ملخص المقال
سيرة شيخ الاسلام الإمام النسائي ناقد الحديث وصاحب السنن منذ نشأته وحتى وفاته وتاريخه وتراثه العلمي المختلف وانجازاته ومؤلفاته ومسيرته العلمية
هو أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار النَّسائي، وكنيته "أبو عبد الرحمن"، ولد العام 829م (215هـ)، في مدينة نَسا، من بلاد خراسان قديماً، وتقع بين إيران وافغانستان حالياً، لا يعرف الكثير عن بداياته في مسقط رأسه، مما يدلّ على أنه نشأ في أسرة متواضعة العلم والمكانة، وقد وضعه الذهبي في الطبقة السابعة عشرة في كتابه "سير أعلام النبلاء" ويبدأ سيرته بقوله: "الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام صاحب السنن، الإمام في عصره، والمقدم على أضرابه وأشكاله وفضلاء دهره، رحل إلى الآفاق واشتغل بسماع الحديث والاجتماع بالأئمة الحذاق"، ويصفه ابن كثير بقوله: هو "محدّث، وقاضٍ، وأحد أئمة الحديث النبوي الشريف، صاحب السنن الصغرى والكبرى، المعروفة بسنن النّسائي.
الإمام النسائي يطلب العلم
قد طلب العلم في صغره وجدَّ في ذلك، وتتلمذَ على كثير من أئمة الحديث؛ كقتيبة بن سعيد، وإسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، وعمرو بن علي الفلاس، وعيسى بن محمد الرملي، وكثير بن عبيد، ومحمد ابن أبان البلخي، ومحمد بن إسماعيل ابن علية قاضي دمشق، ومحمد بن بشار، وغيرهم كثير.
وجَال الدِّيار وتنقَّل بين البلدان طالبًا العلم، حيث ارتحل إلى خراسان والحجاز ومصر والعراق والشام ثم استوطن مصر، فما كان من الحفاظ إلا أن رحلوا إليه.
فقد أضحى شيخًا مهيبًا، وبحرًا من بحور العلم والفهم والإتقان والاطلاع ونقد الرجال وحسن التأليف.
وكان رحمه الله على مسلك أهل السنة والسَّلف في المعتقد كعامَّة المحدِّثين، وكان يشنِّع على المبتدعة والمخالفين للسنَّة خاصَّة في مسائل الصفات والقول بخلق القرآن.
شيوخه
طلب النسائي العلم والحديث وهو صغير، فرحل إلى خراسان ليتعلم من قتيبة بن سعيد، والحجاز والعراق والشام والجزيرة العربية، ثم استوطن مصر، وكان شافعي المذهب"، وقال عنه ابن الأثيـر: "كان شافعيّ المذهب، له مناسك ألفها على مذهب الشافعي"، ولذلك ترجم له أصحاب طبقات الشافعية في كتبهم.
ومن شيوخه: إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، وسمع من قتيبة البغلاني المحدث.
صفته وخلُقه
كان مليح الوجه ظاهر الدم حسن الشيبة، يأكل من الطيبات، ويكتسي الحسن من الثيَّاب، وكان يقسم لزيجاته الأربع وإمائه ويكثر الاستمتاع، وكان مع كلِّ ذلك ناسكًا متعبّدًا لربِّه، يصوم يومًا ويفطر يومًا، مقيمًا للسنن المأثورة.
وكان رحمه الله محبًا لطلب العلم والترحال من أجل تحصيله، فقد جال البلاد واستوطن مصر، فحسده مشايخها، فخرج إلى الرملة في فلسطين.
كان يجتهد في العبادة، قال أبو الحسين محمد بن مظفر الحافظ: سمعت مشايخنا بمصر يعترفون له بالتقدم والإمامة ويصفون من اجتهاده في العبادة بالليل والنهار ومواظبته على الحج والجهاد.
