التمزق والتشتت في ضعفها هي؛ فبدأت في عهد متأخر كثيرًا تحاول إيجاد الوحدة، والترابط بين أقطارها، وبينما انفرط عِقد الخلافة الإسلامية، وتمزقت دولها، بسبب البعد عن منهج الله عزَّ وجلَّ، وبسبب اختلاف قلوب قادتها، وميلهم للدنيا، بينما كان ذلك يحدث، كانت أوربا تبدأ في محاولات الوحدة.
تصل مساحة قارة أوربا إلى حوالي 10.79 مليون كم2 (7.1 % من مساحة الأرض). وهي ثالث قارة من حيث عدد السكان في العالم، إذ يزيد عدد سكانها على 700 مليون نسمة (11 % من سكان الأرض)، ويزيد عدد دولها على أربعين دولة؛ مما يبين المجهود الهائل الذي يجب بذله من أجل التوحد.
ويتحدث الأوربيون بالعديد من المجموعات اللغوية كمجموعة اللغات السلافية، واللغات الأورالية، واللغات الألطية، واللغات البلطية، واللغات الكلتية، واللغة اليونانية، واللغة الألبانية، واللغة الأرمينية، وكل مجموعة من هذه اللغات تتوزع في مناطق عديدة من القارة، كما أن للغة العربية تأثيرًا على بعض اللغات الأوربية كالمالطية والإسبانية والألبانية.
ولا تدين أوربا بدين واحد، بل تتنوع فيها الأديان، بل وتتنوع المذاهب داخل الدين الواحد؛ فهناك مثلاً المسيحية الكاثوليكية، ومن الدول والمناطق ذات النسبة الكبيرة من أتباع الكاثوليكية في القارة هي: البرتغال وإسبانيا وفرنسا وبلجيكا وجنوب هولندا وإيرلندا وأسكتلندا وجنوب ألمانيا وجنوب سويسرا وإيطاليا والنمسا وسلوفينيا وهنغاريا ( المجر) وكرواتيا وسلوفاكيا والتشيك وبولندا وغرب أوكرانيا ورومانيا وبعض مناطق لاتفيا ولتوانيا. كما توجد أقليات كاثوليكية في إنجلترا وويلز وبعض مناطق أيرلندا الشمالية.
وهناك كذلك المسيحية البروتستانتية، ومن الدول والمناطق ذات النسبة الكبيرة من أتباع البروتستانتية في القارة: النرويج وآيسلندا والسويد وفنلندا وإستونيا ولاتفيا والمملكة المتحدة والدنمارك وألمانيا وهولندا وسويسرا. وتُوجد أقليات بروتستانتية في فرنسا والتشيك وهنجاريا وأيرلندا.
كما تُوجد الأرثوذكسية المسيحية في: ألبانيا وأرمينيا وروسيا البيضاء والبوسنة والهرسك وبلغاريا وفنلندا وجورجيا واليونان ومقدونيا ومولدوفا ورومانيا وروسيا وجمهورية صربيا والجبل الأسود وأوكرانيا.
ويأتي الإسلام كأحد أديان القارة الأوربية، ومن الدول والمناطق ذات النسبة الكبيرة من المسلمين في القارة: ألبانيا، والبوسنة والهرسك، وبلغاريا، ومقدونيا، وقبرص، وتركيا. وعلى مستوى القارة بشكل عام فإن 5 % من مواطني دول الاتحاد الأوربي يدينون بالإسلام، ويتركز العديد من المسلمين في ألمانيا (3.878 %)، وفرنسا ( 5 إلى 10 %)، والمملكة المتحدة (2.7 %)، وإن كان الأوربيون – وخاصةً حكامهم – على تربص بالإسلام والمسلمين، ولا يسمحون للمسلمين بلعب دور كبير في الحياة السياسية، فضلاً عن رفضهم لوجود دولة مسلمة ضمن دول الاتحاد.
كما تُوجد بعض الأديان الأخرى في أوربا كما يلي:
اليهودية ويتركز أتباعها في روسيا وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، والهندوسية ويتركز أتباعها في المملكة المتحدة وهولندا، والسيخية.
