التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
الناصر لدين الله، مقال د. راغب السرجاني، يتناول حكم الناصر لدين الله خليفة المنصور الموحدي على دولة الموحدين وعلماء الأندلس في عصره مثل ابن جبير وابن
الناصر لدين الله
لقي المنصور الموحدي ربه في سنة (595هـ= 1199م) عن عُمر لم يتعدَّى الأربعين سنة، تمَّ له فيه حُكم دولة الموحدين خمس عشرة سنة؛ من سنة (580هـ=1185م) وحتى وفاته في سنة (595هـ=1199م)، ثم تولَّى من بعده ابنه الناصر لدين الله أبو محمد عبد الله، وعمره آنذاك سبعة عشرة سنة وأشهر[1]، ورغم أن صِغَر السنِّ ليس به ما يشوبه في ولاية الحُكم خاصة وقد رأينا من ذلك الكثير، إلاَّ أنَّ الناصر لدين الله لم يكن على شاكلة أبيه في أمور القيادة.
وكان المنصور الموحدي قد استخلف ابنه الناصر لدين الله قبل وفاته على أمل أن يُمِدَّ الله في عمره؛ فيستطيع الناصر لدين الله أن يكتسب من الخبرات ما يُؤَهِّله لأن يُصبح بعد ذلك قائدًا فذًّا على شاكلة أبيه، لكن الموت المفاجئ للمنصور الموحدي عن عُمر لم يتجاوز الأربعين عامًا وضع الناصر لدين الله على رئاسة البلاد وهو لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره[2].
عقبات في طريق الناصر
بنو غانية
كان الناصر لدين الله شابًّا طموحًا قويًّا مجاهدًا[3]، لكنه لم يكن في كفاءة أبيه، وفضلاً عن هذا فقد كانت البلاد محاطة بالأعداء من كل جانب، والنصارى بعدُ لم ينسوا هزيمتهم في معركة الأرك، التي كانت قبل سنوات قلائل، ويُريدون أن يُعيدوا الكرة من جديد على بلاد المسلمين.
لكن المشكلة التي ما فتئت تؤرق الموحدين، وتمثل شوكة في ظهر المسلمين، هم بنو غانية، والحقيقة أن بني غانية قاموا بأسوأ دور يمكن أن يقوموا به، ولقد كان المنصور قد عزم على أن يواصل الجهاد حتى يقضي على التهديد النصراني الإسباني نهائيًّا؛ لولا أن استغل هؤلاء انشغاله بالجهاد في الأندلس فنشطوا حركتهم في إفريقية مرة أخرى؛ حتى كان تمردهم هذا من أسباب قبوله بمهادنة النصارى، فلما مات المنصور زاد نشاطهم وتكثف، فبدأت الخلخلة والاضطرابات تتزايد داخل الدولة الإسلامية الكبيرة، وفي سبيل استعادة الوضع إلى ما كان عليه وجَّه الناصر لدين الله جُلَّ طاقته للقضاء على ثورات بني غانية داخل دولة الموحدين، فخاض معهم معارك وحروب كثيرة، حتى استطاع في نهاية الأمر إخمادها تمامًا، وكان على محمد الناصر أن يبدأ عهده بالعمل على استئصال شوكتهم، فوجَّه الحملات، وتوجَّه هو بنفسه إلى إفريقية لحرب بني غانية فيها، وعاد سنة (604هـ) بعدما تمكَّن من الاستيلاء على المدن التي استولوا عليها من قبل في إفريقية[4].
هجمات ألفونسو الثامن على الموحدين
في هذه الأثناء التي كان يسعى فيها الناصر لدين الله للقضاء على ثورات بني غانية، كان قد تجدَّد الأمل عند ألفونسو الثامن، فعمل على تجهيز العُدَّة لرَدِّ الاعتبار، وقبل انتهاء الهدنة ومخالفةً للمعاهدة التي كان قد عقدها مع المنصور الموحدي قبل موته، هجم ألفونسو الثامن على بلاد المسلمين، فنهب القرى وأحرق الزروع، وقتل العُزَّل من المسلمين، وكانت هذه بداية حرب جديدة ضد المسلمين[5].