وقال غيره: كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان له أربع زوجات وسريتان وكان كثير الجماع، حسن الوجه، مشرق اللون، قالوا: وكان يقسم للإماء كما يقسم للحرائر.
وكان في غاية الورع والتقى، وكان يواظب على أفضل الصيام، أي: صيام داود، فكان يصوم يومًا ويفطر يومًا.
وكان غاية الحسن وجهه كأنه قنديل، وكان يأكل في كل يوم ديكا ويشرب عليه نقيع الزبيب الحلال.
مكانته العلمية
كان من بحور العلم مع الفهم والإتقان والبصر ونقد الرجال وحسن التأليف رحل في طلب العلم في خراسان والحجاز ومصر والعراق والجزيرة والشام والثغور ثم استوطن مصر ورحل الحفاظ إليه ولم يبق له نظير في هذا الشأن
حدَّث عنه أبو بشر الدولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو عليّ النيسابوري وغيرهم كثير.
تلامذته ومؤلفاته
خلَّف الإمام النسائي رحمه الله للأمة الإسلامية جهابذةً من الطلاب والعلماء، وأضاف إلى المكتبة الإسلامية أسفارًا باتت عُمَدًا في عالم المصنَّفات.
فمن تلاميذه: أبو بشر الدولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو علي النيسابوري، وحمزة ابن محمد الكناني، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس النحوي، وأبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد الشافعي، وغيرهم كثير.
ومن أهمّ مصنفاته: السنن الكبرى، والمجتبى الشهير بـ(سنن النسائي)، وخصائص علي، وعمل اليوم والليلة، وهذه الكتب الثلاثة مختصرة من السنن الكبرى، وله أيضًا فضائل الصحابة، والتفسير، والكنى، والتمييز، ومعجم شيوخه، وغيرها من التصانيف.
درجة أحاديثه
يقول السيوطي في مقدمة شرحه لكتاب السنن للنسائي: كتاب السنن أقل الكتب بعد الصحيحين حديثـًا ضعيفـًا، ورجلاً مجروحـًا.
وقد وضع النسائي كتابًا كبيرًا جدًا حافلاً عرف بالسنن الكبرى، وهذا الكتاب (المجتبى) المشهور بسنن النسائي منتخب منه، وقد قيل: إنَّ اسمه (المجتنى) بالنون
وكتاب (المجتبى) هذا يسير على طريقة دقيقة تجمع بين الفقه وفن الإسناد، فقد رتب الأحاديث على الأبواب، ووضع لها عناوين تبلغ أحيانًا منزلة بعيدة من الدقة، وجمع أسانيد الحديث الواحد في موطن واحد.
وقد جمع النسائي في كتابه أحاديث الأحكام، وقسمه إلى كتب، وعدد كتبه 58 كتابـًا، وقسم كل كتاب إلى أبواب، ولم يفعل فعل أبي داود والترمذي في الكلام على بعض الأحاديث بالتضعيف، كما لم يتكلم على شيء من رجال الحديث بالجرح والتعديل، ولم ينقل شيئـًا من مذاهب فقهاء الأمصار.
والسبب الذي دعا أبا داود والترمذي والنسائي إلى أن يذكروا في كتبهم أحاديث معللة هو احتجاج بعض أهل العلم والفقه بها، فيوردونها ويبينون سقمها لتزول الشبهة.
وقد اشتهر النسائي بشدة تحريه في الحديث والرجال، وأن شرطه في التوثيق شديد.
ثناء العلماء عليه
قد استنطق هذا الإمام بجهده أفواه من عاصره وخَلَفه من أهل العلم، ومن أولئك الإمام الحاكم حيث يقول: "كلام النسائي على فقه الحديث كثير، ومن نظر في (سُننه) تحيَّر في حسن كلامه".
ويقول عنه ابن الأثير: "كان شافعيًّا له مناسك على مذهب الشافعي وكان ورعًا متحريًا".
وقال الذهبي: "ولم يكن أحد في رأس الثلاث مائة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن أبي عيسى، وهو جار في مضمار البخاري، وأبي زرعة".
