التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
فتح الشعب الحلبي الأبواب للتتار بعد أن أخذوا الأمان، وانهمرت جيوش التتار داخل مدينة حلب، ترى هل وفى التتار بعهدهم وأعطوهم الأمان؟، هذا ما يبينه د. راغب
استمر الحصار التتري لمدينة حلب سبعة أيام فقط، ثم أعطى التتار الأمان لأهلها إذا فتحوا الأبواب دون مقاومة[1]، ولكن زعيمهم توران شاه قال لهم: إن هذه خدعة، وإن التتار لا أمان لهم ولا عهد، لكنهم كانوا قد أحبطوا من سقوط ميافارقين، وعدم مساعدة أميرهم الناصر يوسف لهم، وبقائه في دمشق، وتركه إياهم تحت حصار التتار لهم.. هذا الإحباط قاد الشعب إلى الرغبة في التسليم.. واتجه عامتهم إلى فتح الأبواب أمام هولاكو، لكن قائدهم توران شاه وبعض المجاهدين رفضوا، واعتصموا بالقلعة داخل المدينة.
وفتح الشعب الحلبي الأبواب للتتار بعد أن أخذوا الأمان، وانهمرت جيوش التتار داخل مدينة حلب، وما إن سيطروا على محاور المدينة حتى ظهرت النيات الخبيثة، ووضح لشعب حلب ما كان واضحًا من قبل لمجاهدهم البطل توران شاه، ولكن للأسف كان هذا الإدراك متأخرًا جدًّا! لقد أصدر هولاكو أمرًا واضحًا بقتل المسلمين في حلب وترك النصارى! وهذه بلا شك خيانة متوقعة، والخطأ هو خطأ الشعب الذي بنى قصورًا من الرمال!
وهكذا بدأت المذابح البشعة في رجال ونساء وأطفال حلب، وتم تدمير المدينة تمامًا، ثم خرب التتار أسوار المدينة لئلا تستطيع المقاومة بعد ذلك[2]، ثم اتجه هولاكو لحصار القلعة التي في داخل حلب، وكان بها توران شاه وبعض المجاهدين، واشتد القصف على القلعة، وانهمرت السهام من كل مكان، لكنها صمدت وقاومت، واستمر الحال على ذلك أربعة أسابيع متصلة، إلى أن سقطت القلعة في النهاية في يد هولاكو، وكسرت الأبواب، وقتل هولاكو -كما هو متوقع- كل من في القلعة، ولكنه أبقى على حياة توران شاه ولم يقتله!
وهنا يذكر بعض المؤرخين أن هولاكو قد فعل ذلك إعجابًا بشجاعة الشيخ الكبير توران شاه[3]، وأن هذه فروسية ونبل من الفاتح هولاكو، ولكن هذه صفات لا تتناسق أبدًا مع وصف هولاكو، وليس هولاكو بالذي يُعجب بمن يقاومه، وليس هو بالذي يتصف بنبل أو فروسية.. إنما الذي يتراءى لي أنه أبقى على حياته لأغراض أخرى خبيثة، فهذا العفو من ناحية هو عمل سياسي ماكر يريد به ألا يثير حفيظة الأيوبيين المنتشرين في كل بلاد الشام، وخاصة أنه قتل الكامل محمد الأيوبي منذ أيام، فإذا تتبع قوادهم بالقتل فهذا قد يؤدي إلى إثارتهم، ولا ننسى -أيضًا- أن كثيرًا من الأيوبيين يحالفونه، ومنهم الأشرف الأيوبي أمير حمص، وهو لا يريد أن يقلب عليه الأوضاع في الشام.. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فهو يريد أن يفتح الباب للأمراء المسلمين أن يسلموا أنفسهم إليه دون مقاومة، فهولاكو -كما هو واضح- رجل وديع جدًّا، ولطيف جدًّا، ومسالم ونبيل جدًّا جدًّا، ويحافظ على القواد الذين يقاومونه، فما بالكم بمن دخل في حِلفه؟!
ثم من ناحية ثالثة فإننا لا ننسى أن توران شاه هو عم الناصر يوسف حاكم دمشق الخائن، والإمساك بتوران شاه دون قتله قد يكون وسيلة من وسائل المساومة المستقبلية مع الناصر يوسف، أو فتح الطريق أمامه للاعتذار، وبذلك قد يوفر هولاكو على نفسه حربًا من المحتمل أن يفقد فيها عددًا من جنوده.
