التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
الخلافة العباسية وأساسها السياسي قامت الدولة العباسية على أنقاض الخلافة الأموية وقيامها بهذه الطريقة يعد انقلابًا في مسيرة التاريخ الإسلامي
الخلافة العباسية وأساسها السياسي
قامت الدولة العباسية على أنقاض الخلافة الأموية، وقد كانت جهود الدعاة العباسيين أحد العوامل الرئيسية في إسقاطها، وإقامة صرح الدولة العباسية على أيدي الموالي في خراسان خاصة.
يعَدُّ قيام الدولة العباسية بالطريقة التي قامت بها انقلابًا في مسيرة التاريخ الإسلامي؛ إذ إن الخلافة الراشدة قد قامت على أساس الشورى، ثم قامت الدولة الأموية - في نشأتها - على نفس الأساس بعد تنازل الحسن بن علي لمعاوية رضي الله عنهم جميعًا، ولكن الدولة العباسية قامت بالخروج المسلح على الحاكم القائم دون شورى من المسلمين، كما كانت دماء المسلمين الأمويين هي وقود نار الثورة العباسية، وذلك أمر غير مسبوق في الإسلام.
وقد حاول المؤرِّخون كشف مكنونات هذا التحول وتفسيره منطلقين من مفاهيم مختلفة، فقد رأى فيه بعضهم:
1- ثورة الفرس على الحكم العربي.
2- في حين علَّلَه بعضُهم بأنه مجرد ثورة على حكم بني أمية لإزاحتهم عن الحكم وإحلال العباسيين مكانهم.
3- وقال فريق آخر بحتمية هذا التحول نتيجة التطورات التي شهدها العالم الإسلامي خلال القرن الأول الهجري.
4- ويرى فريق آخر بأنه اجتهاد فقهي خاطئ، فالشيعة يقولون بأولوية آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بالخلافة، وأحق آل البيت هو عليٌّ كرم الله وجهه، وأن عليًّا رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها، ويُؤَوِّلونها على مقتضى مذهبهم الفاسد، لا يعرفها جهابذةُ أهل السنة، ولا نَقَلَةُ الشريعة. ومن هنا نشأت فكرة الوصية، ولُقِّبَ عليٌّ رضي الله عنه بالوصي، يريدون أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي بالخلافة من بعده، وهكذا كلُّ إمام وصيُّ من قبله. وعندما قامت الدولة العباسية لم يَرُقْ للعلويين أن يظفر العباسيون بالخلافة دونهم، واعتبروا أن العباسيين خدعوهم؛ إذ لولا اتحادهم معهم ضد الأمويين لما مهد الطريق أمامهم إلى الخلافة.
5- ويرى البعض بأنها حركة شيعية في ثوب سني.
والصواب أنها هذه الأسباب جميعًا.
قامت الفتوحات الإسلامية الأولى على سواعد العرب, وقد استقر أعداد من الفاتحين في المناطق التي دخلوها، بل إن قبائل وبطونًا كاملة قد استقرت في جهة معينة نتيجة وجود كثيرٍ من الفاتحين من أبنائها، وأما وجودهم في مراكز القيادة فهذا أمر طبيعي بصفتهم الفاتحين، وحيث الخلفاء من العرب، ويعتمدون على من يعرفون، وكما حدث هذا عند الأمويين حدث عند العباسيين.
وقد كانت العصبية بين القيسية واليمنية العربيتين أشد بكثير من العصبية بين العرب والفرس، وإن الخلاف بين الشاميين والحجازيين في الأندلس كان أشد مما هو بين العرب والبربر.
انطلاق الدعوة العباسية من الكوفة وقيامها
اتخذت الدعوة العباسية من الكوفة مركزًا لها بصفة أن أنصار آل البيت فيها كثيرون, ومنها يمكن التوجه نحو خراسان والاتصال فيها بسهولة ويسر، ثم إن الدعاة والإمام قد رأوا ضرورة التركيز على الدعوة في خراسان، لا لأنها مركز ثقل بالنسبة إلى الفرس أو إلى الترك، وإنما لقيام الصراع على أشده بين القيسية واليمنية من العرب؛ إذ يمكن الإفادة من هذا الصراع وكسب العناصر المحايدة التي ضاقت ذرعًا به, أو كسب اليمنية التي تشكل أكثرية المجموع العربية هناك، والتي تعادي والي خراسان نصر بن سيار الذي يعتمد على القيسية ويتعصب لها. وقد وجد الدعاة العباسيون - فعلاً - آذانًا مصغية في خراسان، وتمكنوا من النشاط حتى تمَّ لهم الأمر، ولم تكن خراسان لتختلف عن غيرها من الأمصار الإسلامية.
وهناك نقطة يمكن أن نلاحظها وهي أن سكان خُراسان ليسوا من الفُرس، وإنما هم من الأتراك، ومعروف أن حاضرتها كانت مدينة مرو، وهي ضمن بلاد التركمان التي تخضع اليوم للروس، وأن خراسان التي كانت تشمل ما يقع الآن في شمال بلاد الأفغان، وتشمل شرقي إيران، وبلاد التركمان، إن هذه المناطق تضم اليوم سكانًا من الترك بأكثريتهم، وكذا كانت يومذاك، وإن ضمت - إضافة إلى ذلك - مجموعاتٍ من الفُرْسِ من السكان الأصليين ومجموعات من العرب والفرس جاءوا فاتحين واستقروا فيها، إلا أن ارتباط قيام الدعوة العباسية بخراسان, وارتباط تلك الدولة في أذهاننا بالفُرس قد جعلنا نتصور دائمًا سكان خراسان من الفرس، وهو الأمر المفهوم لدى أكثرية الناس، وقامت عصبية على الوهم ضد الفرس، هذا بالإضافة إلى أن الرجل الذي قامت الدولة على كاهله، أبا مسلم الخراساني، قد نُسِبَ إلى خراسان، والواقع أنه ليس من خراسان وإنما من فارس، كما أن اسمه هذا إنما هو اسم حركي، أمّا اسمه الحقيقي فإبراهيم بن عثمان.
* قيام الدولة العباسية
قامت الدولة العباسية نتيجة التخطيط والسرية على أيدي سكان خراسان، سواء كانوا عربًا أم فرسًا أم تُركًا، وشكلٌ طبيعي أن يحصل هؤلاء على مراكز كبيرة ومناصب عالية في الدولة، وكان من جملة هؤلاء أعداد من الفرس ـ مع أنهم أقل من غيرهم ـ ما داموا يشكلون جزءًا من السكان، وبرز منهم فئة، وظن بعضهم أن الدولة أصبحت لهم ما دام منهم كبير القادة وهو أبو مسلم الخراساني، ثم لم يلبث أن حدث نزاع بينهم وبين الخلفاء العباسيين الذين لا يريدون أن يستأثر غيرهم بالسُّلطة سواءٌ أكان عربيًّا أم فارسيًّا أم تركيًّا, وكما تخلصوا من أبي مسلم الخراساني فإنهم قد تخلصوا أيضًا من عبد الله بن علي بن العباس الهاشمي عم الخليفة، وقائد الدولة، بل إن الخليفة المنصور قد ضرب أحدهما بالآخر، فلماذا ركَّز أصحاب العصبيات على أبي مسلم وأغفلوا التخلص من عبد الله بن علي؟
فكلاهما صاحب أطماعٍ بغضِّ النظر عن فارسية الأول وعربية الثاني.
وبالرغم من خطورة الفتنة الكبرى التي تمت بين الصحابة إلا أنها كانت أرحم بكثير من الفتنة التي صاحبت قيام الدولة العباسية، وذلك بسبب:
- انتهاء جيل الصحابة.
