ملخص المقال
الشاطبي .. عالم القراءات، مقال د. راغب السرجاني يتناول حياة الإمام الشاطبي صاحب متن الشاطبية والاعتصام والموافقات وذكر نشأته ومؤلفاته وكرماته ووفاته
الإمام الشاطبي
هو كما يصفه الذهبي في السير: الشيخ الإمام، العالم العامل، القدوة، سيد القرَّاء، أبو محمد، وأبو القاسم القاسم بن فِيرُّه بن خلف بن أحمد الرعيني، الأندلسي الشاطبي، الضرير، وُلِدَ في شاطبة من بلاد الأندلس سنة (538هـ=1144م) [1].
قرأ ببلده القراءات (أي علم قراءات القرآن الكريم) وأتقنها، ثم رحل إلى بلنسية بالقرب من بلده وسمع الحديث، ثم رحل للحج فأخذ العلم -أيضًا- بالإسكندرية[2].
مؤلفات الشاطبي
ومن أشهر مؤلفات الإمام الشاطبي قصيدته الرائعة العظيمة الفائدة، الجمَّة النفع، المسماة: (حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع)، والتي عُرفت بـ «متن الشاطبية»، وقد أبدع الشاطبي فيها غاية الإبداع، ورزقه الله من التوفيق في هذا المتن ما لا يُوصف إلاَّ بأنه نور من الله U وَّر به عقله وقلبه، فأطلق لسانه بهذا المتن العظيم (متن الشاطبية)؛ ويقع هذا المتن في أبيات تزيد على الألف، وقد قال الشاطبي في خاتمته: [الطويل]
وَأَبْيَاتُهَا أَلْفٌ تَزِيدُ ثَلاَثَةً *** وَمَعْ مِائَةٍ سَبْعِينَ زُهْرًا وَكُمَّلاَ
قال الشارح: زُهْرًا وَكُمَّلاً: حالان من الضمير في تزيد الراجع إلى الأبيات؛ أي: هي زاهرة كاملة، يعني: مضيئة كاملة الأوصاف. ثم قال الشاطبي:
وَقَدْ كُسِيَتْ مِنْهَا الْمَعَانِي عِنَايَةً *** كَمَا عَرِيَتْ عَنْ كُلِّ عَوْرَاءَ مِفْصَلا
قال الشارح: أثنى في هذا البيت على معانيها وألفاظها؛ فنصب (عناية) على أنه مفعولي كُسيت؛ أي أنه اعتنى بها فجاءت شريفة المعاني، حسنة المباني، وقابل بين الكسوة والعري، فقال: كُسيت معانيها عناية، وعَرِيت في التعبير عنها عن كل جملة عورًا؛ أي لا تُنْبِئُ عن المعنى المقصود فهي ناقصة[3].
ونَظَم -أيضًا- قصيدته الرائية المسمَّاة: (عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد)، وهي في علم الرسم[4]، و(ناظمة الزهر) وهي في علم عدد الآي، وله -أيضًا- قصيدة دالية تقع في خمسمائة بيت لخَّص فيها التمهيد لابن عبد البر[5].
وتتلمذ عليه كثيرون، فقد كان شيخَ القراء بلا منازع، وقد بارك الله له في تصنيفه وأصحابه، فلا نعلم أحدًا أخذ عنه إلا قد نجب[6].
ثناء العلماء عليه
قال عنه الإمام ابن الجزري: وكان إمامًا كبيرًا أُعجوبة في الذكاء، كثير الفنون، آية من آيات الله تعالى، غاية في القراءات، حافظًا للحديث، بصيرًا بالعربية، إمامًا في اللغة، رأسًا في الأدب مع الزهد والولاية والعبادة والانقطاع والكشف، شافعي المذهب، مواظبًا على السُّنَّة، بلغنا أنه وُلِدَ أعمى، ولقد حكى عنه أصحابه ومَنْ كان يجتمع به عجائب، وعَظَّمُوه تعظيمًا بالغًا؛ حتى أنشد الإمام الحافظ أبو شامة المقدسي-رحمه الله- من نظمه في ذلك: [الوافر]
رَأَيْتُ جَمَاعَةً فُضَلاءَ فَازُوا *** بِرُؤْيَةِ شَيْخِ مِصْرَ الشَّاطِبِيِّ
وَكُلُّهُمُ يُعَظِّمُهُ وَيُثْنِي *** كَتَعْظِيـمِ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ[7]
وقال عنه المقري في نفح الطيب: وكان إمامًا علاَّمة ذكيًّا، كثير الفنون، منقطع القرين، رأسًا في القراءات، حافظًا للحديث، بصيرًا بالعربية، واسع العلم، وقد سارت الركبان بقصيدتيه: (حرز الأماني) و(عقيلة أتراب الفضائل) اللتين في القراءات والرسم، وحَفِظَهما خلقٌ لا يُحْصَوْنَ، وخضع لهما فحول الشعراء وكبار البلغاء وحُذَّاق القرَّاء، ولقد أوجز وسهَّل الصعب[8].
