التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
عبد المؤمن بن علي والصراع مع المرابطين، مقال د. راغب السرجاني، يتناول سقوط دولة المرابطين نتيجة حروب الموحدين على المرابطين في المغرب والأندلس
صراع عبد المؤمن بن علي مع المرابطين
عاد عبد المؤمن بن علي إلى تينملل بعد موقعة البحيرة أو موقعة البستان سنة (524هـ=1130م)، ثم مات ابن تومرت بعد ذلك بقليل، فبُويع من بعده عبد المؤمن بن علي، وأقام في تينملل فترة يتألَّف القلوب، ويُحسن إلى الناس، وكان جوادًا مقدامًا في الحروب، ثابتًا في الشدائد.
وفي سنة (528هـ) جهَّز عبد المؤمن جيشًا كبيرًا، وقاده إلى مدينة تادلة، ودارت بينه وبين أهلها حرب، انتهت بانتصار عبد المؤمن بن علي، ودخول المدينَة عَنْوة، وسار بعدها في الجبال يفتح المدن التي تليها.
وفي سنة (531هـ) تُوُفِّيَ وليُّ العهد سير بن علي بن يوسف، فاستدعى علي بن يوسف بن تاشفين ابنه تاشفين من الأندلس، وكان أميرًا عليها، وجعله وليَّ عهده، ثم قلَّده أبوه بعد ذلك قيادة جيش قوي، وأرسله لمحاربة عبد المؤمن بن علي، فسار بالجيش في الصحراء قبالة جيش عبد المؤمن، الذي كان يسير في الجبال، وكانت تَحْدُث بينهما مناوشات من وقت لآخر، ولكن لم تَحْدُث بينهما حروب أو معارك كبيرة.
وفي شتاء سنة (533هـ) وصل عبد المؤمن إلى جبل كرناطة، فنزل في أرض صلبة بين شجر، ونزل تاشفين مقابل عبد المؤمن في سهل لا نبات فيه، وفي أثناء ذلك توالى هطول الأمطار أيامًا، فصارت الأرض التي فيها تاشفين وأصحابه كثيرة الوحل، تسوخ فيها قوائم الخيل إلى صدورها، ويعجز الرجل عن المشي فيها، وَسَدَّت المياهُ الطرق؛ حتى انقطعت عن تاشفين وجيشه الإمدادات، فكانوا إذا أرادوا نارًا لم يجدوا إلاَّ رماحهم لِيُوقدوا بها النار، وأنهكهم الجوع والبرد وسوء الحال.
وكان عبد المؤمن وأصحابه في أرض خشنة صلبة في الجبل، لا يُبَالون بشيء، والإمدادات مُتَّصلة إليهم، فاستغلَّ ذلك عبد المؤمن وأرسل جيشًا في ذلك الوقت إلى وجرة من أعمال تِلِمْسَان، وقَدَّم عليهم أبا عبد الله محمد بن رقو، وهو من أهل الخمسين، فبلغ خبرهم إلى محمد بن يحيى بن فانوا (والي تلمسان من قِبَل المرابطين)، فخرج في جيش من المرابطين، فالتقوا بموضع يُعْرَفُ بخندق الخمر، فهزمهم جيش عبد المؤمن، وقُتِلَ محمد بن يحيى وكثير من أصحابه، وغنموا ما معهم ورجعوا، فتوجَّه عبد المؤمن بجميع جيشه إلى غمارة، فأطاعته قبائلها، وأقام عندهم مدَّة.
وظلَّ يسير بجيشه في الجبال، وتاشفين يُحاذيه في الصحارى، حتى تُوُفِّيَ أمير المسلمين علي بن يوسف بمراكش، وخلفه ابنه تاشفين سنة (535هـ)، فزاد طمع عبد المؤمن في البلاد، إلاَّ أنه ظلَّ مع ذلك معتصمًا بالجبال، ولم ينزل إلى الصحراء.
وفي سنة (538هـ) توجَّه عبد المؤمن بجيشه إلى تلمسان للاستيلاء عليها، فسارع تاشفين لنجدتها، وعسكر الفريقان هناك دون حرب، اللهم إلا مناوشات بسيطة، وظلاَّ كذلك حتى سنة (539هـ)، حتى رحل عبد المؤمن إلى جبل تَاجَرَة، ووجَّه جيشًا مع عمر الهِنْتَاتي إلى مدينة وهران، فهاجمها بغتة، واستولى عليها، فسمع بذلك تاشفين فسار إليها، فخرج منها عمر، ونزل تاشفين بظاهر وهران على البحر في شهر رمضان من السنة نفسها، وفي هذا الشهر قُتل تاشفين هناك، وصُلِبَتْ جُثَّتُه.