- أنَّ الصحابة كانوا مجتهدين؛ فمنهم من أصاب ومنهم من أخطأ ولكلٍّ أجره. ولكن هنا كانت الدنيا محرِّكة لأطراف كثيرة في الصراع إلى حد كبير.
تميز تاريخ الدولة العباسية بشيوع الاضطرابات والثورات طوال تاريخ الدولة تقريبًا، وإن كانت هذه الاضطرابات تحدث في عصر خليفة قوي أحيانًا، وفي عصور خلفاء ضعافٍ أحيانًا أخرى كثيرة.
بدأت الدولة العباسية بعصر التأسيس الذي شمل عصر أول خلفائهم أبي العباس السفاح، ثم أخيه أبي جعفر المنصور، وقد شُغِلوا في هذه الفترة بتوطيد أركان الدولة، والقضاء على بعض العناصر التي أرادت اختطاف الثورة لصالحها، والتمكين لنفسها على حساب العباسيين كأبي سَلَمة الخلاَّل وأبي مسلم الخراساني، كما شملت القضاء على رغبة الطالبيين (آل علي بن أبي طالب رضي الله عنه) الذين خدعهم العباسيون في بداية الثورة بأن الدولة ستكون دولتهم.
الخلافة العباسية في عهد هارون الرشيد
تُعْتَبَر خلافة هارون الرشيد بداية عصر القوة في الدولة العباسية، ويشمل ذلك العصر خلافة ابنه المأمون، ثم المعتصم بن الرشيد، فالواثق بن المعتصم؛ حيث تميز هذا العهد بقوة السلطة المركزية، وبالتنظيمات الإدارية، والإصلاحات.
كما تميز أيضًا بالفتوحات العظيمة، وارتفاع شأن الخلافة الإسلامية، وصيرورتها القوة العظمى الوحيدة في العالم، وخضوع أقاليم الدولة لسيادتها - ما عدا الأندلس التي تمكن عبد الرحمن الداخل من الوصول إليها، وإقامة خلافة أموية هناك، ولم يستطع العباسيون المساس بجنابها -، وإِن حفل هذا العصر - عصر القوة - بعديد من الثورات التي استطاعت الخلافة القضاء على أكثرها، واستمر بعضها طوال عهد الدولة العباسية، كما جرى فيه صراع داخلي كبير على السلطة بين الأخوين: الأمين والمأمون وليي عهد الرشيد، وجرت بينهما الحرب التي أسفرت عن مقتل الأمين الذي اعتمد على العرب، وانتصار المأمون الذي اعتمد على الفُرس، وتولِّيه الخلافة.
العصر العباسي الأول
مميزات العصر العباسي الأول:
سيطرة شبه كاملة للفرس على الجهازين العسكري والإداري:
عندما قامت الخلافة العباسية كان للفُرس اليد العليا في قيامها وخاصة الخراسانيين، وقد سنحت الفرصة لهؤلاء للاستئثار بالسلطة وتولي الحكم، وساعد على ذلك شدة ميل العباسيين إلى الفرس، وإيثارهم بالمناصب المدنية والعسكرية، وقد أثار ذلك كراهية العرب بتقريب الفرس إليهم؛ لذا لا نعجب من انصراف العرب عن العباسيين، فقد دَبَّ في نفوسهم دبيبُ الكراهية لهم وللفرس الذي استأثروا بالسلطة دونهم؛ لممالأة العباسيين لهم واعتمادهم على ولائهم، فقامت الفتن والثورات في البلاد الإسلامية.
وكان من أثر ذلك الميل الذي أبداه العباسيون نحو الفرس وتلك الرعاية التي حاطوهم بها، أن أصبح نظام الحكم عند العباسيين مماثلاً لما كان عليه في بلاد الفرس أيام آل ساسان، قال "بالمر" في كتابه "هارون الرشيد": "ولما كان العباسيون يدينون بقيام دولتهم للنفوذ الفارسي، كان طبيعيًّا أن تسيطر الآراء الفارسية؛ ولهذا نجد وزيرًا من أصل فارسي على رأس الحكومة، كما نجد أيضًا أن الخلافة تدار بنفس النظام الذي كانت تدار به إمبراطورية آل ساسان".
كما اتخذ الخلفاء الموالي من الخراسانيين حرسًا لهم لاعتمادهم على ولائهم وإخلاصهم، واستبد هؤلاء الخلفاء بالسلطة، وتسلطوا على أرواح الرعية كما كان يفعل ملوك آل ساسان من قبل، وظهرت الأزياء الفارسية في البلاط العباسي.
وطبيعي أن يميل العباسيون إلى الفرس، الذين ساعدوهم على تأسيس دولتهم، وقاموا في وجه أعدائهم الأمويين، وإن مثل هذا الميل إلى الفرس، وتلك الكراهة التي أضمرها العباسيون للأمويين لتتمثل في تلك الخطب التي ألقاها داود بن علي وأبو جعفر المنصور وغيرهما، يشيدون فيها بمآثر الفرس، وما بذلوه من جهود في سبيل قيام الدولة العباسية.
*الوزارة:
عندما انتقلت الخلافة إلى العباسيين، اتخذوا نظم الحكم عن الفرس ومنها الوزارة، وكان أول وزير للعباسيين أبا سلمة الخلال، لكن معالمها لم تتحدد في عهده؛ ولأن الدعوة العباسية قد قامت على أيدي الفرس وبمساعدتهم فمن الطبيعي أن يكون وزراء العصر العباسي الأول من الأعاجم مثل: البرامكة وبني سهل، وعلى أيدي هؤلاء اكتسبت الوزرة شكلها النهائي في أواخر العصر العباسي الأول، وكان الوزير في أيام العباسيين:
ـ ساعد الخليفة الأيمن.
ـ نائبًا عنه في حكم البلاد.
ـ يعين الولاة.
ـ يشرف على الضرائب.
ـ يجمع في شخصه السلطتين: المدنية والحربية.
ـ صاحب المشورة التي يسترشد بها الخليفة.
وكان الوزراء في العصر العباسي الأول يتجنبون تسمية أنفسهم باسم "وزير"، على الرغم من قيامهم بأعمال الوزارة ومهامهم، فإليهم يرجع الفضل في ضبط أمور الدولة، ونشر لواء الأمن والعدل بين الرعية، ومَرَدُّ ذلك إلى تخوف الوزراء من الخلفاء بعد أن لقي البعض منهم حتفه على أيديهم, ولكن هذا لم يمنع الوزراء من الإقبال على اكتساب الألقاب المنسوبة إلى الدولة، مثل:
عماد الدولة، وعز الدولة، وركن الدولة.
وكانت الوزارة أيام العباسيين ضعيفة أمام قوة الخلافة، قوية كلما ضعفت الخلافة؛ لذا تطرق الفساد إلى منصب الوزارة في عهد الخليفة المقتدر 295- 320هـ/ 908- 932م لاتباعه سياسة خرقاء في تعيين وزرائه وعزلهم، حتى تقلَّد الوزارة في عهده اثنا عشر وزيرًا، عُزِل بعضُهم أكثر من مرة، وكان لضعف الوزراء في ذلك العصر وازدياد نفوذ القواد أن ضاعت هيبة الوزارة فلم يبق للوزراء شيء من النفوذ؛ فاقتصرت وظيفتهم على الحضور إلى دار الخلافة في أيام المواكب مُرتَدِين السواد متقلدين السيوف والمناطق وغيرها من شعارات الوزارة، وأصبح تعيين الوزراء وعزلهم بيد أمير الأمراء الذي هيمن على شئون الخلافة والوزارة والدولة جميعًا, وبخاصة في عصر البويهيين والسلاجقة.