إن كل هذا التنوع يدعم الاتجاه الانفصالي بين دول أوربا؛ إذ تكاد لا تتفق في شيء من عوامل الوحدة، وليس بينها عامل مشترك واحد، ولكن العقول المنفتحة التي تنشد القوة لشعوبها ودولها، والقادة الساعين للتقدم والازدهار لبلادهم لا يتوقفون عند الحواجز مهما صعُبَت، ولا يستكثرون الجهد مهما شقَّ عليهم؛ لذا بدأ حكام أوربا سعيهم نحو الاتحاد.
تكررت المحاولات في تاريخ القارة الأوربية لتوحيد أمم أوربا، فمنذ انهيار الإمبراطورية الرومانية التي كانت تمتد حول البحر الأبيض المتوسط، مرورًا بإمبراطورية شارلمان الفرنجية قبل ظهور الدولة القومية الحديثة. وفيما بعد حدثت محاولات لتوحيد أوربا، لكنها لم تتعدَّ الطابع الشكلي والمرحلي.
ولكن بوجود مجموعة من اللغات والثقافات الأوربية المتباينة، قامت هذه التجارب على الإخضاع العسكري للأمم الرافضة؛ مما أدَّى إلى غياب الاستقرار، وبالتالي كان مصيرها الفشل في النهاية، منها محاولة نابليون في القرن التاسع عشر، والأخرى في أربعينيات القرن العشرين على يد هتلر، وهما تجربتان لم تتمكنا من الاستمرار إلا لفترات قصيرة وانتقالية.واحدة من أول أفكار التوحيد السلمي من خلال التعاون والمساواة في العضوية قدمها المفكر السلمي فيكتور هوجو عام 1851م دون أن تحظى بفرصة جادة في التطبيق.
وبعد كوارث الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، ازدادت بشدّة ضرورات تأسيس ما عُرف فيما بعد باسم الاتحاد الأوربي، مدفوعًا بالرغبة في إعادة بناء أوربا، ومن أجل القضاء على احتمال وقوع حرب شاملة أخرى. أدَّى هذا الشعور في النهاية إلى تشكيل جمعية الفحم والفولاذ الأوربية عام 1951م على يد كلٍّ من ألمانيا (الغربية)، وفرنسا، وإيطاليا، وبلجيكا، وهولندا، ولوكسمبورج.
أسَّست الدول الأوربية أول وحدة جمركية عُرِفت باسم المؤسسة الاقتصادية الأوربية (European Economic Community)، وتُسمَّى في المملكة المتحدة بشكل غير رسمي بـ "السوق المشتركة"؛ وذلك في اتفاقية روما للعام 1957م، وطُبِّقت في الأول من يناير 1958م. هذا التغيير اللاحق للمؤسسة الأوربية يشكل العماد الأول للاتحاد الأوربي.
كانت الشراكة الاقتصادية مرحلة بدأ بها القادة الأوربيون كخطوة مبدئية على طريق الوحدة، ولم يكتفوا بها؛ لذا فبعدما توثقت عُرا الصلات بين اقتصاديات تلك الدول، وصارت القوة الاقتصادية لكل دولة منها مرهونة بقوة اقتصاديات شريكاتها الأوربيات بدت الحاجة ملحة، والأجواء مهيأة لخطوة جديدة؛ ففي عام 1986م تمَّ البدء بإصدار جوازات السفر الأوربية، ورُفِعَ العلم الأوربي على أنغام السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، وهي تمثل السلام الأوربي، كما دخل القانون الأوربي الموحَّد حيز التنفيذ ليزيل العوائق التجارية المصطنعة ما بين الدول الأعضاء؛ لكي تتمكن البضائع ورءوس الأموال والخدمات، وكذلك الأفراد من التنقل والعيش والعمل بحريّة دون قيود في أيٍّ من الدول الأعضاء.
|
وعلى المسار السياسي تم في 7 من فبراير 1992م توقيع معاهدة الاتحاد الأوربي في مدينة ماستريخت الهولندية.
وقد دخلت هذه المعاهدة حيز التنفيذ في الأول من نوفمبر 1993م. ويرجع تأخُّر تطبيقها إلى تأخر قبول الدنماركيين للمعاهدة وشروطها، وبسبب قضية دستورية ضدها أقيمت في ألمانيا.
