التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
نهاية دولة بني هود في سرقسطة، مقال د. راغب السرجاني، يتناول حكم يوسف المؤتمن وأحمد المستعين وعبد الملك عماد الدولة، حيث دخل المرابطون سرقسطة 503هـ
يوسف المؤتمن بن هود
يبدو أن المقتدر ارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه والده من قبل؛ بتقسيم ممكلته بين ولديه، فخصَّ ابنه الأكبر يوسف المؤتمن بسَرَقُسْطَة وأعمالها، وخصَّ ابنه الأصغر المنذر بلارِدَة وطُرْطُوشة ودانية ومنتشون، وكما حدث بين أولاد سليمان بن هود من قبل حدث بين أولاد المقتدر من بعد؛ فقد طمع كلٌّ من الأخوين بما في يد أخيه، فاستعان كل منهما بحليفٍ من النصارى على أخيه، فارتمى يوسف المؤتمن في أحضان السيد القمبيطور، وجيشه من المرتزقة القشتاليين، وارتمى المنذر في أحضان سانشو ملك أراجون ورامون أمير بَرْشُلُونَة، وتعرَّض المنذر وحلفاؤه لهزيمتين قاسيتين عند قلعة المنار القريبة من لارِدَة سنة (475هـ=1082م)، وأُسر فيها أمير بَرْشُلُونَة رامون، والثانية عند أحواز موريلا على مقربة من طُرْطُوشة، برز فيهما السيد القمبيطور كحليف مخلص ليوسف المؤتمن[1].
وقد حاول المؤتمن أن ينتزع بَلَنْسِيَة لما تتمتع به من موقع جغرافي، إلا أن حاكمها أبا بكر بن عبد العزيز لاحظ ما ينويه المؤتمن، فأسرع وسدَّ باب طمع المؤتمن بن هود، بأن زوَّج ابنته لأحمد المستعين بن يوسف المؤتمن، وحملها لزوجها أحمد إلى سرقسطة، وكان بناؤها في ليلة 27 من رمضان سنة (477هـ=1084م)[2].
لم تكن شهرة يوسف المؤتمن في قدرته العسكرية وطموحاته التوسعية فقط، بل كذلك في كفاءته العلمية والفكرية، وكان مثل أبيه المقتدر عالمًا بالرياضيات والفلك، وله فيها تآليف؛ مثل: رسالة الاستكمال والمناظر، وقد تُرجمت رسالته الاستكمال في القرن الثاني عشر الميلادي إلى اللاتينية، وقد وُصفت رسالته هذه أنها ترتفع من حيث قيمتها العلمية إلى مستوى إقليدس والمجيسطي[3]، كما كان المؤتمن محبًّا لمجالسة العلماء والشعراء[4].
لم تَدُم مدَّة حُكم المؤتمن أكثر من أربعة أعوام؛ إذ وافته المنية سنة (478هـ=1085م)، وهي السنة التي استولى فيها النصارى على طُلَيْطِلَة من يد القادر بن ذي النون، كانت وفاة المؤتمن بن هود نهاية لتوسعاته، وخلفه في الحُكم ابنه أحمد المستعين[5].
أحمد المستعين بن هود
تُوُفِّيَ يوسف المؤتمن وخلفه ابنه أحمد المستعين، الذي يُعْرَفُ بالمستعين الأصغر[6]، وأول ما واجهه هو صدُّ غارات النصارى، والوقوف أمام أطماع ألفونسو في انتزاع سَرَقُسْطَة، فما أن أسقط ألفونسو طُلَيْطِلَة سنة (478هـ =1085م)، حتى وجَّه قوَّاته ناحية سَرَقُسْطَة حاضرة المستعين، وضرب الحصار عليها، واستمات المستعين بكل ما يملك من أجل الدفاع عن مدينته وأملاكه أمام الهجوم القشتالي العنيف، وطرق المستعين كل الأبواب من أجل دفع ألفونسو، وعرض عليه المال الكثير، ولكن النصارى رفضوا؛ فالمدينة هي هدفهم ولا هدف غيرها، وأصرَّ ألفونسو على أخذ المدينة، وأذاع عُمَّالُه في أنحاء سَرَقُسْطَة أنه ما جاء إلا للمصلحة العامة، وما جاء إلا ليُطَبِّق القرآن وتعاليمه السمحة، ولن يجبي منهم من الضرائب إلا ما يُجيزه الشرع الحكيم، وأنهم سوف يكونوا موضع عنايتهم ورعايتهم، كما كان الوضع مع إخوانهم في طُلَيْطِلَة، واستمرَّ الحصار القشتالي على سَرَقُسْطَة دون فائدة، ثم جاء النبأ العظيم بقدوم المرابطين لإنقاذ الأندلس سنة (479هـ=1086م)، فما أن علم ألفونسو بذلك النبأ،حتى بعث مسرعًا إلى المستعين أنه يقبل الجزية التي عرضها، فأجابه المستعين، وكان ألفونسو على علم بأن المستعين لن يدفع إليه درهمًا واحدًا[7].