* بروز الكُتَّاب:
اتسعت الدولة العربية الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين وضمت شعوبًا وطوائف عديدة من الناس، فكان لا بُدَّ لهذه الدولة من أن ينشأ فيها جهاز وظيفي يتولى أعمال الكتابة التي يوجهها الخليفة إلى الوزير أو القضاة والولاة في الأقاليم، وتسجيل الرسائل الواردة من الولاة والقضاة إلى الخلافة، وكذلك في سائر الدواوين كانت هناك الحاجة إلى من يتولى الأعمال الكتابية فيها.
وفي العصر الأموي والعصر العباسي استمرت تلك الحاجة إلى مجموعة من الموظفين أو الكتاب للقيام بالأعمال الكتابية، خاصة في العصر العباسي الأول بعدما تعددت الدواوين لمساعدة الوزير في أعماله الواسعة، وللإشراف على هذه الدواوين المختلفة وإدارة شئونها، فاقتضى طبقًا لذلك أن يكون لكل وزير كاتب أو كتَّاب يساعدونه، وأن يكون لكل والٍ من ولاة الأقاليم ورجال الدولة كاتب أو أكثر.
ويرأس جماعة الكتّاب الوزير، وأحيانًا كثيرة كان بعض الكتاب يتدرجون في الرقي إلى أن يتولوا الوزارة معتمدين على كفايتهم الكتابية وبلاغة أقلامهم.
وتولى الأعمال الكتابية في الخلافة العباسية الفرس؛ لأن الفرس كانت لهم القدرة الفائقة في الكتابة، بينما كان العرب يفخرون بالسيف لا بالقلم، لذا نجد كثيرًا من الكتاب في العصر العباسي يحذون حذوَ أجدادهم الفرس، حتى في مظهرهم الخارجي، وكان لامتلاك بعض الكتاب ثقافةً أوسعَ من ثقافة غيرهم، ودائرة معارفهم الواسعة، ودرايتهم بأحوال الناس الاجتماعية, وتقاليدهم الكبيرة الفضلُ في سيطرة الفُرس على ميدان الكتابة، هذا فضلاً عن إن إجادتهم عملهم كان يتطلب دراية في اللغة والأدب وعلوم الدين والفلسفة والتاريخ والجغرافيا، إلى جوانب كثيرة قد تعرض في مسائل للخليفة أو الوزير أو الوالي.
ولما كانت الأعمال الكتابية مهمة وخطيرة يجب على من يتولاها أن يتحلى بأخلاق حميدة وثقافة واسعة ودقيقة، فقد تعددت الكتب التي أُلِّفَتْ لجماعة الكُتَّاب بصفة خاصة، فأَلَّف ابنُ قتيبة كتابًا اسمه "أدب الكاتب"، أوضح فيه الكثير من ألوان المعرفة التي اعتقد "ابن قتيبة" أن الكاتب بحاجة إليها، كما أَلَّف أبو بكر الصولي كتاب "أدب الكاتب" توسَّع فيه في شرح أمور كثيرة لم يعرض لها ابن قتيبة، ونصح "عبد الحميد الكاتب" الكُتّاب فقال: "فنافسوا معشرَ الكتَّاب في صنوف العلم والأدب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض, ثم العربية فإنها ثقافة ألسنتكم, وأجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها؛ فإن ذلك معين لكم على ما تسعون إليه، ولا يضعفن نظركم في الحساب؛ فإن قوام كتاب الخراج منكم".
تنوع الكتَّاب تبعًا لتنوع الدواوين في ذلك العصر، فكان منهم كتاب الرسائل وكتاب الخراج وكتاب الجند وكتاب الشرطة وكتاب القاضي, وقد كان صاحب ديوان الرسائل الكاتب الأهم والأعلى شأنًا من غيره، إذ كان عليه إذاعة المراسيم وإبراءات وتحرير الرسائل السياسية، وختمها بخاتم الخلافة بعد اعتمادها من الخليفة، ومراجعة الرسائل الرسمية ووضعها في صيغتها النهائية، وكانت مهمة كاتب الرسائل تشبه وزارة الخارجية اليوم؛ فكان يتولى مكاتبة الملوك والأمراء عن الخليفة بأسلوب عذب بليغ؛ لذا روعي في الكاتب رصانة الأسلوب، وسعة العلم فضلاً عن عراقة الأصل.
وقد زَخَرَ العصر العباسي الأول بطائفة من الكتاب لم يسمح الدهر بمثلهم، فقد اشتُهِرَ يحيى بن خالد البرمكي، والفضل بن الربيع في عهد هارون الرشيد، واشتهر الفضل والحسن ابنا سهل، وأحمد بن يوسف في عهد المأمون, واشتهر محمد بن عبد الملك الزيات، والحسن بن وهب، وأحمد بن المدبر في عهد المعتصم والواثق.
الحركة العلمية
شهد عصر القوة العباسي نهضة علمية بالغة القوة والتنوع، ويتحدث الأستاذ "نيكلسون" عن النهضة الثقافية في العصر العباسي قائلاً: "وكان لانبساط رقعة الدولة العباسية ووفرة ثروتها، ورواج تجارتها أثر كبير في إنشاء نهضة ثقافية لم يشهدها الشرق من قبل، حتى لقد بدا أن الناس جميعًا من الخليفة إلى أقل الأفراد شأنًا غدوا فجأة طلابًا للعلم، أو على الأقل أنصارًا للأدب. وفي عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارات سعيًا إلى موارد العلم والعرفان؛ ليعودوا إلى بلادهم كالنحل يحملون الشهد إلى جموع التلاميذ المتلهفين, ثم يصنِّفون بفضل ما بذلوه من جهد متصل هذه المصنفات التي هي أشبه شيء بدوائر للمعارف، والتي كان لها أكبر الفضل في إيصال هذه العلوم الحديثة إلينا بصورة لم تكن متوقعةً من قبل".
* اشتغال الموالي بالعلم:
مما يسترعي نظر الباحث في تاريخ الثقافة الإسلامية أن السواد الأعظم من الذين اشتغلوا بالعلم كانوا من الموالي، وخاصة الفرس، وكانت اللغة العربية هي الوسيلة الوحيدة للتفاهم بين المسلمين إلى أن أزال المغول الخلافة العباسية من بغداد في القرن السابع الهجري.
* تقسيم العلوم:
لقد ميز كُتَّابُ المسلمين بين العلوم التي تتصل بالقرآن الكريم وبين العلوم التي أخذها العرب عن غيرهم من الأمم، ويُطلَق على الأولى: العلوم النقلية أو الشرعية، وعلى الثانية: العلوم العقلية أو الحكمية، ويطلق عليها أحيانًا علوم العجم، أو العلوم القديمة. وتشمل العلوم النقلية: علم التفسير، وعلم القراءات، وعلم الحديث، والفقه، وعلم الكلام، والنحو واللغة، والبيان، والأدب. وتشمل العلوم العقلية: الفلسفة، والهندسة، وعلم النجوم، والموسيقى، والطب، والكيمياء، والتاريخ، والجغرافيا.
وفي العصر العباسي الأول اشتغل الناس بالعلوم الدينية، وظهر المتكلمون, وتكلم الناس في مسألة خلق القرآن، وتدخل الخليفة المأمون في ذلك؛ فأوجد مجالس للمناظرة بين العلماء في حضرته، ولهذا عاب الناس عليه تدخله في الأمور الدينية، كما عابوا عليه تفضيله علي بن أبي طالب على سائر الخلفاء الراشدين، وذهب البعض إلى أن المأمون أراد بعقد هذه المجالس إزالة الخلاف بين المتناظرين في المسائل الدينية، وتثبيت عقائد من زاغوا عن الدين، وبذلك تتفق كلمة الأمة في المسائل الدينية التي كانت مصدر ضعفهم، وكان "المأمون" يميل إلى الأخذ بمذهب المعتزلة؛ لأنه أكثر انفلاتًا من الشرع، وأكثر اعتمادًا على العقل في الأمور التي لا يصل إليها، فقرَّب أتباع هذا المذهب إليه؛ ومن ثَمَّ أصبحوا ذوي نفوذ كبير في قصر الخلافة.