ومن أهم مبادئ الاتحاد الأوربي نقل صلاحيات الدول القومية إلى المؤسسات الدولية الأوربية. لكن تظل هذه المؤسسات محكومة بمقدار الصلاحيات الممنوحة من كل دولة على حدة؛ لذا لا يمكن اعتبار هذا الاتحاد على أنه اتحاد فيدرالي؛ حيث إنه يتفرد بنظام سياسي فريد من نوعه في العالم.
وللاتحاد الأوربي نشاطات عديدة، أهمها كونه سوقًا موحدةً ذات عملة واحدة هي اليورو الذي تبنت استخدامه ثلاث عشرة دولة أوربية من أصل الـ27 الأعضاء، وبدأ التداول الرسمي له في الأول من يناير 2002م، كما أنَّ له سياسة زراعية مشتركة، وسياسة صيد بحري موحدة.
|
لم يضع الاتحاد الأوربي بادئ الأمر أية شروط إضافية لانضمام الدول المرشحة للعضوية، ما عدا الشروط العامة التي تمَّ تبنِّيها في الاتفاقيات المؤسسة للاتحاد، لكن الفرق الشاسع في المستوى الاقتصادي والسياسي بين دول أوربا الوسطى والشرقية ودول الاتحاد، دفع مجلس الاتحاد الأوربي في عام 1993م ليضع ما يعرف شروط كوبنهاجن، وهي تنقسم إلى:
شروط سياسية: على الدولة المترشحة للعضوية أن تتمتع بمؤسسات مستقلة تضمن الديمقراطية، وأن تقوم على دولة القانون، وأن تحترم حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات.
شروط اقتصادية: وجود نظام اقتصادي فعَّال يعتمد على اقتصاد السوق، وقادر على التعامل مع المنافسة الموجودة ضمن الاتحاد.
شروط تشريعية: على الدولة المترشِّحة للعضوية أن تقوم بتعديل تشريعاتها وقوانينها بما يتناسب مع التشريعات والقوانين الأوربية التي تمَّ وضعها وتبنِّيها منذ تأسيس الاتحاد.
وهذا جدول يبين تاريخ انضمام الدولة الأوربية إلى الاتحاد الأوربي منذ كان سوقًا مشتركة إلى أن صار اتحادًا.
الدولة سنة الانضمام الدولة سنة الانضمام
إيطاليا 1952/1958م النمسا 1995م
ألمانيا 1952/1958م إستونيا 2004م
بلجيكا 1952/1958م بولندا 2004م
فرنسا 1952/1958م جمهورية التشيك 2004م
لوكسمبورج 1952/1958م الجمهورية السلوفاكية 2004م
هولندا 1952/1958م سلوفينيا 2004م
المملكة المتحدة 1973م قبرص 2004م
الدنمارك 1973م لاتفيا 2004م
اليونان 1981م ليتونيا 2004م
إسبانيا 1986م مالطا 2004م
البرتغال 1986م هنغاريا 2004م
أيرلندا 1993م رومانيا 2007م
السويد 1995م بلغاريا 2007م
فنلندا 1995م
نتائج التوسع في عضوية الاتحاد الأوربي:
إن الاتحاد الأوربي ما زال يعاني من إجهاد وتكلفة عملية التوسيع الأخيرة في مايو 2004م، والتي انتقل بموجبها عدد أعضاء الاتحاد من 15 بلدًا إلى 25 بلدًا، وبالانضمام الأخير الذي أصبح بعده يشمل 27 بلدًا، يكون عدد سكان الاتحاد قد بلغ نحو 489 مليون نسمة. إضافةً إلى ذلك يخشى بعض الأعضاء مثل فرنسا، أن يشكل انضمامُ دول ضعيفةِ الدخل الفردي إلى حظيرة الاتحاد، عبئًا اقتصاديًّا ثقيلاً، ويُعقِّد إدارة وتسيير مؤسساته، كما تخشى هذه الدول أن يؤدي توسيع الاتحاد إلى تقليص سلطتها، وشلّ عملية اتخاذ القرارات داخل مؤسسات الاتحاد.