اعتداد الناصر لدين الله برأيه ومخالفته أمر الشورى
إضافة إلى ضعف كفاءة القيادة في دولة الموحدين المتمثِّلة في الناصر لدين الله، والتي لم تكن بكفاءة السابقين، فقد كان ثمة عيب خطير آخر في القيادة، كان متأصلاً في أجداده من قبله، وهو اعتداد الناصر لدين الله برأيه ومخالفته أمر الشورى[6]، ذلك العيب الذي تفاداه أبوه من قبله، فأفلح وساد وتمكَّن، ونصره الله U، وفوق هذا وذاك فكان المسلمون قد أُنْهِكُوا في رَدِّ الثورات المتتالية لبني غانية داخل دولة الموحدين.
وزاد من ذلك أمر آخر كان في غاية الخطورة، وهو أن الناصر لدين الله كان قد استعان ببطانة سوء، ووزير ذميم الخلُق وسيئ التدبير والسياسة يُدْعَى أبا سعيد بن جامع، والذي شكَّ كثير من المؤرخين في نياته، وشكَّ كثير من الأندلسيين والمغاربة المعاصرين له في اقتراحاته[7].
وقد كان لتلك العيوب أثرها الكبير في هزيمة الموحدين في موقعة العقاب، والتي سوف نفصَّل أحداثها في المقال القادم إن شاء الله.
أشهر علماء الأندلس في عهد الناصر
ابن جبير (540-614هـ=1145-1217م)
هو العلامة أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي، أديب رحَّالة، وُلِدَ سنة (540هـ) ببَلَنْسِيَة، تعلم القراءات، وعني بالأدب فبلغ الغاية فيه، وتقدَّم في صناعة الشعر والكتابة[8]، من أشهر مؤلفاته (رحلة ابن جبير)، و(نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان)، وهو ديوان شعره، و(نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرن الصالح) وهو مجموع ما رثى به زوجته (أم المجد)[9].
ومن شعره: [المنسرح]
تَأَنَّ فِي الأَمْرِ لا تَكُنْ عَجِلاً *** فَمَنْ تَأَنَّى أَصَابَ أَوْ كَادَا
وَكُنْ بِحَبْـلِ الإِلَـهِ مُعْتَصِمًا *** تَأْمَنُ مَنْ بَغْيِ كَيْدِ مَنْ كَادَا
فَكَمْ رَجَاهُ فَنَالَ بُغْيَتَهُ *** عَبْدٌ مُسِيءٌ لِنَفْسِهِ كَـادَا
وَمَنْ تَطُلْ صُحْبَةُ الزَّمَانِ لَهُ *** يَلْقَ خُطُوبًا بِهِ وَأَنْكَادَا[10]
ومن شعره -أيضًا- قوله وقد دخل إلى بغداد فاقتطع غصنًا نضيرًا من أحد بساتينها فذوى[11] في يده: [مجزوء الرجز]
لا تَغْتَرِبْ عَنْ وَطَنٍ *** وَاذْكُرْ تَصَارِيفَ النَّوَى
أَمَا تَرَى الْغُصْنَ إِذَا *** مَا فَارَقَ الأَصْلَ ذَوَى[12]
ومن إبداع ابن جبير في النثر ما أورده صاحب نفح الطيب أن ابن جبير قال في رحلته في حقِّ دمشق: جنَّة المشرق، ومطلع حسنه المُونِق المشرق، هي خاتمة بلاد الإسلام التي استقريناها، وعروس المدن التي اجتليناها، قد تَحَلَّت بأزاهير الرياحين، وتجلَّت في حلل سندسية من البساتين، وحلَّت من موضع الحُسن بمكان مكين، وتزيَّنت في منصَّتها أجمل تزيين، وتشرَّفت بأن آوى الله تعالى المسيح وأمّه منها إلى رَبْوَةٍ ذات قَرَار ومَعِين، وظلٍّ ظليل، وماء سلسبيل، تنساب مَذانبه انسيابَ الأراقم بكل سبيل، ورياض يُحيي النفوسَ نَسِيمُها العليل، تتبرَّج لناظريها بمجتلى صقيل، وتناديهم هلمُّوا إلى مُعَرَّس للحُسن ومَقيل، قد سئمتْ أرضها كثرة الما، حتى اشتاقت إلى الظَّما، فتكاد تناديك بها الصُّمُّ الصلاب، {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، قد أحدقَتْ بها البساتينُ إحداق الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهَر، وامتدَّتْ بشرقيها غُوطَتُها الخضراء امتداد البصر، فكلُّ موقع لحظة بجهاتها الأربع نظرته اليانعة قَيْدُ النظر، وللهِ صِدْقُ القائلين فيها: إن كانت الجنَّة في الأرض فدمشق لا شكَّ فيها، وإن كانت في السماء؛ فهي بحيث تُسامتها وتحاذيها! [13].