أ- العلوم النقلية:
1ـ علم القراءات:
ومن العلوم التي اشتغل بها العباسيون علم القراءات، ويعتبر المرحلة الأولى لتفسير القرآن. وقد وجدت سبعة طرق في القراءات، تمثل كل طريقة منها مدرسة معترف بها ترجع قراءتها إلى إمام ترتبط باسمه، ويرجع أغلب الاختلافات في القراءات إلى رجال موثوق بهم ممن عاشوا في القرن الأول كابن عباس، وعائشة، وعثمان صاحب القراءة وابنه أبان، وإلى قُرَّاء معترف بهم كعبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وهؤلاء قد أثنى عليهم التابعون وغيرهم.
ومن أشهر أصحاب القراءات في العصر العباسي الأول يحيى بن الحارث الذماري المتوفى سنة 145هـ/ 763م، وحمزة بن حبيب الزيات المتوفى سنة 156هـ/ 773م، وأبو عبد الرحمن المقرئ المتوفى سنة 213هـ/ 829م، وخلف بن هشام البزار المتوفى سنة 229هـ/844م.
2ـ التفسير:
اتجه المفسرون في تفسير القرآن اتجاهين: يعرف أولهما باسم التفسير بالمأثور: وهو ما أُثِر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة رضوان الله عليهم، ويعرف ثانيهم باسم التفسير بالرأي: وهو ما كان يعتمد على العقل أكثر من اعتماده على النقل، ومن أشهر مفسري هذا النوع المعتزلة والباطنية.
على أن النوع الأول من التفسير وهو التفسير بالمأثور، قد اتسع على مر الزمن بما أدخل عليه من آراء أهل الكتاب الذين دخلوا في الإسلام، والذين كانت لهم آراء أخذوها عن التوراة والإنجيل مثل: كعب الأحبار اليهودي، وعبد الله بن سلام، وابن جريج، ولقد كان إسلام هؤلاء فوق التهمة والكذب, ورفعوا إلى درجة أهل العلم الموثوق بهم.
ولما كان الحديث يشغل كل عناية المسلمين في صدر الإسلام اعتُبر التفسير جزءًا من الحديث أو فرعًا من فروعه، حتى إن التفسير في ذلك العهد كان تفسيرًا لآيات مبعثرة غير مرتبة حسب ترتيب السور والآيات إلا تفسير ابن عباس، ولو أن كثيرين يشككون في نسبته إليه.
أمَّا الطريقة المنظمة في تفسير القرآن فإنها لم تحدث إلا في العصر العباسي، فقد روى "ابن النديم" في "الفهرست": "أن عمر بن بكير كان من أصحاب الفرَّاء صاحب كتاب (معاني القرآن) المتوفى سنة 207هـ/ 823م, وكان منقطعًا إلى الحسن بن سهل، فكتب إلى الفرَّاء: إن الأمير الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولاً، أو تجعل في ذلك كتابًا أرجع إليه فعلت. فقال الفراء لأصحابه: اجتمعوا حتى أملي عليكم كتابًا في القرآن. وجعل لهم يومًا، فلما خرج إليهم وكان في المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس في الصلاة، فالتفت إليه الفراء فقال له: اقرأ. وبدأ بفاتحة الكتاب ففسرها، ثم استوفى الكتاب كله، فيقرأ الرجل، ويفسر الفراء، فقال أبو العباس: لم يعمل أحد قبله مثله، ولا أحسب أن أحدًا يزيد عليه".
ومن ذلك نرى أن القرآن الكريم قد أصبح منبعًا لكثير من العلوم التي اشتغل بها المسلمون في العصر العباسي، فعلماء النحو اتخذوا منه مادة خصبة يعتمدون عليها في استنباط قواعد اللغة العربية، كما ساعد "الإعراب" على تفسير القرآن وكشف غوامض بعض الآيات القرآنية، حتى لقد وضع علماؤهم كالكسائي والمبرد والفراء وخلف النحوي كتبًا أطلقوا عليها "معاني القرآن"، كما اعتمد الفقهاء في آرائهم الفقهية على القرآن أساسًا للتدليل على صحة ما ذهبوا إليه، وأَلَّفوا في المذاهب المختلفة كتبًا سموها "أحكام القرآن"، ومن هؤلاء الشافعي وأبو بكر الرازي، أضف إلى ذلك ما كتبه المؤرخون من تفسير الآيات القرآنية التاريخية من حيث صلتها بتاريخ الأمم الأخرى، وغير خافٍ أن القرآن الكريم من أهم المصادر التاريخية على الإطلاق؛ لأنه أقدمها وأصدقها وأوسعها مجالاً.
3ـ الحديث:
ومن أهم مصادر التشريع الإسلامي "الحديث"، وهو ما أُثِرَ عن النبي صلى الله عيه وسلم من قول أو فعل أو تقرير لشيء رآه، ويأتي في الأهمية بعد القرآن الكريم.
وكانت دراسة علوم القرآن الكريم باعثًا قويًّا على ظهور علوم الحديث الشريف؛ وذلك لأنه يفصل ما أجمله القرآن الكريم، ويفسر ما يصعب على الناس فهمه، فقد شرح الحديث الكثير من الآيات القرآنية، ولم يُدوَّن الحديث الشريف تدوينًا شاملاً منظمًا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, وفي عهد صدر الإسلام. ويُروَى أن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم نهى عن تدوين الحديث حتى لا يختلط بالقرآن الكريم حيث قال: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار».
وقد ظهرت بدايات تدوين الحديث الشريف في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الذي كلف بعض من يثق بهم من علماء الحديث بجمعها، فقال لأبي بكر بن محمد بن حزم (ت120هـ/ 738م) عندما كلفه بهذه المهمة ما نصه: "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سنة ماضية، أو حديث عمرة فاكتبه؛ فإني خشيت دروس العلم، وذهاب أهله".
فكتب الأحاديث في دفاتر، وأُرْسِلَتْ منها نسخ إلى أنحاء الدولة الإسلامية.
حتى إذا جاء القرن الثاني للهجرة أخذ المسلمون يدونون الأحاديث النبوية، وأتاحوا الفرصة لظهور طائفة من أئمة الحديث الذين ظهروا في العصر العباسي، واشتهر منهم سفيان الثوري (ت161هـ/ 778م)ـ أمير المؤمنين في الحديث ـ وله من الكتب "الجامع الكبير"و"الجامع الصغير"،كلاهما في الحديث.
والإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/ 796م) أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وجَّه إليه الرشيد العباسي ليأتيه فيحدثه، فقال: العلم يُؤتَى. فقصد الرشيد منزله واستند إلى الجدار، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، من إجلال رسول الله إجلال العلم. فجلس بين يديه فحدّثه، ومن مؤلفاته كتاب "الموطأ".
وسفيان بن عيينة (ت 198هـ/ 814م) كان حافظًا ثقة، واسع العلم، قال عنه الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز. له كتاب "الجامع" في الحديث. والإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ/ 856م) صاحب كتاب "المسند" الذي اشتمل على أربعين ألف حديث تكرر فيها عشرة آلاف، ويعدّ هذا الكتاب من الكتب المعتمدة في علم الحديث.