وقيل في سبب موته: إنه قصد حصنًا هناك على رابية، وله فيه بستان كبير، فيه من كلِّ الثمار، فاتفق أن عمر الهِنْتَاتي، أرسل سرية إلى ذلك الحصن، ولم يعلموا أن تاشفين فيه، فأشعلوا النار في بابه، فأراد تاشفين الهرب، فركب فرسه، فوثب الفرس من داخل الحصن إلى خارج السور، فسقط في النار، فأُخذ تاشفين فاعترف، فأرادوا حمله إلى عبد المؤمن، فمات في الحال بسبب إصابته، ثم صلبوه، وقُتِلَ كُلُّ مَنْ معه، وتفرَّق عسكره ولم يَعُدْ لهم جماعة، فتولَّى بعده أخوه إسحاق بن علي بن يوسف.
ولما قُتِلَ تاشفين أرسل عمر الهِنْتَاتي إلى عبد المؤمن بالخبر، فجاء من تاجَرَة في يومه بجميع جنوده، وتفرَّق عسكر تاشفين، واحتمى بعضهم بمدينة وهران، فلمَّا وصل عبد المؤمن دخلها بالسيف، وقتل فيها ما لا يُحصى، ثم سار عبد المؤمن إلى تاهَرْت وأقادير؛ فامتنعت أقادير وغَلَّقت أبوابها، وتأهَّب أهلها للقتال.
وأمَّا تاهَرْت فكان فيها يحيى ابن الصحراوية، فهرب منها بجنوده إلى مدينة فاس، وجاء عبد المؤمن إليها، فسارع إليه أهلها للدخول في طاعته، ولكنه لم يقبل منهم، وقتل أكثرهم، ودخلها ورتَّب أمرها، ورحل عنها تاركًا جيشًا يُحَاصِر أقادير.
وسار إلى مدينة فاس سنة (540هـ) فحاصرها تسعة أشهر، وفيها يحيى ابن الصحراوية، وعسكره الذين فَرُّوا من تاهَرْت، فلما طال حصار المدينَة عمد عبد المؤمن إلى نهر يدخلها، فسَدَّه فترة، حتى إذا اجتمع الكثير من الماء فتح المجرى فجأة، فهدم سورها، وكُلَّ ما بجوار النهر من مبانٍ وإنشاءات، فلما أراد دخولها خرج إليه أهلها، وقاتلوه خارجها؛ فلم يتمكَّن من دخولها.
ثم عاد والي فاس وأعيانها فكاتبوا عبد المؤمن في طلب الأمان لأهل فاس، فأجابهم إليه، ففتحوا له بابًا من أبوبها، فدخلها جيشه في أواخر (540هـ)، وهرب يحيى ابن الصحراوية، وسار إلى طنجة، ورتَّب عبد المؤمن أمر مدينة فاس، وأمر فنُودِيَ في أهلها: مَنْ ترك عنده سلاحًا وعُدَّة قتال حلَّ دمه. فحمل كلُّ مَنْ في البلد ما عندهم من سلاح إليه، فأخذه منهم.
ولما فرغ عبد المؤمن من فاس وتلك النواحي، سار إلى مراكش وهي عاصمة المرابطين، وكانت من أكبر المدن وأعظمها، وكان يحكمها حينئذٍ إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين، وكان صبيًّا صغيرًا، فوصل مَرَّاكُش سنة (541هـ)، وعسكر على جبل صغير في غرب المدينَة، وبنى عليه مدينة له ولجنوده، وبنى بها جامعًا، وبنى له بناءً عاليًا يُشرف منه على المدينَة، ويرى أحوال أهلها، وأحوال المقاتلين من أصحابه، وحاصرها أحد عشر شهرًا، قاتَلَ المدينةَ فيها قتالاً كثيرًا، كان المرابطون يخرجون فيه من المدينَة لقتال الموحدين، وأرهق الحصار عبد المؤمن، وقلَّ الطعام عنده، فعزم على أن ينصب كمينًا لأهل مَرَّاكُش ليُضعفهم به.