وقال السبكي في حقِّ الإمام الشاطبي: إنَّه كان قويَّ الحافظة، واسع المحفوظ، كثير الفنون، فقيهًا، مقرئًا، محدِّثًا، نحويًّا، زاهدًا، عابدًا، ناسكًا، يتوقَّد ذكاءً. وقال السخاوي: أقطع أنَّه كان مكاشفًا، وأنَّه سأل الله كتمان حاله، ما كان أحدٌ يعلم أي شيء هو[9].
وقال ابن خلّكان: ولقد أبدع كل الإبداع في حرز الأماني، وهي عمدة قرَّاء هذا الزمان في نقلهم، فقلَّ مَنْ يشتغل بالقراءات إلاَّ ويُقَدِّم حفظها ومعرفتها، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات لطيفة، وما أظنُّه سُبِقَ إلى أسلوبها، وقد رُوِيَ عنه أنَّه كان يقول: لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلاَّ وينفعه الله؛ لأنني نظمتها لله[10].
وقال عنه الذهبي: كان يتوقَّد ذكاء، له الباع الأطول في فنِّ القراءات والرسم والنحو والفقه والحديث، وله النظم الرائق مع الورع والتقوى، والتألُّه والوقار... وكان إذا قُرِئَ عليه (الموطأ) و(الصحيحان)، يُصَحِّحُ النسخ من حفظه، حتى كان يقال: إنه يحفظ وِقْر بعير من العلوم[11].
من كراماته
ومن عجيب ما يُروى له من الكرامات، ما أورده الإمام ابن الجزري، قال: أخبرني بعض شيوخنا الثقات عن شيوخهم أن الشاطبي كان يُصَلِّي الصبح بغلس بالفاضلية، ثم يجلس للإقراء، فكان الناس يتسابقون السُّرَى([12]) إليه ليلاً، وكان إذا قعد لا يزيد على قوله: مَنْ جاء أولاً فليقرأ. ثم يأخذ على الأسبق فالأسبق، فاتُّفِقَ في بعض الأيام أن بعض أصحابه سبق أولاً، فلما استوى الشيخ قاعدًا، قال: مَنْ جاء ثانيًا فليقرأ. فشرع الثاني في القراءة، وبقي الأول لا يدري حاله، وأخذ يتفكَّر ما وقع منه بعد مفارقة الشيخ من ذنب أوجب حرمان الشيخ له، ففطن أنه أَجْنَبَ تلك الليلة، ولشدَّة حرصه على النوبَة نسي ذلك لَمَّا انتبه، فبادر إلى الشيخ، فأُطْلِع الشيخ على ذلك، فأشار للثاني بالقراءة، ثم إنَّ ذلك الرجل بادر إلى حمام جوار المدرسة فاغتسل به، ثم رجع قبل فراغ الثاني، والشيخ قاعد أعمى على حاله، فلما فرغ الثاني قال الشيخ: مَنْ جاء أولاً فليقرأ. فقرأ، وهذا من أحسن ما نعلمه وقع لشيوخ هذه الطائفة، بل لا أعلم مثله وقع في الدنيا[13].
وفاته
توفي الشاطبي –رحمه الله- بعد حياة حافلة بالعلم الواسع الغزير والجهاد في نشره- بالقاهرة في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة (590هـ= 19/6/1194م) ودُفِنَ بالقرافة بين مصر والقاهرة بمقبرة القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، وقبره مشهور معروف[14].
[1] انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/261، 262.
[2] انظر: ابن الجزري: غاية النهاية، 2/20-22.
[3] أبو شامة: إبراز المعاني من حرز الأماني، ص756.
[4] أي رسم المصحف وهو كتابة القرآن الكريم.
التعليقات
إرسال تعليقك