وشهد علم الحديث في القرن الثالث الهجري نشاطًا كبيرًا عندما اتسعت حركة الجمع, واستقر نقد الحديث للتمييز بين الصحيح والضعيف، وجمعت الأحاديث في كتب خاصة، وأفردت عن الشروح الفقهية، فظهرت المصنفات الصحيحة وأشهرها صحيح البخاري (ت256هـ/870م)، وصحيح مسلم (ت261هـ/ 875م)، وسنن ابن ماجه (ت273هـ/887م)، وسنن أبي داود (ت275هـ/ 889م)، وجامع الترمذي (ت279هـ/ 893م)، وتسمى هذه الكتب (بالصحاح الستة)، وأشهرها توثيقًا صحيحا البخاري ومسلم.
4- الفقه:
كان اختلاف أئمة الفقه في بعض النصوص الفقهية، واستنباط الأحكام منها قد أدى إلى تعدد المذاهب الفقهية، واشتهر من هذه المذاهب أربعة هي: مذهب مالك إمام أهل الحجاز، وزعيم الفقهاء الذين يأخذون بطريقة أهل الحديث. ومذهب أبي حنيفة إمام أهل العراق، وزعيم الفقهاء الذين يأخذون بطريقة الرأي والقياس. ومذهب الشافعي وكان يسير أولاً على طريقة أهل الحجاز، ثم جعل مذهبه وسطًَا بين الطريقتين. ومذهب أحمد بن حنبل، وكان من كبار المحدثين، واختص هو وأصحابه بالمذهب الحنبلي الذي يبعد عن الاجتهاد؛ مما أدى إلى قلة عدد المتمسكين بمذهبه.
* ظهور المدارس الفقهيه
ظهرت في ميدان الفقه مدرستان: مدرسة أهل الحديث في المدينة وعلى رأسها الإمام مالك الذي كان يأخذ بمبدأ التوسع في النقل عن السنة، ومدرسة أهل الرأي في العراق وعلى رأسها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت المولود بالكوفة سنة 80هـ/ 700م، ومات ببغداد سنة 150هـ/ 767م.
وقيل: إنه حج وهو في السادسة عشرة من عمره مع أبيه، وشهد عبد الله بن الحارث أحد الصحابة يحدّث بما سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روي أيضًا أنه سمع مالك بن أنس، وكان أبو حنيفة بجانب اشتغاله بالعلم يحترف التجارة؛ فيبيع الخز، ويجلس في الأسواق مما أكسبه خبرة عظيمة, وجعله يعرف حقيقة ما يجري في الأسواق من معاملات الناس في البيع والشراء.
وقد تعلم أبو حنيفة الفقه في مدرسة الكوفة، وأخذ عن عطاء بن أبي رباح، وهشام بن عروة، ونافع مولى عبد الله بن عمر، ولكنه أخذ أكثر علمه عن أستاذه حماد بن أبي سليمان الأشعري، وكان أبو حنيفة يتشدد في قبول الحديث، ويتحرَّى عنه وعن رجاله.
ولم يصل إلينا أي كتاب في الفقه لأبي حنيفة، غير أن ابن النديم ذكر من بين كتبه كتاب الفقه الأكبر ـ وهو في العقائد ـ ورسالته إلى البُستي، وكتاب الرد على القدرية، والعلم برًّا وبحرًا شرقًا وغربًا بعدًا وقربًا.
ومن فقهاء ذاك العصر مالك بن أنس الذي قضى حياته بالمدينة المنورة، روي أنه أخذ قراءة القرآن عن نافع بن أبي نعيم، وأخذ العلم عن ربيعة الرأي، وسمع الحديث من كثير من شيوخ المدينة كابن شهاب الزهري، ونافع مولى عبد الله بن عمر، وروى عنه الأوزاعي.
ومن أشهر أئمة هذا العصر أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي الذي جمع بين مدرستي النقل والعقل بما آتاه الله من سعة العقل والقدرة على الابتكار، وهو أول من تكلم في أصول الفقه، وأول من أخذ في وضع مبادئه، وكان الشافعي مُعظِّمًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه إذا أراد أن يحُدِّث توضأ وجلس على صدر فراشه, وسرح لحيته, وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة.
قال عنه أحمد بن حنبل رحمه الله: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالست الشافعي. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي؟! فإني سمعتك تكثر من الدعاء له. فقال: يا بني, كان الشافعي كالشمس للدنيا, وكالعافية للبدن، هل لهذين من خلف أو عنهما من عوض؟
ومن هؤلاء الأئمة أحمد بن حنبل رحمه الله الذي قال عنه الإمام الشافعي رحمه الله عندما خرج من بغداد إلى مصر: "خرجت من بغداد وما خلَّفتُ بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل". غير أن مذهبه قليل الأتباع، وأكثرهم بالشام ونجد والبحرين، وقد شهد له أئمة عصره بالانفراد بالزهد والورع والتقوى، وموقفه من مشكلة خلق القرآن يدل على قوة عزيمته, وشدة تمسكه بالدين.
ومن فقهاء ذلك العصر أبو يوسف (ت182هـ/ 798م)، وقد تولى القضاء للمهدي والهادي والرشيد، وكان في أيام الرشيد يتقلد منصب قاضي القضاة. وكان أبو يوسف من أكبر تلاميذ أبي حنيفة، أخذ عنه الفقه، وعمل على نشر مذهبه ومبادئه بعد أن تقلد قضاء بغداد. ومن مؤلفات أبي يوسف كتاب "الخراج" الذي ألفه للرشيد, وتعرض فيه لأهم أمور الدولة المالية التي لا يستطيع الإلمام بها إلا من كان في مثل منصبه, وقربه من الخلفاء, وتضلعه في الفقه الإسلامي.
ومن أشهر فقهاء هذا العصر - كذلك - الليث بمصر، وقد أطنب العلماء في الإشادة بعلمه، روي عن الشافعي أنه قال: إن الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به. وقال ابن وهب: ما رأينا أحدًا قَطُّ أفقه من الليث (ت 157هـ/ 774م).
5- علم الكلام:
من العلوم التي اشتغل بها العباسيون علم الكلام، ويقصد به الأقوال التي كانت تُصاغ على نمط منطقي أو جدلي للدفاع عن عقيدة المتكلم، كما يسمى المشتغلون بهذا العلم "المتكلمين"، وكان يطلق هذا اللفظ أول الأمر على من يشتغلون بالعقائد الدينية، غير أنه أصبح يطلق على من يخالفون المعتزلة ويتبعون أهل السنة والجماعة.
وكان من أثر ذلك أن أخذت كل فرقة تدافع عن عقيدتها، وتعمل على دحض الأدلة التي وردت في عقائد مخالفيها، وكانت المناظرات تعقد بين المتكلمين في قصور الخلفاء، وفي المعاهد الدينية كالمساجد، وغير الدينية كبيوت الحكمة. ومن أشهر المتكلمين: واصل بن عطاء، وأبو الهذيل العلاف، وإبراهيم النظام، وعمرو بن بحر الجاحظ، وبشر بن غياث، وثمامة بن أشرس.
وقد ظهر في عهد المأمون جماعة من كبار العلماء والمتكلمين الذين تناولوا أصول الدين والعقائد، وحَكَّموا عقولهم في البحث، ونشأت بسبب ذلك اعتقادات تخالف اعتقادات عامة المسلمين، وجمهور علمائهم المعروفين بأهل الحديث، وكان اعتماد المتكلمين في مباحثهم على العقل دون النقل، ومال المأمون إلى الأخذ بمذهب المعتزلة الفاسد، القائم على نبذ الشرع وتقديم العقل عليه؛ فقرَّب أتباع هذا المذهب إليه، ومن ثَمَّ أصبحوا ذوي نفوذ كبير في قصر الخلافة ببغداد, ووافقهم فيما ذهبوا إليه من أن القرآن مخلوق وهي بدعة ضالة، وعمد إلى تسخير قوة الدولة لحمل الناس على القول بخلق القرآن؛ ربما لفساد عقيدته, وربما لشغل الناس عن القضايا السياسية ومحاسبة الحكام، كما يرى بعض الباحثين.
