ملخص المقال
سيرة شيخ الإسلام الإمام البيهقي منذ نشأته وحتى وفاته وتاريخه وتراثه العلمي المختلف وانجازاته ومؤلفاته ومسيرته العلمية
هو أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى البيهقي الخرساني، و "بيهق" مدينة كبيرة من نواحي نيسابور، كثيرة البلدان والعمارة، وقد أخرجت ما لا يحصي من العلماء الفضلاء والفقهاء والأدباء.
ولد الإمام البيهقي بخسروجرد، وهي قرية من قرى بيهق بنيسابور في شهر شعبان عام384هـ، فقد كانت نيسابور تزخر بحركة علمية واسعة وهي مدينة عظيمة، ذات فضائل كبيرة، وقد كانت معدن العلماء، ومنبع الفضلاء، وقد فتحت أيام الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
نشأة الإمام البيهقي
نشأ الإمام البيهقي نشأة علمية في نيسابور والتي كانت تموج بحركة علمية، ونشاط فكري في القرن الرابع والخامس الهجري، ويظهر لنا أن البيهقي قد لقي عناية طيبة منذ صغره، والذي يؤكد لنا ذلك ما قاله البيهقي نفسه " إني كتبت الحديث يقول البيهقي "إني كتبت الحديث من سنة تسعة وتسعين وثلاثمائة، فقد كانت عمره في ذلك الوقت خمسة عشر عامًا، وبذلك يكون البيهقي قد نشأ نشأة طيبة فبدأ البيهقي التطواف على الشيوخ في مرحلة عمره الأولى، وهي المرحلة العلمية التي أشار إليها البيهقي نفسه، وهو يتحدث عن نشأته هذه، فقال: نشأت وابتدأت في طلب العلم، أكتب أخبار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع آثار الصحابة الذين كانوا أعلام الدين، وأسمعها ممن حملها، وأتعرف أحوال رواتها من حفاظها، وأجتهد في تمييز صحيحها من سقيمها، ومرفوعها من موقوفها.
فنشأة البيهقي كانت نشأة زكية مدعومة بنهضة مبكرة في الأخذ بأولويات العلوم، ومعرفة مراتبها.
وقد ساهمت هذه النشأة العلمية المبكرة في تكوين البيهقي وإنضاجه، وتزامن معها تلمذته على كبار رجال عصره من المحدثين والفقهاء، الذين كانت تمتلأ بهم نيسابور.
رحلاته في طلب العلوم
اتخذ الإمام البيهقي مدينة "بيهق" منطلقًا لرحلاته العلمية الواسعة في المدن المتاخمة لها أولاً، وهذه الرحلات هي التي ساهمت في تكوينه العلمي، وأثرت حصيلته من المادة العلمية والفقهية، وعلى رأسها المرويات الحديثية، والتي هي أصل من أصول التشريع، وعليها تبنى الأحكام.
وحفلت حياة البيهقي بالتطواف والترحال في البلاد لطلب العلم، والهمة في بثه وتعليمه، والاعتكاف على تدوينه.
رحلات البيهقي في طلب العلم
رحل البيهقي لعدة مدن لطلب العلم، منها: نيسابور، استراباذ، أسد آباد، أسفرايين، خراسان، الدامغان، الطابران، طوس، قرمين، مهرجان، نوقان، همدان، بغداد، الكوفة، شط العرب، الري، مكة المكرمة، المدينة المنورة، عودته إلى بلده بيهق.
وقد كان المكان الأول الذي تلقى فيه البيهقي علومه هو نيسابور، وهي من المدن العظيمة، ذات الفضائل الكبيرة، فقد كانت معدن الفضلاء، ومنبع العلماء، ورحل إليها البيهقي في وقت مبكر من نشأه العلمية، ولعل ذلك كان في مطلع القرن الخامس الهجري، والذي يؤكد هذا سماع البيهقي من الإمام الحاكم
والذي كان يناهز الثمانين، وقد كان لقاؤه به في نيسابور فأخذ منه ما يزيد على عشرة آلاف رواية، وقد أودع البيهقي جزءًا من مسموعاته هذه من الإمام الحاكم في كتابه السنن الكبرى، والرواية عنه.