أنا أعتقد أن أمثال هذه الدوافع -أو ما كان على شاكلتها- قد يناسب طبيعة هولاكو الدموية، أما أن يقال إن هولاكو تأثر بأخلاق وفروسية توران شاه فأصبح هو الآخر أخلاقيًا وفارسًا، فهذا ما لا يُتوقع من مثله أبدًا!
وهكذا استقر الوضع لهولاكو في حلب، وخمدت كل مقاومة، وهدمت كل الأسوار والقلاع.. ثم أراد هولاكو أن ينتقل إلى مكان آخر في الشام، فاستقدم الأشرف الأيوبي أمير حمص، وهو أحد الأمراء الخونة الذين تحالفوا مع التتار، وأظهر هولاكو للأشرف الأيوبي كرمًا غير المعتاد! فقد أعطاه إمارة مدينة حلب إلى جوار مدينة حمص، وذلك ليضمن ولاءه التام له، ولكي يتيقن الأشرف أن من مصلحته الشخصية أن يبقى السيد هولاكو مُحتلًا للبلاد، ولكنه بالطبع وضع عليه إشرافًا تتريًا دقيقًا من بعض قادة الجند التتر، فأصبح الأمير الأشرف الأيوبي وكأنه الحاكم الإداري للمدينة[4]، أي أصبح الأمير الأشرف الأيوبي «صورة» حاكم أمام الشعب، بينما كان هناك الحاكم العسكري التتري لحلب، الذي كان يعتبر في الواقع الحاكم الفعلي للبلد، وبيده بالطبع كل مقاليد السلطة والحكم والقوَّة!
ثم اتجه هولاكو غربًا بعد إسقاط حلب، إلى حصن «حارم» المسلم (على بعد حوالي خمسين كيلو مترًا من حلب(، وكانت به حامية مسلمة رفضت التسليم لهولاكو، فاقتحم عليها الحصن بعد عدة أيام من المقاومة، وذبح كل من فيها[5].
ثم أكمل طريقه غربًا بعد ذلك حتى وصل إلى إمارة أنطاكية، وهي إمارة حليفه النصراني الأمير «بوهيموند السادس»، فضرب هولاكو معسكره خارج المدينة، ثم دعا إلى عقد مؤتمر لبحث الأوضاع الراهنة في الشرق الأوسط الجديد (وذلك حسب الرؤية التترية)؛ فبدأ حلفاؤه في هذه المنطقة يتوافدون عليه ليقدموا له فروض الولاء والطاعة.. فجاء الملك الأرمني هيثوم، وجاء إليه أمير أنطاكية بوهيموند السادس، وجاء إليه كذلك أمراء السلاجقة المسلمون: كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع، وكانت إمارتهما على مقربة من أنطاكية.
بدأ هولاكو يصدر مجموعة من الأوامر والقرارات:
أولًا: يكافأ ملك أرمينيا هيثوم بمكافأة كبيرة من غنائم حلب، وذلك تقديرًا لمساعدات الجيش الأرمني على إسقاط بغداد ثم ميافارقين ثم حلب.
ثانيًا: على سلطانَيْ السلاجقة: كيكاوس الثاني، وقلج أرسلان الرابع أن يعيدا بعض المدن والقلاع التي كان المسلمون قد فتحوها قبل ذلك إلى ملك أرمينيا، وذلك لتوسيع ملك الزعيم الأرمني، وتثبيت أقدامه في المنطقة كحليف إستراتيجي أساسي لهولاكو.. ولم تكن -بالطبع- فرصة الاعتراض واردة عند السلطانين المسلمين!
ثالثًا: يكافأ «بوهيموند السادس» أمير أنطاكية على تأييده لهولاكو، وذلك بإعطاء مدينة اللاذقية المسلمة له، ليضمها بذلك إلى أملاك إمارة أنطاكية، وكانت اللاذقية قد حررت من الصليبيين أيام صلاح الدين الأيوبي، وظلت مسلمة إلى هذه اللحظة، ولكنها أهديت بكلمة واحدة إلى النصارى! والقرار الثاني والثالث هما تطبيق للقاعدة الاستعمارية المجحفة وهي أن المحتل يعطي ما لا يملك لمن لا يستحق!