وصفوة القول: إن بعض خلفاء العصر العباسي الأول، كالمأمون والمعتصم والواثق شجَّع بعض الآراء الفلسفية والبحث العقلي في المسائل الدينية، وأن هؤلاء الخلفاء وقعوا فيما وقع فيه الروم من قبل، فأخذوا ببعض هذه الآراء واضطهدوا المعارضين لها، وعضدوا علماء الكلام فيما ذهبوا إليه من المسائل الدينية، وبخاصة مسألة خلق القرآن التي شغلت عقول الخلفاء وعلماء الكلام نحو خمس عشرة سنة (218- 232هـ/ 833- 847م).
6- النحو:
نشأ علم النحو في البصرة والكوفة اللتين صارتا من أهم مراكز الثقافة في القرن الأول الهجري، وفي هاتين المدينتين كانت تقيم جاليات عربية تُنسَب إلى قبائل عربية مختلفة ذات لهجات متعددة، وآلاف من الصُّنّاع والموالي الذين كانوا يتكلمون الفارسية، ومن ثَمَّ تعرضت العبارات العربية السليمة إلى شيء غير قليل من الفساد, ودعت الضرورة إلى تقويم اللسان العربي؛ حتى لا يتعرض القرآن الكريم للتحريف، وكان أبو الأسود الدؤلي أول من اشتغل بالنحو في عهد الأمويين، وقد قيل: إنه تلقى أصول هذا العلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومن علماء البصرة المبرزين في العصر العباسي الأول أبو عمرو بن العلاء (ت 153هـ/770م)، والخليل بن أحمد (ت 174هـ/ 791م) واضع علم العروض، وصاحب كتاب "العين" الذي يُعتَبر أول معجم وُضِعَ في اللغة العربية, وسيبويه الفارسي، ويعرف كتابه باسم "كتاب سيبويه"، والمبرد صاحب كتاب "الكامل"، ومن أشهر علماء الكوفة الكسائي الذي عهد إليه هارون الرشيد بتهذيب ابنيه الأمين والمأمون، وتلميذه الفراء المتوفى سنة 207هـ/ 823م.
ويعدّ الرؤاسي (ت235هـ/ 850م) مؤسس مدرسة الكوفة ورأس علمائها، قد غلبت عليه الناحية الصرفية التي اهتم بها الكوفيون, وتقدموا بها على أهل البصرة حتى عَدَّهم المؤرخون الواضعين لعلم الصرف.
وعندما تأسست مدينة بغداد وانتقلت الحركة العلمية إليها تكونت فيها مدرسة جديدة للنحو وقفت بين مدرستي البصرة والكوفة، وشجع الخلفاء العباسيون المناظرات العلمية بين علماء المدرستين، وأشهرها مناظرة الكسائي إمام الكوفة وسيبويه إمام البصرة، وفيها تغلب الكسائي فكان ذلك فوزًا لمدرسة الكوفة في بغداد، وقد أدى الخلاف بين المدرستين إلى بلورة علم النحو.
7- الأدب:
لقد شهد العصر العباسي ثورة ضخمة في الشعر، وظهر كثير من الشعراء الذين نهجوا بالشعر مناهج جديدة في الموضوعات والمعاني والأساليب والألفاظ حتى فاقوا في كل ذلك من سبقهم من الشعراء الإسلاميين والمخضرمين والجاهليين، ونشأت فيه أغراض لم تكن موجودة من قبل، وذهبت أخرى؛ فقد ضعف الشعر السياسي والحماسي والغزل العذري، وقوي شعر المدح والرثاء، وازداد الشعر الحكمي، وظهر الشعر الزهدي والصوفي والفلسفي والتعليمي والقصصي، وأسرف الشعراء المتأخرون في استعمال ضروب البديع من جناس وطباق، واهتموا بتزويق اللفظ.
وقد ازدهرت الحركة الشعرية والأدبية في العصر العباسي بفعل عملية الامتزاج بين المجتمعات والعناصر المختلفة وانتقال الثقافات الأجنبية عن طريق الترجمة، وتبلور الخلافات السياسية والمذهبية بين الفرق الإسلامية مع بعضها البعض من جهة، ومع غيرها من جهة أخرى، فضلاً عن تشجيع الخلفاء والحكام للشعراء في بغداد والمدن الأخرى، ولمع في سماء الأدب العباسي شعراء عديدون كبار أمثال: بشار بن برد (ت168هـ/ 785م)، وأبي نواس (ت198هـ/ 814م)، وأبي تمام حبيب بن أوس الطائي (ت228هـ/ 843م).
(أ) الشعر
نال الشعر من الاهتمام ما لم ينله أي لون أي لون من ألوان الأدب العربي؛ لما عرف عن صلة العرب بالشعر، فقد قيل: "الشعر ديوان العرب". وكان الشعر والأدب ينقل شفهيًّا منذ العصر الجاهلي رغم ضياع أكثره، وفي إطار هذا الجهد التدويني للشعر الجاهلي ظهرت مجموعات شعرية مهمة كالمعلقات والمفضليات والأصمعيات، فالمعلقات هي أقدم ما بقي لنا من مجموعات الشعر الجاهلي، وهي سبع قصائد طوال لسبعة من شعراء الجاهلية المشهورين، جمعها حماد الراوية (ت156هـ/ 773م) وسماها المعلقات، والمفضَّليات هي المجموعة الشعرية الثانية للمفضل بن محمد الضبي الكوفي (ت164هـ/ 781م)، والأصمعيات لعبد الملك بن قُرَيْب الأصمعي (ت216هـ/ 831م)، وهناك مجموعات شعرية أخرى كديوان الحماسة لأبي تمام (ت231هـ/ 846م)، وطبقات الشعراء لابن سلام (ت231هـ/ 846م)، وغيرها من المصنفات التي دونت أهم ما حفظته ذاكرة الرواة من الشعر الجاهلي بعد الإسلام؛ فصانته لنا من الضياع.
وكان للفرق الدينية كالشيعة والمعتزلة التي نشأت في القرن الأول الهجري، ونمت في العصر العباسي الأول، شعراء يدافعون عن مبدئِهم, ويحفزون أتباعهم لمقاومة كل اعتداء يحيق بهم من خلفاء ذلك العصر.
وقد حفَّزت الانتصارات المتوالية التي ظفر بها الخلفاء العباسيون على الروم كثيرًا من الشعراء إلى إنشاد القصائد الرائعة للإشادة ببطولتهم, وما أحرزوه من نصر وظفر في سبيل دفع خطر الأعداء عن المسلمين. من ذلك ما قاله أبو العتاهية في مطلع قصيدته التي نظمها على أثر انتصار الرشيد على الروم في هرقلة:
ألا نادت هرقلة بالخراب *** من الملك الموفق بالصواب
ومدح أبو تمام الخليفة المعتصم على أثر انتصاره في عمورية بقصيدته التي قال فيها:
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به *** نظم من الشعر أو نثر من الخطب
(ب) النثر:
أمّا النثر فلم يكن أقل ثراءً وخصبًا من الشعر، فقد بدأ النثر في صدر الإسلام بسيطًا مباشرًا موجز العبارة، وبأشكال عديدة منها: الرسائل والخطب والأحاديث والأمثال والقصص، وبتقدم الحياة الاجتماعية والعقلية تقدم النثر وتنوعت موضوعاته، وتعددت فنونه؛ فظهرت صنعة الكتابة، ومن أبرز الكُتَّاب "عبد الحميد الكاتب" الذي يُعتَبَر شيخ صناعة الكتابة، والذي قيل فيه: بدأت الكتابة بعبد الحميد وانتهت بابن العميد.