قال الحافظ ابن طاهر: "سألت سعد بن علي الزنجاني عن رجل، فوثقه. فقلت: قد ضعفه النسائي. فقال: يا بني إن لأبي عبد الرحمن شرطًا في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم". قال الذهبي: "صدق فإنه ليَّن جماعة من رجال صحيحي البخاري ومسلم".
وقال الدارقطني: "أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يُذكر بهذا العلم من أهل عصره". وقال: "وكان أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعلمهم بالحديث والرجال".
وقال أيضًا: "كان أبو بكر بن الحداد الشافعي كثير الحديث، ولم يحدث عن غير النسائي، وقال: رضيت به حجة بيني وبين الله تعالى".
وقال الإمام الذهبي: "هو أحفظ من مسلم".
وقال ابن عدي سمعت منصورا الفقيه وأحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي يقولان: أبو عبد الرحمن النسائي إمام من أئمة المسلمين.
وقال الحافظ أبو عبد الرحمن النيسابوري: أبو عبد الرحمن النسائي الإمام في الحديث بلا مدافعة.
وقال أبو الحسن الدار قطني: أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره.
وقال أبو عبد الله بن منده: الذين أخرجوا الصحيح وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب أربعة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، وأبو عبد الرحمن النسائي.
محنة الإمام النسائي ووفاته
دخل الإمام النسائي دمشق في آخر عمره، فوجد كثيرًا من أهلها منحرفين عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فحدث فيهم بفضائله، فتعصب عليه بعض الجهلة وضربوه، وكان ذلك سببًا في موته رحمه الله.
قال محمد بن موسى: "سمعت قوما ينكرون عَلَيْهِ كتاب "الخصائص"، لعلي رضي الله عَنْهُ، وتركه لتصنيف فضائل أَبِي بَكْر وعُمَر وعثمان رضي الله عنهم، ولم يكن فِي ذلك الوقت صنفها، فحكيت لَهُ ما سمعت، فَقَالَ: دخلنا إِلَى دمشق، والمنحرف عَنْ علي بِهَا كثير، فصنفت كتاب "الخصائص"، رجاء أن يهديهم الله.
وقد ذكروا أن أهل دمشق لَمَّا ظنوا أنه يتنقص معاوية رضي الله عنه آذوه وضربوه، فَمَا زَالُوا يَدْفَعُوْنَ فِي حِضْنَيْهِ حَتَّى أُخْرِجَ مِنَ المَسْجَدِ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى الرَّمْلَةِ – وقيل: إلى مَكَّةَ - فَتُوُفِّيَ بِهَا.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: خَرَجَ حَاجّاً فَامتُحِنَ بِدِمَشْقَ، وأدرك الشهادة، فقال: احمِلُونِي إِلَى مَكَّةَ. فَحُمِلَ وَتُوُفِّيَ بِهَا.
قَالَ الْحَاكِمُ: مَعَ مَا رُزِقَ النَّسَائِيُّ مِنَ الْفَضَائِلِ، رُزِقَ الشَّهَادَةَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، مَاتَ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
وَحَكَى ابْنُ خَلِّكَانَ فِي "الْوَفَيَاتِ" أَنَّهُ إِنَّمَا صَنَّفَ "الْخَصَائِصَ" فِي فَضْلِ عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْبَيْتِ، لِأَنَّهُ رَأَى أَهْلَ دِمَشْقَ حِينَ قَدِمَهَا فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ عِنْدَهُمْ نُفْرَةٌ مِنْ عَلِيٍّ"[1].
[1] للمزيد انظر: الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك: الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرناءوط، وتركي مصطفى، إحياء التراث، بيروت، ١٤٢٠هـ=٢٠٠٠م، ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي: البداية والنهاية، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1418هـ=1997م، الذهبي، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناءوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1405هـ=1985م.
التعليقات
إرسال تعليقك