رابعًا: يعين بطريرك جديد للكنيسة في أنطاكية المحكومة أصلاً بالنصارى! وليس في حلب مثلاً أو بغداد.. ولكن في أنطاكية ذاتها، ومن المعلوم أن هولاكو لم يكن نصرانيًا، فالقرار يأتي من قبل من لا يفقه في النصرانية شيئًا، وفوق ذلك فالبطريرك الجديد ليس من أنطاكية! بل أنكى من ذلك فالبطريرك الجديد ليس من المذهب النصراني نفسه الذي عليه بوهيموند السادس وهيثوم! وهذه سابقة خطيرة في تاريخ النصارى.
وهذا القرار الرابع كان قرارًا غريبًا، فهو ليس في مصلحة أمير أنطاكية ولا في مصلحة الملك الأرمني، ولكن هذا القرار كان لإثبات أن كل شيء الآن أصبح بيد السيد الجديد هولاكو، وما هؤلاء الملوك إلا «صورة» حلفاء فقط.
صفعة على خد الكنيسة!
لقد عين هولاكو البطريرك اليوناني «يومنيميوس» مكان البطريرك اللاتيني (الإيطالي) الذي قدم قبل ذلك من جنوة[6]، ولا ننسى أن الإمارات الصليبية في الشام هي إمارات مملوكة لنصارى غرب أوربا، وهم جميعًا على المذهب الكاثوليكي، بينما البطريرك اليوناني الجديد على المذهب الأرثوذكسي، وهو مذهب أوربا الشرقية، وبالطبع فهناك فارق شاسع بين المذهبين، بل هناك -أيضًا- صراع كبير بين المذهبين، فكانت هذه الخطوة من هولاكو خطوة محسوبة لها مراميها الخطِرة جدًّا.
فهو أولًا يريد إذلال أمير أنطاكية وملك أرمينيا ليعلما أنهما مجرد تابعين له لا رأي لهما، ولا يرقى إلى أذهانهما أن يتعاملا مع هولاكو «كحلفاء» على المستوى نفسه، وثانيًا هو لا يريد أن يكون هناك استقرار في هذه المناطق لكي لا يتوسع ملك أو أمير في المنطقة على غير رغبته، بل سيجعل كل فريق من حلفائه رقيبًا على الآخر، وثالثًا كان هولاكو يريد إقامة علاقات صداقة وجوار مع الإمبراطور اليوناني، وذلك ليضمن استقرار سلطانه على أرض الشام والأناضول، وهي الأرض المجاورة تمامًا للإمبراطور اليوناني، فإذا انتهى من أمر الأناضول كله، فقد يفكر في إعادة ترتيب أوراقه من جديد.
وبالطبع كان في هذه الخطوة إهانة كبيرة لأمير أنطاكية، ولكنه كان واقعيًا، وأدرك حجمه الطبيعي، وموقفه المهين فلم يعترض، ولكن كبراء قومه ووزرائه اعترضوا عليه، لكن بوهيموند السادس أصر على الرضوخ لهولاكو، ووضح لهم قدرهم الحقيقي، فهم يحكمون إمارة لا تُرى على خريطة الدنيا، بينما التتار دولة تصل في ذلك الوقت من كوريا شرقًا إلى بولندا غربًا، وقد اكتسحت في طريقها كل أملاك المسلمين، علمًا بأن كل الحروب الصليبية السابقة -التي قامت بها أوربا ضد المسلمين على مدار عشرات السنين- لم تفلح إلا في احتلال بعض الإمارات الصغيرة المتفرقة في تركيا وسوريا وفلسطين ولبنان، ولم تكن الإمارة في الغالب سوى مدينة واحدة تحيط بها بعض القرى.
وهكذا استقر الوضع لهولاكو في شمال سوريا وجنوب تركيا، وبدأ يفكر في التوجه جنوبًا لاحتلال مدينة حماة أولًا، ثم المرور على بعد ذلك على مدينة «حمص»، وهي بلد الأمير الخائن الأشرف الأيوبي الموالي له، وذلك ليصل في النهاية إلى «المجاهد» الناصر يوسف الأيوبي وجيشه الرابض في شمال دمشق!
وبينما كان جيش التتار يستعد للتوجه إلى حماة، حدث شيء لم يكن في الحسبان..
لنتابع ما الذي حدث، وإلى أين سيصل جيش هولاكو؟ وذلك في المقال القادم بإذن الله.
[1] ابن كثير: البداية والنهاية 13/253.
[2] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 2/270.
[3] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص112.
[4] ابن كثير: البداية والنهاية 13/256.
[5] ابن الوردي: تاريخ ابن الوردي 2/199.
[6] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص112، 113.
التعليقات
إرسال تعليقك