حركة التعريب والترجمة والتأليف
ـ التعريب: نقل الكتب والنصوص من لغة أجنبية إلى اللغة العربية.
ـ الترجمة: نقل الكتب وترجمتها من لغة إلى لغة أخرى.
ففي عصر المأمون (عصر الازدهار العلمي) أصبحت بغداد أعظم منارة للعلم والمعرفة في العصور الوسطى، وكان التعريب من كل اللغات، وقدم لكل مترجم قُبالة كل كتاب عرَّبه زنته ذهبًا.
وعندما انتصر المأمون على تيوفيل ملك الروم سنة 215هـ/ 831م علم بأن اليونان كانوا قد جمعوا كتب الفلسفة من المكتبات، وألقوا بها في السراديب عندما انتشرت النصرانية في بلادهم، فطلب المأمون من تيوفيل أن يعطيه هذه الكتب مكان الغرامة التي كان قد فرضها عليه؛ فقبل تيوفيل بذلك وعدَّه كسبًا كبيرًا له لنجاة أمته من أدران الفلسفة اليونانية العقيمة الفاسدة. أمّا المأمون فعدَّ ذلك نعمة عظيمة عليه، بينما كانت – في الواقع – نقمة كبيرةً على المسلمين؛ إذ تسببت تلك الكتب في إشغال المسلمين بالجدل فيما لا طائل وراءه، بل أدخلت في الإسلام عقائد وثنية مما كان يؤمن به فلاسفة الملل الأخرى كعقيدة الحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، والعقول العشرة، وغيرها.
ومن المترجمين في هذه الفترة شيخ المترجمين حنين بن إسحاق، وثابت بن قرَّة، والحجاج بن مطر.
ضعف وسقوط الخلافة العباسية
كان هذا هو الوضع في عصر القوة في الخلافة العباسية، وكانت هذه هي سماته، وقد انقلب الوضع في عصر الضعف، وهو الذي يشمل بقية خلفاء الدولة حتى سقوط بغداد عاصمة الخلافة على أيدي التتار، وقتل الخليفة المستعصم عام 656هـ/ 1258م.
فما أهم سماته؟
إن من أهم سمات عصر الضعف بالخلافة العباسية ما يلي:
1- سيطرة القادة والجند الترك على الخلفاء:
إذا كان عصر القوة العباسي الأول قويًّا فلم تقم فيه سيطرة عسكرية أو زعامة ذات قوة تعتمد عليها في حكمها للمنطقة، وإذا ما تمَّ وحدَّثت نفسُ بعض القادة بذلك فقد كان يُقضَى عليها بسرعة، وهذا ما حدث لعبد الله بن علي، وأبي مسلم الخراساني، ولم تقم في ذلك العصر سوى دولة واحدة هي دولة الأغالبة في تونس، إذ كان إبراهيم بن الأغلب أمير المنطقة، واعتمد على نفوذه، وجنده فأسس دولته، وسكت عنه العباسيون لتقف إمارته هذه في وجه الإمارات الأخرى الخارجة على العباسيين، والمخالفة لهم، وهي إمارات الخوارج في "تاهرت" و"سِجِلْماسة"، وإمارة الأدارسة في المغرب الأقصى في فاس، ودولة الأمويين في الأندلس، وبهذا فلم تقم سوى دولة واحدة في عصر القوة العباسي اعتمدت على الجند.
وشعر الخليفة المأمون أن بعض القادة الذين أصبح لهم نفوذ لم يعد بالإمكان وضع حدٍّ لهم بسهولة، وخاف مغبة الأمر؛ لذا فقد طلب من أخيه المعتصم الإكثار من جلب الأتراك من بلاد ما وراء النهر على شكل مماليك، فحياة المدن لم تُفسد طباعَهم بعدُ، ويمكن تدريبهم تدريبًا عسكريًّا كي يكونوا أداةً طيعةً بيد الخليفة تحمي بهم الثغور، وتضرب بهم خصوم الدولة في الداخل، وبدأت أفواج الترك تفد إلى بغداد حتى ضَجَّ منهم سكانها، وما أن أصبحوا جنودًا لهم نفوذ حتى كثرت تعدياتهم فقد أفسدتهم حياتهم الجديدة، وحدث الخلاف بينهم وبين البغداديين، واضطر المعتصم إلى بناء مدينة "سامراء" والانتقال بهم هناك، ومع الزمن أصبح منهم قادة اشتهر منهم "الأفشين" و"بغا" و"وصيف" وغيرهم, وزاد نفوذهم في الدولة, وأخيرًا تآمروا مع المنتصر على قتل أبيه المتوكل عام 247هـ/ 862م.
ومع مجيء هؤلاء الجند إلى مركز السلطة أصبحت الأمور بأيديهم، وبقي الخليفة اسمًا أو صورة في قصره ليس عليه سوى التوقيع على التعليمات في كثير من الأحيان, أو إصدار الأوامر حسب رأي القادة، حتى وصف الخليفة أحد الشعراء فقال:
خليفة في قفـصٍ بين وصيـف وبُغا *** يقول ما قالا له كما تقول البَبُّغا
وأصبح الحكم بالسيف لا بالرأي, والتنفيذ بالسوط لا بالحكمة، والناس مجبرون على الخضوع سواءٌ أكان الأمر حقًّا أم باطلاً، وقد قال أحد الشعراء معبرًا عن هذا الوضع:
لله دَرُّ عصــابةٍ تـركيةٍ *** جعلوا نوائب دهرهم بالسـيف
قتلوا الخليفة أحمد بن محمد *** وكسوا جميع الناس ثوب الخوف
وهكذا فسد الوضع فلم يأمن الناس بعد ذلك على أرواحهم، ولا على أموالهم، ولا على أعراضهم، وهُدِرَت الكرامة، وفَقَدَ الناس حريتهم، وضاعت العزة، وأصاب الأمة الذل، ومتى وقع ذلك فقدت الأمة مقوماتها، ولم تعد قادرة على القتال، ولا على المجابهة، وأصبح المجتمع مضطرًّا للخضوع للقادة المتسلطين، وقبول كل رأي يقوله العسكريون، وهذا ما يريدونه عادة، ولم يعرفوا نتائجه، وإنما يعرفون مصالحهم، وبسط نفوذهم وسيطرتهم, وإشباع رغبات نفوسهم؛ هذا في الداخل، وهو نفسه ما يريده أعداء الإسلام في الخارج، ولا يختلف الوضع العسكري في أي زمان ولا أي مكان عن هذا أبدًا.
وليس معنى هذا أنه لا يوجد قادة عسكريون صالحون على مدار التاريخ، فقد وُجِدَ أمثال: نور الدين محمود زنكي، وصلاح الدين الأيوبي وغيرهما، ولكن هذه نسبة قليلة، وما أن ينتهي الضابط الصالح حتى يرجع العرف العسكري، بل إن العسكري الصالح قلَّما يطول أمره لأنه يقف أمام أهواء الذين دونه، فيشعرون بالضغط والكبت فيعملون على إزاحته بصورة أو بأخرى، ومن هنا كان أصحاب القوة من العسكريين في العصر العباسي الثاني من أسباب الضعف الذي أصاب الأمة سواءٌ أكانوا عربًا أم تُركًا أم فُرسًا، فالسيف واحد بأية يدٍ كان.
