التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ظل بوهيموند في قبضة الملك كمشتكين ثلاث سنوات، وكان حبيسا في قلعة نكسار الحصينة، ولم تتأثر أوضاع الإمارات الصليبية بأسره، فلماذا سعوا لإطلاقه من الأسر؟
ظل بوهيموند النورماني -كما نعرف- في قبضة الملك غازي كمشتكين ثلاث سنوات كاملة حتى سنة (496هـ) أوائل 1103م، وكان حبيسًا في قلعة نكسار الحصينة على ساحل البحر الأسود في شمال آسيا الصغرى.
محاولات إطلاق سراح بوهيموند
أراد بلدوين دي بورج أمير الرها بالاشتراك مع برنارد بطرك أنطاكية أن يسعى لتحرير بوهيموند من الأسر، وذلك لخشية بلدوين دي بورج من أحلام تانكرد التوسعية[1]؛ ولما كان بلدوين دي بورج يعلم أن الحل العسكري لن يجدي في هذه القضية، خاصةً أن أخبار الحملة الصليبية الفاشلة في سنة (494هـ) 1101م لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة، أراد بلدوين دي بورج أن يحل الموقف سياسيًّا، فدعا إلى مباحثات مشتركة مع الملك غازي كمشتكين أمير الدانشمند لينظر فيما يطلب لإطلاق سراح بوهيموند النورماني. وتمَّ اللقاء فعلاً، ودُرس الموقف، لكن لم يتوصل الفريقان إلى نتيجة حاسمة[2].
في ذلك الوقت علم الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين بهذه المفاوضات، وكان الإمبراطور البيزنطي يكره بوهيموند كراهية شديدة، ويشعر أنه لعب به، وأغراه بالصداقة والولاء والتبعية، ثم تنكَّر لكل ذلك وامتلك أنطاكية، بل تجرأ تابعه وابن أخته تانكرد على أخذ مدن أذنة والمصيصة وطرسوس في أقليم قليقية شمال أنطاكية، ثم أخيرًا أسقط تانكرد اللاذقية المتنازع عليها بين الصليبيين والبيزنطيين، وبذلك ضربت كرامة الدولة البيزنطية في الأعماق، وخاصةً أن تاريخ بوهيموند في عدائه للبيزنطيين طويل، ويسبق الحروب الصليبية بسنوات عديدة.
ولذلك لما علم الإمبراطور البيزنطي بهذه المفاوضات قرر أن يدخل في اللعبة السياسية ويتفاوض مع الملك غازي على بوهيموند، وبالفعل تقدم بعرضٍ في غاية السخاء قيمته مائتان وستون ألف دينار في مقابل تسلُّم بوهيموند النورماني[3]! وكان الإمبراطور البيزنطي لا يريد فقط الانتقام من بوهيموند، بل كان ينوي أن يفعل ما لم يفكر المسلمون أن يفعلوه طيلة السنوات الثلاثة التي امتلكوا فيها أمر بوهيموند، فقد كان يريد أن يساوم النورمان في أنطاكية على بوهيموند، ومن ثَمَّ يستطيع امتلاك مدينة أو عدة مدن نظير إطلاق بوهيموند، ولا شك أن الإمبراطور البيزنطي كان يعلم قيمة بوهيموند عند النورمان، وليس أدل على ذلك من توجه الحملة الصليبية التي أتت في سنة (494هـ) 1101م بكاملها لنجدة بوهيموند، لولا أنها هلكت كما تبيَّن لنا.
موقف قلج أرسلان من هذه المفاوضات
وجاء العرض مغريًا جدًّا للملك غازي كمشتكين بن الدانشمند! إنه لا يقاتل إلا من أجل التملك والتوسع وتكثير الأموال والثروات، وها هو مبلغ هائل سيدخل جيبه دون جهد يذكر! إن الأمر يستحق فعلاً أن يُعطى جانبًا كبيرًا من التفكير!!
ومَن علم أيضًا بأمر هذه المفاوضات؟!!