بعد انتصار القوات الأندلسية المرابطية المتحدة على النصارى في الزَّلاَّقَة في (رجب 479هـ= أكتوبر 1086م) ضعفت قوَّة قشتالة، ولم تَعُدْ تُشَكِّل خطرًا على سَرَقُسْطَة، فاستغلَّ المستعين هذه الفرصة وأخذ يتحيَّن الفرص للانقضاض على بَلَنْسِيَة حلم آبائه من قبله، وطرق في ذلك الوسائل النبيلة والنذيلة، وقد كُلِّلَتْ كلُّ محاولاته بالفشل؛ خاصة أنه اعتمد على النصارى المرتزقة بزعامة القمبيطور، الذي شاءت الأقدار أن تئول بَلَنْسِيَة إلى أملاك القمبيطور، بعد أن حاصرها بجنوده ونصب عليها المجانيق، حتى أكل المسلمون الكلاب والجيف والفئران، بل وأكل الناس من مات من إخوانهم المسلمين، ولما طال الحصار ولم يجد أهل بَلَنْسِيَة من يُنجدهم سقطت المدينة في يد القمبيطور سنة 488هـ، ولم تزل بَلَنْسِيَة في أيدي النصارى حتى استردَّها المرابطون سنة 495هـ[8].
وهكذا فشلت كل المحاولات التي اتخذها المستعين، وفجأة توالت المخاطر على المستعين من كل جانب؛ إذ وقع بين خطرين قد يقضيان على أحلامه، بل وملكه وحياته إذا أساء التصرُّف معهما؛ الخطر الأول: قادم من الشمال متمثلاً في جيرانه النصارى، والخطر الثاني: زاحف من الجنوب متمثلاً في قوة المرابطين الجديدة، التي تهدف إلى وحدة واحدة تجمع الأندلس كلها، وظلَّ المستعين يتحاين التحالف بين هذا وذاك، حتى قُتِلَ في معركة بلتيرة أو فالتيرا أمام ألفونسو المحارب ملك أراغون في (رجب 503هـ= يناير 1110م) [9]، كما أنه خسر مدينة وقشة إثر هزيمته الكبيرة أمام بيدور الأول بن شانجة راميرو بعد أن حاصرها، واحتدم القتال بين المستعين وبيدور من طلوع الشمس حتى غروبها، وخسر المسلمون أكثر من 12 ألفًا من الجنود، وقُتِلَ المستعين، وذلك في ذي القعدة (489هـ=1096م) [10].
نهاية بني هود
مات المستعين بن هود وخلف من بعده ابنه عبد الملك الملقب بعماد الدولة، وبايعه أهل سَرَقُسْطَة شريطة ألاَّ يُحَالِف النصارى وألاَّ يستعين بهم، ولكن يبدو أن الأمور سارت على عكس ما أراد الشعب؛ إذ استعان عبد الملك بالنصارى، فغضب الناس وتحرَّكت الحمية في قلوبهم، وبعثوا إلى المرابطين الذين استجابوا لندائهم بعد أن أفتى الفقهاء بذلك، فدخلها المرابطون سنة 503هـ، وانتهى بذلك حكم بني هود في سَرَقُسْطَة، وآلت إلى المرابطين، ولكن تداعت الأمور وسقطت المدينة في يدي النصارى في رمضان (512هـ=1112م)[11].
[1] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/285، 286، والقمبيطور: اسمه رودريغو دي فيغار، من مواليد قرية فيغار قرب برغش، أما تلقبه بالسيد، فهي تحريف لكلمة السيد العربية، وقد أطلقها المسلمون الذين خدم بينهم وحارب معهم، وأما وصفه القمبيطور، فمعناها المحارب الشجاع، فنظرًا لبسالته وشغفه بالقتال، اتخذت الأساطير القشتالية من أعماله عناصر لبطولته، ورفعته إلى مرتبة بطل إسبانيا القومي، وقد خرج هذا الفارس عن كل مبادئ الدين والإنسانية، فتارة يؤجر نفسه لأمراء المسلمين وتارة لأمراء النصارى، ويتدخَّل بشكل مباشر في الثورات والحروب في الممالك النصرانية والإسلامية. انظر: طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص454.
[5] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص178، ابن الأبار: الحلة السيراء 248، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/163.
التعليقات
إرسال تعليقك