2- انغماس المجتمع في الترف:
بينما كان العصر العباسي الأول عصر فتوحات عظيمة، وتوسعت بالدولة إلى آفاق غير متخيَّلة، وأصبح المستوى المادي طاغيًا؛ ويبدأ المجتمع في التمتع بثمارها، وبالنعيم الدنيوي الذي صنعه لهم المال الوفير، ووفرته لهم القصور الشاهقة، والحدائق الغنَّاء، والجواري الحسان؛ فانزلقوا إلى اللهو والمجون والفساد، وازدهرت صنعة الغناء بدل الجهاد، وصار المغنون أشهر من العلماء، وطغى حب الدنيا في القلوب، وكان من الطبيعي - والحال هكذا - أن تتوقف الفتوحات، ويركن الناس إلى الدنيا؛ فيصير الأمر إلى زوال.
وقد نشأ على إثر حالة المجون هذه حركة مضادة تدعو للزهد في الدنيا ومتاعها، برز فيها الشاعر الكبير أبو العتاهية، لكن موجة الفساد كانت طاغية؛ فغمرت الدولة العباسية حتى أسقطتها، كما أسقطت من قبلُ الإمبراطورية الفارسية.
3- ازدهار الشعوبية:
الشعوبية قوم متعصبون ضد العرب مفضِّلون عليهم العجم، ظهرت دعوتهم بعد عصر الخلفاء بدخول أجيال كثيرة من الفرس والترك والنبط في خدمة الدولة الإسلامية، فنشأت العداوات بين العرب أصحاب الدولة، وبين العجم الذين انتحلوا الإسلام، وكما حدثت هذه المفاضلة بين العرب والعجم، حدثت أيضًا بين العرب أنفسهم في صيغة أخرى، وهي: قيس ويمن، هذا مع أن هدي الكتاب العزيز يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10].
وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حِجة الوداع: «أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بالآباء، ليس لعربي على عجمي فخر إلا بالتقوى، كلكم لآدم، وآدم من تراب»،
ويقال على الجملة: إن الإسلام الذي جاء لإسقاط الجنسية، حاول بعضهم - للحرية التي استمتعوا بها على عهد عز العرب - أن يعيدوا نغمتها، وألَّف الشعوبيون رسائل وكتبًا، وصنَّفوا المسامرات والخطب، وراجت أسواق الممادح والمقابح، ورد العرب على العجم برفق لئلاَّ ينفِّروهم، وكانوا يرمون إلى تأليف القلوب لا إلى تمزيقها، شأن الأمم العاقلة التي ترمي أبدًا إلى تكثير سوادها، وجمع القلوب على حبها، تتحاشى العبث بمقدسات الناس، وتحفظ لهم حرمتهم وكرامتهم.
4- الحركات الانفصالية:
لقد مضى العصر العباسي الأول ولا تزال للمسلمين دولة واحدة، وجميعهم يتبعون خليفة واحد، وإن وُجِدت ولاياتٌ لا تقر بالخليفة القائم بالأمر، أو تختلف معه قليلاً أو كثيرًا، فإننا يمكن أن نعدها إمارات على خلاف مؤقت مع أمير المؤمنين؛ وذلك مثل: الدولة الأموية في الأندلس، وكذلك قامت دولتان للخوارج في المغرب الأوسط حوالي عام 140هـ/ 758م إحداهما للإباضيين في "تاهرت"، والأخرى للصفرية في "سِجِلماسة"، ورغم أن الخوارج يختلفون فكريًّا مع أهل السنة؛ إذ يُكفِّرون من لم ير رأيهم، ومع ذلك فلم تعلن هاتان الإمارتان الخلافة، وقامت دولة الأدارسة عام 172هـ/ 789م في المغرب الأقصى على يد إدريس بن عبد الله بن حسن, ومع أنه كان قد نجا من معركة "فخ" عام 169هـ/ 786م في أحد شعاب مكة، وقد قتل فيها كثير من أهله وذويه، وفر ناجيًا بنفسه، خائفًا من تعقُّب العباسيين وأنصارهم، وعندما تمكن من إقامة دولته لم يعلن نفسه خليفة، وتأسست دولة الأغالبة في المغرب الأدنى عام 184هـ/ 800م، ولكنها بقيت تتبع العباسيين، واستمرت إمارة عباسية أو ولاية تتبع بغداد، ولكنها وراثية في ولاتها.
أمَّا في عصر الضعف العباسي الطويل، فقد نشأت دويلات في مشرق الدولة الإسلامية إضافة إلى ما نشأ في مغربها؛ فقامت في المشرق الإسلامي دول انفصالية منها الدولة الطاهرية (205- 259هـ/ 821- 872م)، والدولة الصفارية (254- 298هـ/ 868- 911م)، والدولة السامانية (261- 389هـ/ 875- 999م).
وكذلك زادت الدول المستقلة في مغرب الدولة الإسلامية وخاصة في مصر، فقد قام المماليك بتأسيس دول لهم في مصر مثل: الدولة الطولونية (254- 292هـ/ 868- 904م)، والدولة الإخشيدية (323- 358هـ/ 934-968م)، والدولة الفاطمية في بلاد المغرب ومصر (297- 567هـ/ 909- 1171م).
وظهرت دول أيضًا في وسط الدول الإسلامية، فقد قامت الدولة الحمدانية في الموصل (317- 380هـ/ 929- 990م)، وفي حلب (333ـ 394هـ/ 944- 1003م).
وأخيرًا يمكن القول: إن وجود هذه الدويلات إنما يعود إلى الضعف الذي أصاب الدولة العباسية، وإن وجود دويلات قد زاد في الضعف، أو هو سبب من أسبابه، ومَرَدُّ كل ذلك إلى ضعف الإيمان في النفوس، وتراجع الفكر الإسلامي من العقول، وعدم فهم طبيعة الإسلام في الجهاد، والسير وراء أصحاب المنكرات والأطماع بمجرد ادعائهم الانتساب إلى آل البيت مع وضوح ضلالهم وضلالاتهم، مما دفعهم إلى القيام بحركات ضد الدولة استغلها أهل السوء، وقد نُرْجِع ذلك إلى الجهل الذي يؤدي إلى ذلك، ولكن الجهل ليس إلا من ظواهر ضعف الإيمان، وكل ذلك أدَّى إلى وجود أكثر من خليفة في بلاد المسلمين، وتعدد الدول المنفصلة عن جسم الخلافة.
إنَّ سنن الله عز وجل لا تتخلَّف، ولا تتبدل، ولا وساطة فيها لأحدٍ كائنًا مَن كان؛ لذا كان لا بد من أن تجري تلك السنن على الدولة العباسية التي خالفت المنهج الإسلامي من أول يوم، وقد جرت تلك السنن باجتياح التتار لأراضي الخلافة بكل وحشية، حتى حاصروا بغداد، بينما الخليفة العباسي لاهٍ يستمتع برقص الجواري، ويقرِّب منه الخونة، كالوزير الشيعي ابن العلقمي الذي تعاون مع هولاكو ضد المسلمين.
وكانت النهاية الحزينة، بل المفجعة باستباحة بغداد أربعين يومًا، وقتل مليون من سكانها، بعد قتل العلماء، والأئمة، والقادة المجاهدين، والأعيان، وكبار التجار، ثم قتل الخليفة المستعصم نفسه رفسًا بالأقدام.
كانت هذه النهاية خليقة بدولة قامت على سفك دماء المسلمين، وعلى اللهو والمجون في أكثر وقتها.
لذا علينا - نحن المسلمين - أن نتعلم من هذه الدولة أن الدول إنما تقوم على أساس الإيمان، والعدل، والجهاد في سبيل الله، لا اللهو؛ عسى أن يعيد الله عز وجل لنا عزتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
التعليقات
إرسال تعليقك