التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ظل الحصار مستحكما حول طرابلس بقيادة وليم جوردان، وفي غضون السنوات الست لم تتلق طرابلس أي مساعدة إسلامية خارجية، فماذا يفعل ابن عمار؟ وهل تنجح مساعيه؟
استيلاء العبيديين على طرابلس
لعل من المناسب أن ننظر نظرة إلى منطقة طرابلس؛ لأن الأحداث فيها في ذلك الوقت كانت في منتهى السخونة.
لقد كان الحصار مستحكمًا حول طرابلس بقيادة وليم جوردان خليفة ريمون الرابع وابن خالته، وهذا الحصار كان ريمون قد بدأه في سنة (495هـ) 1102م، أي منذ 6 سنوات كاملة، وفي غضون هذه السنوات الست لم تتلقَّ طرابلس أي مساعدة إسلامية خارجية، لا من الإمارات السنية المحيطة بها، ولا من الدولة العبيدية الشيعية المتمركزة في مصر، وكما هو معلوم فطرابلس كانت محكومة ببني عمار الشيعة، وكان أميرها هو فخر الملك ابن عمار.
لم يجد ابن عمار بُدًّا من ترك طرابلس تحت الحصار، وذلك في سنة (502هـ) 1108م ليذهب إلى بغداد لمقابلة الخليفة العباسي المستظهر بالله، والسلطان السلجوقي محمد للاستنجاد بهما وبجيوشهما[1]، لكن للاختلاف المذهبي بين الفريقين لم يُقدِّم الخليفة والسلطان لابن عمار سوى بعض الكلمات التشجيعية والعبارات التأيدية، تاركين بذلك طرابلس تسقط تحت أقدام الصليبيين!
ولا شك أن هذا نقص في الفهم، وغياب في الرؤية؛ فتقوية ابن عمار إضعاف للصليبيين، وطرابلس في النهاية مدينة مسلمة، ولم نطلب من الخليفة والسلطان هنا أن يغيرا من عقائدهما، أو يبدلا من مبادئهما، ولكننا نطلب النخوة للدماء التي تُسال، والنجدة للأرواح التي تزهق، والشجاعة في وجه الصليبيين! ولكن كل ذلك لم يحدث، وعاد ابن عمار ليجد أن طرابلس قد طارت من يده، لا إلى الصليبيين ولكن إلى العبيديين! فقد استنجد أهلها بهم في غياب ابن عمار، فجاءوا بأساطيل من مصر، وأخذوها لحسابهم[2]!
كل هذا والجيش الصليبي يحاصر المدينة من خارجها!
سقوط طرابلس في أيدي الصليبيين
وفي هذه الأثناء وصل إلى أرض الشام برترام بن ريمون الرابع يبحث عن ملك أبيه[3]! وبعد صراع وصدام مع وليم جوردان تدخل بلدوين الأول ليقسم بلاد المسلمين بين الأميرين الصليبيين، فأعطى وليم جوردان عرقة وطرطوس، في حين أخذ برترام بن ريمون قلعة صنجيل التي بناها أبوه ومدينة جبيل، على أن يأخذ برترام مدينة طرابلس حال سقوطها[4].
ثم سعى بلدوين الأول ملك بيت المقدس في تجميع الجهود الصليبية لإسقاط طرابلس، وبالفعل -وهذه أول مرةٍ منذ زمن- تجتمع جيوش برترام ووليم جوردان مع جيوش بلدوين الأول ملك بيت المقدس وجيوش تانكرد أمير أنطاكية، إضافةً إلى أسطول جنويّ كبير؛ وذلك لإسقاط المدينة العنيدة طرابلس[5].
ووجدت المدينة المسلمة نفسها وحيدة أمام الطوفان، وأحيط بالشعب المسكين، وسرعان ما دارت المفاوضات بين الحامية العبيدية (الفاطمية) وزعماء الجيش الصليبي على تأمين الحامية وإخراجها في سلام، وفتح أبواب المدينة للصليبيين، مع الوعد بصيانة دماء وأعراض المسلمين[6]، ويتكرر بذلك سيناريو الأحداث في بيت المقدس، وكأنَّ الحامية العبيدية ليس لها دور إلا تسليم المدن الإسلامية إلى جيوش الصليبيين.
نقض الصليبيين لعهدهم
وخرجت بالفعل الحامية العبيدية في أمان، ودخل الصليبيون إلى مدينة طرابلس في أواخر سنة 503هـ، وتحديدًا في الحادي عشر من ذي الحجة ثاني أيام عيد الأضحى المبارك (1109م)!
غير أن الجيش الصليبي -كما هو متوقع- غدر بالمسلمين، فقتل الكثير من أهل المدينة، وأسر بقية الرجال، وتم سبي كل النساء والأطفال، ونهبت الأموال الغزيرة؛ فقد كانت طرابلس من أغنى المدن الإسلامية، وغنم الصليبيون ما لا يحصى من كتب العلم الموقوفة، بل حرق الصليبيون في ميادين طرابلس أعدادًا لا يمكن إحصاؤها من الكتب والمخطوطات[7].