فأمر جنوده فزحفوا يومًا إلى مراكش، فخرج إليهم جنود المرابطين كالعادة، فدارت بين الفريقين معركة شديدة، ثم انهزم الموحدون وفروا أمام المرابطين، فتبعهم المرابطون إلى المدينَة التي بناها عبد المؤمن له ولجنوده على الجبل، ودارت بين الفريقين معارك شديدة، وهُدمت أجزاء كبيرة من سور مدينة عبد المؤمن، وكان عبد المؤمن يُشاهد المعركة من أعلى البناء الموجود على الجبل، وكان قد اتَّفق مع رجاله أن ينهزموا أمام المرابطين، حتى إذا لحق بهم المرابطون أمر بضرب الطبول؛ فتخرج مجموعة أخرى من رجاله كانت مختبئة، لتُحيط بالمرابطين حتى تقضي عليهم، فلما اشتدَّت المعركة صاح الموحدون بعبد المؤمن ليأمر بضرب الطبول، فقال لهم: اصبروا حتى يخرج كل طامع في البلد، فلما خرج أكثر أهل مراكش، أمر بضرب الطبول، فخرج الكمين عليهم، فقاتلوهم ودارت الدائرة على المرابطين، وقتلوا مقتلة عظيمة.
وبهذا ضعفت قوات المرابطين داخل مراكش ضعفًا شديدًا، وكان إسحاق بن علي صبيًّا صغيرًا، وكان يُدير دولتَه مشايخُ المرابطين، فحدث أن أحدهم واسمه عبد الله بن أبي بكر خرج إلى عبد المؤمن مستأمنًا، وأطلعه على عوراتهم وضعفهم، فزاد طمع عبد المؤمن فيهم، وشدَّد عليهم الحصار، ونصب عليهم المنجنيقات والأبراج، حتى فنيت أقواتهم، وأكلوا دوابَّهم، ومات من العامَّة بالجوع ما يزيد على مائة ألف إنسان، فأنتن البلد من ريح الموتى.
وكان بمراكش جيش من الفرنج كان المرابطون قد استنجدوا بهم، فجاءوا إليهم نجدة، فلما طال عليهم الأمر راسل الفرنج عبد المؤمن يسألونه الأمان، فأجابهم إليه، ففتحوا له بابًا من أبواب البلد يقال له: باب أغمات. فدخلت عساكره بالسيف، وملكوا المدينَة عَنْوَة، وقتلوا مَنْ وَجَدُوا، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع مَنْ معه من أمراء المرابطين، فقُتِلُوا.
وكان إسحاق هذا صغيرًا؛ فلما قُبِضَ عليه، وخاف أن يُقْتَل أخذ يبكي ويدعو لعبد المؤمن ويتوسَّل إليه، فقام إليه الأمير سير بن الحاج، وكان مُقَيَّدًا إلى جانبه فبصق في وجهه، وقال: تبكي على أبيك وأمك؟ اصبر صبر الرجال، فهذا رجل لا يخاف الله، ولا يدين بدين. فقام الموحدون إليه بالخشب فضربوه حتى قتلوه -وكان من شجعان المرابطين، المعروفين بالإقدام- وقُدِّم إسحاق على صغر سنه، فضُربت عنقه سنة (542هـ)، وكان آخر ملوك المرابطين، وكانت مدَّة ملكهم سبعين سنة، وَلِيَ منهم أربعة: يوسف، وعلي، وتاشفين، وإسحاق.
ولما فتح عبد المؤمن مَرَّاكُش أقام بها، وجعلها عاصمة لدولة الموحدين، وكان عبد المؤمن لما دخل مَرَّاكُش قد أكثر القتل في أهلها؛ فاختفى كثيرٌ من أهلها، فلما كان بعد سبعة أيام أمر فنُودِيَ بأمان مَنْ بَقِيَ من أهلها فخرجوا، فأراد أصحابُه قتلهم فمنعهم، وقال: هؤلاء صُنَّاع وأهل الأسواق مَنْ ننتفع به. فتُركوا، وأمر بإخراج القتلى من البلد، فأخرجوهم، وبنى بالقصر جامعًا كبيرًا، وزخرفه فأحسن عمله، وأمر بهدم الجامع الذي بناه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين[1].
وقال عبد الواحد المراكشي في المعجب: ولم يزل عبد المؤمن -بعد وفاة ابن تومرت- يطوي الممالك مملكة مملكة، ويَدُوخ البلاد[2] إلى أن ذَلَّت له البلاد وأطاعته العباد[3].
وبنظرة إجمالية فإن عَدَدَ مَنْ قُتِلَ من المسلمين في المواقع التي دارت بين المرابطين والموحدين تجاوز عشرات الآلاف، وذلك في نحو ثمانٍ وعشرين سنة؛ من سنة (512هـ= 1118م) وحتى قيام دولة الموحدين في سنة (541هـ= 1146م)، وقامت دولة الموحدين كما قامت دولة المرابطين من قبل، لكن على أشلاء الآلاف من المسلمين، وكان هذا هو الطريق الذي سلكه محمد بن تومرت ومَنْ معه، وكان هذا نهجهم في التغيير.
التعليقات
إرسال تعليقك