لقد علم بها القائد السلجوقي الشهير قلج أرسلان، وهو الذي يقود البيت التركي الثاني في أرض آسيا الصغرى، وهو الذي ورث هو وإخوانه العداء مع بيت بني الدانشمند، فسال لعابه لهذه الثروة الطائلة التي ستدخل عما قريب لخزينة الدانشمنديين، فأرسل من فوره رسالة إلى الملك غازي يطالب فيها بنصف المبلغ عند تسلُّمه، وذلك نظير المساعدة التي قدمها قلج أرسلان في سنة (494هـ) 1101م للملك غازي في حربه ضد الحملة الصليبية[4].
إنها لم تكن حربًا لله إذن!
إن الحرب كانت دفاعًا عن الوجود والسلطة، وهي أيضًا طلبًا للمال والثروة، أما المعاني الإسلامية الرفيعة من إخلاص وتجرد ونصرة للدين وحب للجنة وجهاد في سبيل الله، فهذه ليست لها مكانة في قلوب زعماء ذلك الزمن!
وفكر الملك غازي في طلب قلج أرسلان، إنه بذلك لن يحصل إلا على مائة وثلاثين ألف دينار، وهذا وإن كان مبلغًا كبيرًا جدًّا، إلا أنه يطمع في الأكثر والأكثر، ثم إنه لا يقبل أن يرضخ لطلب من طلبات قلج أرسلان.
إنه في حيرة حقيقية من أمره!!
بوهيموند يقدم عرضه
وفي هذه الأثناء تدخل طرف آخر في المفاوضات؛ لقد تدخل بوهيموند نفسه! ولا شك أنه في ظل هذا الفساد سيكون هناك من يتطوع في نقل الأخبار إلى بوهيموند في سجنه نظير وعد بمال أو إقطاع أو غير ذلك، وإزاء هذه العروض من الإمبراطور البيزنطي والسلطان قلج أرسلان ومحاولات بلدوين دي بروج تقدَّم بوهيموند للملك غازي بعرضه[5]!!
لقد قال له بوهيموند: إن الإمبراطور البيزنطي عدو مشترك لنا جميعًا، فهو يتنازع مع الجميع من أجل الحصول على مدن آسيا الصغرى، وكذلك قلج أرسلان هو عدو لنا جميعًا!
هكذا! فأطماع قلج أرسلان في آسيا الصغرى تتعارض -ولا شك- مع أطماع بوهيموند، وأيضًا مع أطماع الملك غازي، وعليه فإن تسليم بوهيموند إلى الإمبراطور البيزنطي أو إعطاء المال لقلج أرسلان سوف يضر بمصالح غازي قبل أن يضر بالأمير بوهيموند. وعلى هذا فالعرض الذي يتقدم به بوهيموند هو جمع مبلغ مائة ألف دينار من إمارة أنطاكية وأصدقائها، وإعطاء هذا المبلغ للملك غازي كفدية، إضافةً إلى تعاهدٍ بين الفريقين: الملك غازي والأمير بوهيموند على التعاون المشترك بعد ذلك في القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتصبح إمارة أنطاكية الصليبية دولة صديقة لإمارة بني الدانشمند المسلمة[6]!
وقفة مع عرض بوهيموند
إنه عرض في غاية الإغراء للملك الطموح غازي بن الدانشمند!!
إنه أولاً سيأخذ مبلغًا من المال في غاية الضخامة؛ نعم هو أقل من عرض الإمبراطور البيزنطي، لكنه في النهاية مبلغ كبير جدًّا، ويكفي لنعرف حجمه أن ندرك أن إمارة أنطاكية بمفردها لم تستطع أن تجمع المبلغ، بل استعانت بإمارة الرها وبعائلة بوهيموند في صقلية، ويكفي أن نعرف أيضًا أنه عندما يتم أسر بلدوين دي بورج لاحقًا ستكون الفدية خمسة آلاف دينار فقط.
وثانيًا هو لن يساهم في تقوية شأن الإمبراطور البيزنطي الذي ينافسه على أرض آسيا الصغرى.