وقد انعكس هذا القلق إزاء الشكل المقبل الذي سيتخذه الاتحاد في رفض الفرنسيين والهولنديين لمشروع الدستور الأوربي المقترح في استفتاء عام 2005م، ومنذ ذلك الحين تعالت الأصوات المنادية داخل الاتحاد بضرورة إبطاء وتيرة التوسيع. والواقع أن هذا التردد، الذي أجَّجته المخاوف إزاء الهجرة وإزاء أداء أوربا الاقتصادي المتواضع، قد ألقى بظلاله على قبول رومانيا وبلغاريا، اللتين انتُقدتا بسبب الفساد الذي ما زال مستشريًا منذ الفترة الشيوعية .
ومن خلال القضايا والمشكلات السياسية الدولية الجارية،لم يُظهِر الاتحاد الأوربي حتى الآن قدرة على منافسة الولايات المتحدة سياسيًّا أو عسكريًّا؛ حتى إننا عندما أجرينا استبيانًا على الموقع خلال الأسبوع الماضي موضوعه: الاتحاد الأوربي بعد توسيع عضويته
جاءت نسب التصويت 32.3% للاختيار الأول، و55.2% للاختيار الثاني، و12.5% للاختيار الثالث؛ مما يعني أن 67.7% من المشاركين يرون أن الاتحاد الأوربي سيظل ضعيفًا وتابعًا حتى بعد توسيعه؛ وذلك يرجع - بالطبع - إلى الضعف السياسي الظاهر للاتحاد أمام الولايات المتحدة؛ حتى في القضايا التي تمسُّ مصالحه، إضافةً إلى تسابق بعض رؤساء دول الاتحاد إلى الارتماء في أحضان الولايات المتحدة، وتفضيلهم التبعية لها على تقوية موقف بلادهم؛ كما فعل رئيس الوزراء الإنجليزي السابق توني بلير، وكما يفعل الآن الرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي.
إن الوحدة جزء أصيل من ديننا، ومع ذلك فيبدو أنه علينا - ما دمنا لم نتعلَّم الدرس من الإسلام وتشريعاته - أن نتعلَّم الدرس من غيرنا، الذي تعلَّم منَّا سابقًا أهمية الوحدة وسُبُل الوصول إلينا، ونحن الآن أحوج لذلك الدرس.ورغم هذه المسألة إلا أننا لا يسعنا إلا أن نُقِرَّ أنَّ هذه الخطوات الهائلة التي اتخذتها الدول الأوربية على طريق الوحدة لَتدلُّ على عزيمة جبارة، وضعت الوحدة هدفًا أسمى يُبذَل من أجله الغالي والنفيس، كما تدل على تخطيط دقيق ودراسة واعية لمقتضيات الوحدة، وتنفيذ واعٍ لما يُقَرَّر، إضافةً إلى مرونة عالية تسمح بالتنازل عن بعض الخصوصية القائمة لكل دولة في سبيل تحقيق التكامل والاتحاد مع بقية الدول الأوربية. ويثير هذا فينا المقارنة مع ما أنجزته جامعة الدول العربية التي أُنشِئَت عام 1945م، ومنظمة المؤتمر الإسلامي التي أُنشِئَت عام 1969م، وكلاهما تعاني منذ نشأتها من الخلافات السياسية بين الدول الأعضاء، ومن فوضى تنظيمية؛ تجعل كل دولة تفعل ما يحلو لها بغضِّ النظر عن القرارات التي اتخذتها المنظمة؛ فصارت كل أو جُلُّ قراراتهما حبرًا على ورق، ولم نجد على مدار تاريخهما إنجازًا يُذكَر لإحداهما.
إنه ليس خطأ المنظمات في حدِّ ذاتها، وإنما خطأ الدول العربية والإسلامية التي تتظاهر بالوحدة بينما كل واحدة منها تُولِّي وجهها شطرًا غير الأخرى؛ فتفرقت القلوب، وتحكمت الأهواء الشخصية، ولم يُراعِ أحدٌ المصلحة العامة للدول الإسلامية، وللمسلمين جميعًا، ولمقدساتهم.
التعليقات
إرسال تعليقك