ومن ثناء العلماء عليه قول لسان الدين بن الخطيب في حقِّه: إنَّه من علماء الأندلس بالفقه والحديث، والمشاركة في الآداب. وقول المقري في نفح الطيب: وكان أبو الحسين بن جبير المترجم قد نال بالأدب دنيا عريضة، ثم رفضها وزهد فيها[14].
تُوُفِّيَ ابن جبير بالإسكندرية في 29 من شعبان سنة (614هـ) [15].
ابن القرطبي (556-611هـ=1161-1214م)
هو عبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري مالقي، قرطبي الأصل، يكنى أبا محمد، ويُعرف بالقرطبي، ولد بمالقة لثمانٍ بقين من ذي القعدة سنة (565هـ)، الموافق لشهر نوفمبر 1161م[16].
كان -كما يوصف- كاملَ المعارف، صدرًا في المقرئين والمجوِّدين، رئيس المحدِّثين وإمامهم، واسع المعرفة، مُكْثِرًا، ثقةً، عدلاً، أمينًا، مَكِينَ الرواية، رائق الخطِّ، نبيل التقييد والضبط، ناقدًا، ذاكرًا أسماء رجال الحديث وطبقاتهم وتواريخهم، وما حُلُّوا به من جرح وتعديل، لا يدانيه أحد في ذلك، عزيز النظر، متيقِّظًا، متوقِّد الذهن، كريم الخلال، حميد العشرة، دَمِثًا، متواضعًا، حسن الخلق، مُحَبَّبًا إلى الناس، نزيه النفس، جميل الهيئة، وقورًا، مُعَظَّمًا عند الخاصَّة والعامَّة، دَيِّنًا، زاهدًا، ورعًا، فاضلاً، نحويًّا ماهرًا، ريَّان من الأدب[17].
قال تلميذه الأثير جعفر بن زعرور: بِتُّ معه ليلة في دُوَيْرَتِه التي كانت له بجبل فَارَه[18] للإقراء والمطالعة، فقام ساعة كنتُ فيها يقظانًا، وهو ضاحك مسرور، يَشِدُّ يده كأنَّه ظفر بشيء نفيس، فسألتُه، فقال: رأيت كأن الناس قد حُشروا في العَرْضِ على الله، وأُتِيَ بالمحدِّثين، وكنتُ أرى أبا عبد الله النميري يُؤْتى به، فيوقف بين يدي الله تعالى، فيُعطى براءته من النار، ثم يُؤْتَى بي، فأُوقِفت بين يدي ربِّي، فأعطاني براءَتي من النار، فاستيقظتُ، وأنا أشدُّ عليها يدي اغتباطًا بها وفرحًا، والحمد لله[19].
وقد ألف في العروض مجموعات نبيلة، وفي قراءة نافع، ولخَّص أسانيد الموطأ، وله كتاب (المُبْدِي لخطأ الرُّندي)، وألف في القراءات أيضًا.
وقد تُوُفِّيَ ابن القرطبي في السابع من ربيع الآخر سنة (611هـ)[20].
التعليقات
إرسال تعليقك