وثالثًا ستكون هذه طعنة مباشرة لقلج أرسلان عدوه اللدود.
ورابعًا سيفوز الملك غازي بصداقة الأمير الأسير بوهيموند، وستقوم علاقات دبلوماسية مهمة مع الإمارة الصليبية أنطاكية.
إطلاق سراح بوهيموند وآثاره
وإزاء هذا العرض المغري وجد الملك غازي نفسه لا يستطيع الرفض، ومن ثَمَّ قرر أن تتم الصفقة في ملطية، وكانت تحت سيطرة الملك غازي في ذلك الوقت[7].
ووصلت الأخبار إلى أنطاكية، وأسرع رجال بوهيموند بالاشتراك مع بلدوين دي بورج أمير الرها، وكذلك مع بعض الأثرياء من الصليبيين، إضافةً إلى عائلة بوهيموند في صقلية إلى جمع المبلغ المطلوب، وفي سنة (496هـ) أوائل مايو 1103م تمت الصفقة، وأطلق سراح بوهيموند، وتسلم الملك غازي المبلغ بعد أن تبادل مع بوهيموند الأيمان بحفظ الصداقة والمودة، والتعاون المشترك المخلص في المستقبل[8]!
وجنَّ جنون قلج أرسلان!
لقد ضاعت منه ثروة طائلة!
إنه لم يكن يمانع أن يطلق سراح بوهيموند إلى ألكسيوس كومنين، وكأن ألكسيوس كومنين هذا صديق للمسلمين، لا مانع من إعطائه أسباب قوة، ولكنه الآن يمانع من إطلاق بوهيموند دون أن يقبض هو جزءًا من الثمن!
وماذا فعل قلج أرسلان؟!
لقد أعلن الحرب على غازي كمشتكين؛ لتشتعل بذلك النار بين المسلمين في آسيا الصغرى، بل إنه أرسل إلى الخليفة العباسي وإلى السلطان بركياروق يستعديهما على الملك غازي، مع أنه لم يكن يعتبر مطلقًا بوجودهما، ولكنه الآن يستخدم كل الأوراق السياسية[9]!
لكن الأخطر من الصراع الذي دار بين قلج أرسلان والملك الغازي هو أن إطلاق سراح بوهيموند كان كارثة ضخمة حلَّت على المسلمين؛ لأنه عاد إلى أنطاكية فاستقبل استقبالاً حافلاً[10]، وقويت به -كما يقول ابن الأثير- نفوس أهلها به[11]، ومن ثَمَّ خرج بوهيموند بحماسة لينتقم من المسلمين بعد أن أُسر لديهم أكثر من ثلاث سنوات.
وبدأ بمهاجمة البلاد التابعة لحلب، وفرض الجزية على مدينة قنسرين[12]، وهاجم المسلمين الذين يعيشون على نهر قويق شمال حلب فمزقهم تمزيقًا، وفرض على من بقي منهم الأموال الباهظة، بل إنه فرض على حلب نفسها الجزية من المال والخيل، وأجبرها على إطلاق سراح أي أسير صليبي[13].
لقد كانت كارثة حقيقية حلت على المسلمين! لقد كانت كارثة اقتصادية وسياسية وعسكرية، وقبل كل ذلك كارثة أخلاقية شرعية، وكارثة فُرقة مقيتة عانت منها الأمة عدة سنوات مقبلة.
والثمن؟!!
مائة ألف دينار، وحلف مع إمارة أنطاكية الصليبية!!
ولعل التدبُّر في مثل هذه القصص، ورؤية تفاصيل مثل هذه المواقف والأحداث يعطينا تفسيرًا واضحًا لسيطرة الصليبيين على بقاع إسلامية كثيرة، على الرغم من كثرة أعداد المسلمين ووفرة أموالهم وقوة حصونهم؛ فإننا أبدًا لا نُهزم لقوة أعدائنا، ولكن لضعفنا وبُعدنا عن شرع الله، وسُنَّة الله لا خلف لها!
التعليقات
إرسال تعليقك