أما المحطة الثالثة عشر فقد عزم الإمام البيهقي على زيارة بغداد، وقد كانت من المراكز الحديثية الكبرى، وقد سمع البيهقي في بغداد من عدد وافر من المحدثين، الذين كانوا يتصدرون النشاط العلمي في هذا البلد وقتذاك مثل الإمام أبي بكر أحمد بن محمد الخوارمي، وكانت بغداد من أكبر البلاد والتي حصل فيها علم الحديث، ويظهر ذلك بأن أكبر نسبة من شيوخه كانت في بغداد إذا ما قورنت ببقية المراكز الأخرى، تليها نيسابور فقد نص البيهقي على سماعه فيها من عشرة شيوخ أعلام.
شيوخ البيهقي
لقد ساهم تكبير الإمام البيهقي في طلب العلم، وقيامه بالتطواف على العلماء، وهو في الخامسة عشر من عمره، وتلقى العلم على أيدي كبار أئمة الحديث والفقه والعقيدة وغيرها من العلوم، وقد تحدث السبكي عن شيوخ البيهقي فقال: أكثر من مائة شيخ، ومن شيوخ البيهقي:
1- أبو عبد الله الحكم لنيسابوري ت405هـ
لقيه البيهقي في مطلع حياته، وعظمت استفادة البيهقي من الحاكم، وكبر انتفاعه به، فقد بلغت مروياته عنه في السنن الكبرى 8491 رواية.
وقال الإمام الذهبي في وصف الكم الوافر من العلوم التي سمعها البيهقي وسمع من الحاكم أبي عبد الله الحافظ فأكثر جدًا.
2- أبو الفتح المروزي الشافعي
كان إمام الشافعية في زمانه، برع في المذهب، وكان مدار الفتوى والمناظرة، وقد أخذ البيهقي عن المروزي علم الفقه، فهو أستاذه في الفقه، وسمع البيهقي جملة من المرويات أوردها في لسنن الكبرى، وبلغت 65 رواية.
3- عبد القاهر البغدادي.
كان من العلماء البارعين، وأحد أعلام الشافعية في عصره، وهو صاحب كتاب "الفرق بين الفرق" قال عنه أبو عثمان الصابوني: كان من أئمة الأصول وصدور الإسلام بإجماع أهل الفضل، إمامًا مقدمًا مفخمًا.
4- أبو سعيد بن الفضل الصيرفي
كان من الشيوخ الثقات المأمونين، وقد لازمه البيهقي وأكثر التلقي عنه، وقد بلغت رواياته عنه في السنن الكبرى 1104 رواية.
وهناك الكثير من الشيوخ الذين تعلم منهم البيهقي وأخذ منهم، واستفاد من صحبتهم.
تلامذة البيهقي
لا شك أن تكوين الرجال لا يقل أهمية عن تأليف التصانيف، وتسويد الصحف، وتلاميذ البيهقي امتداد لعلمه ومنهجه، وأثر بارز من آثاره العلمية، والإمام البيهقي بما تبوأ من المكانة الجليلة في الحديث، والفقه والأصول، والعقائد صار قبلة للطلاب، وهدفًا لرحلاتهم، واهتماماتهم، ليظفروا بالسماع منه، والتلقي عنه، فإن البيهقي رحمه الله كان محدث زمانه، وشيخ السنة في وقته، وأوحد زمانه في الحفظ والإتقان، وقد عَمَّرَ البيهقي طويلاً مما مكن عددًا كبيرًا من طلاب العلم وأهله للسماع منه، ومن أشهر تلامذته:
1- الإمام أبو عبد الله الفراوي النيسابوري الشافعي
سمع من الإمام البيهقي ولازمه، وروى عنه طائفة من كتبه مثل: "دلائل النبوة" و "الدعوات الكبير" و "البعث".
2- الإمام أبو المعالي محمد بن إسماعيل الفارسي ثم النيسابوري.
سمع من البيهقي، فتلقى عنه السنن الكبرى، وكان أبو المعالي شيخًا ثقة جليلاً ملي الظاهر والهيئة، وروى عنه ابن عساكر وأبو سعد السمعاني.
صفات البيهقي
كان الإمام البيهقي على سيرة العلماء الربانين، يتصف بالزهد والتقلل من الدنيا والقنوع باليسير، كثير العبادة والورع، قانتًا لله، كما كان يتصف بما وصف به أهل نيسابور عمومًا من أنهم كانوا أهل رئاسة وسياسة وحسن ملكة، ووضع الأشياء في مواضعها، وهي صفات جليلة، تتصل بنضج العقل وصفاء القريحة وقوة الفكر والتدبير.