وبسقوط طرابلس تكون الإمارة الصليبية الرابعة قد تكوَّنت بعد حصار سبع سنوات متصلة، ويكون حلم ريمون الرابع قد تحقق بعد موته، وامتلك المدينة ابنه برترام بن ريمون، لتدخل المدينة فترة عصيبة من تاريخها لم تنتهِ إلا بعد مائة وثمانين سنة كاملة!!
سقوط عدة مدن إسلامية
ولم تلبث القلاع الإسلامية المتبقية في ساحل الشام أن تساقطت بعد حالة الإحباط المزرية التي أصابت المسلمين، فسقطت مدينتا بانياس وجبلة في يد تانكرد وضمهما إلى إمارة أنطاكية[8]، ثم تبعتها بيروت حيث سقطت -بعد حصار 4 أشهر- في يد بلدوين الأول ملك بيت المقدس بمساعدة برترام بن ريمون في سنة (503هـ) مايو 1110م، وذلك بعد حدوث مذبحة رهيبة في أهل بيروت المسلمين[9]، وأخيرًا سقطت مدينة صيدا اللبنانية، وذلك لحساب بلدوين الأول ملك بيت المقدس، وبمساعدة أسطول بحري بقيادة ملك النرويج شخصيًّا، وأسطول آخر بندقي بقيادة دوق البندقية نفسه[10].
وعلى ذلك سقطت كل مدن الساحل الشامي من أنطاكية شمالاً إلى يافا جنوبًا، ولم يبق من كل هذه المدن العديدة إلا صور وعسقلان اللتان تأخر سقوطهما نسبيًّا، وظلتا فترة تحت الحكم العبيدي المصري!
أما المدن الداخلية فقد ذاقت هي الأخرى ألوان الذل، وإن لم تقبع تحت الاحتلال المباشر؛ فتانكرد على سبيل المثال حاصر حصن الأثارب غرب حلب -وهو حصن خطير في الطريق بين حلب وأنطاكية[11]، وهو تابع لإمارة حلب- وعرض تانكرد فك الحصار في مقابل دفع رضوان مبلغ ثلاثين ألف دينار، ولكن رضوان لم يكن يريد دفع هذا المبلغ الكبير، ولم يكن يريد قتال تانكرد، فترك حصن الأثارب يسقط وكان ذلك في سنة (504هـ)، وقتل الصليبيون ألفين من رجال المسلمين في داخل الحصن، وأسروا الباقي[12].
لكن المشكلة الكُبْرَى أن السيطرة على هذا الحصن جعل حلب مهددة طوال الوقت، وتكرر حصارها إلى الدرجة التي آذت أهلها جدًّا، ولم يستطيعوا أن يخرجوا بسهولة إلى مزارعهم وتجارتهم؛ مما دفع الكثير من سكانها إلى الهجرة إلى بغداد وغيرها، وهذا بدوره دفع رضوان إلى عقد صلح مجحف مع تانكرد يتكفل فيه بدفع ثلاثين ألف دينار دون أن يتخلى تانكرد عن حصن الأثارب[13]، بل إن تانكرد احتل حصنًا آخر هو حصن زردنا، إضافةً إلى إطلاق كل أسرى الصليبيين والأرمن الموجودين في سجون حلب[14]، ومن هنا تدهور الحال جدًّا في حلب.
ومثلما حدث في حلب حدث في شيزر حيث دفع أميرها سلطان بن منقذ الجزية لتانكرد، وكذلك تكرر الأمر في حماة حيث تكفل أميرها علي الكردي بدفع الجزية هو الآخر لتانكرد نظير مسالمته[15]!
وهكذا أصبح تانكرد هو سيد المنطقة الشمالية من الشام، كما أصبح بلدوين الأول هو سيد المنطقة الجنوبية من الشام وكذلك فلسطين.
وعند هذا الحد تكون قد مرت ثلاث عشرة سنة على الاحتلال الصليبي للأراضي الإسلامية، ونحتاج إلى وقفة لتدبر الوضع بعد أن تبلورت صورته إلى حد كبير، ولنأخذ بعض العِبَر من الموقف، ونستقرأ المستقبل الذي ستئول إليه الأحداث.
[1] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص160.
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/120، 121.
[3] Runciman: op. cit., ll, pp. 61: 64-65.
[4] Albert d`Aix, p. 668 & Guillaume de Tyr, p. 466.
[5] أبو المحاسن ابن تغعري بردي: النجوم الزاهرة 5/179.
[6] Guillaume de Tyr, p. 468.
[7] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/136.
[8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/137، ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص163، 164؛ وذكر ابن الأثير أن تانكرد استولى على بانياس وجبيل، والحق أنها جبلة، أما جبيل فقد استولى عليها الصليبيون سنة 1104م كما مر بنا.
التعليقات
إرسال تعليقك