مؤلفات البيهقي
كان من ثمار اجتهاد الإمام البيهقي، وقوة همته في طلب العلم منذ صغره، وطوافه على المشايخ بنفسه وهو في سن البلوغ، وما تهيأ له من لقاء الجهابذة من المحدثين والعلماء أن تمكن من جمع هذا العلم الوافر الغزير، والذي أبانت عنه مصنفاته أحسن إبانة، بما اتصف به من الوفرة والجودة.
قال عنه ابن كثير: "وجمع أشياءً كثيرةً نافعةً لم يسبق إليها، ولا يدرك فيها، منها: كتابه العظيم السنن الكبرى، والذي يُعَدُّ من أعظم مؤلفات البيهقي، وقد احتل مكانة مرموقة بين المصنفات في الحديث الشريف، فقد أقبل العديد من العلماء الكبار على سماع هذا الكتاب وإسماعه، والقيام بتقريبه لجماهير الأمة الإسلامية، وقد أثنى العلماء عليه، وقد جعله ابن صلاح سادس الكتب الستة في القيمة والأهمية بعد البخاري ومسلم وسنن أبي داود، وسنن النسائي وكتاب الترمذي.
قال الإمام السبكي في معرض إشادته بسنن البيهقي: "أما السنن الكبير فما صنف في علم الحديث مثله تهذيبًا وترتيبًا وجودة.
وقد اعتمد في منهجه في هذا الكتاب على كونه كتابًا مسندًا حيث لا يخرج في كتابه حديثًا أو أثرًا أو حكاية أو شعرًا إلا بالإسناد.
أما بالنسبة للمتون فقد قام منهجه فيها على كشف اختلافات ألفاظها وبيان غريبها، والتنبيه على عللها واضطرابها وما يستنبط منها من أحكام.
كما قام الإمام البيهقي رحمه الله بتقسيم كتابه السنن الكبرى إلى كتب كلية مثل: كتاب الطهارة، وكتاب الصلاة، ثم قسم الكتب إلى وحدات أصغر منه وهي الأبواب، والأبواب وحدة جامعة للعديد من الأبواب الفرعية فيقول مثلاً: (جماع أبواب الحديث) و(جماع أبواب ما يوجب الغسل) وهكذا.
كما جعل البيهقي كتابه مستوعبًا لأحاديث الأحكام من أخبار وآثار بجميع درجاتها مع التمييز بينها، فإنه يذكر الصحيح ليعمل به، ويذكر لضعيف ليحذر منه.
وقد يكرر البيهقي الحديث لفائدة فقهية تعرض له في الباب، أو لعلوّ في الإسناد، فإن منهجه قائم أساسًا على الاستدلال، فلا يخرج النص في الباب إلا لمقصد استدلالي يهدف من ورائه إلى هدف.
ودرج الإمام البيهقي على إيراد المناسب من الآيات القرآنية في الكثير من الأبواب مستنبطًا منها استنباطات جليلة.
أما باقي مؤلفات الإمام البيهقي فهي كثيرة، وعظيمة المنافع، منها:
- أحكام القرآن، وقد جمع البيهقي فيه أقوال الشافعي في بيان آيات الأحكام.
- أحاديث الشافعي.
- الألف مسألة
- بيان خطأ من أخطأ على الشافعي، وقد أفرده البيهقي في الرد على من زعم أن للشافعي أخطاء حديثية، فهو يتعلق بفن مُهم من فنون الحديث، وهو علم العلل.
- تخريج أحاديث الأم، "كتاب الأم للشافعي".
- معالم السنن.
- معرفة السنن والآثار.
- العقائد.
- إثبات عذاب القبر.
- القراءة خلف الإمام.
- فضائل الصحابة.
وغير ذلك من المؤلفات العديدة، والكثيرة
وهكذا نرى غزارة إنتاج البيهقي، ومكانته المرموقة في العلم، وصدق قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
مَا الْفَضْلُ إِلَّا لِأَهْلِ الْـعِلْمِ إِنَّهُمُ ... عَـلَى الْهُدَى لِمَنِ اسْــتَهْدَى أَدِلَّاءُ
وَوَزْنُ كُلِّ امْرِئٍ مَـا كَانَ يُحْسِنُهُ ... وَالْجَـاهِـلُـــــونَ لِأَهْلِ الْعِلْــــــــــــمِ أَعْـــدَاءُ
فَـفُـزْ بِـعِـلْــــــــــمٍ وَلَا تَجْهَــلْ بِهِ أَبَدًا ... النَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحْيَــــــــــــــاءُ
ثناء العلماء على الإمام البيهقي
لقد تبوأ الإمام البيهقي قبل وفاته بعشرين عامًا مكانة علمية مرموقة، فكان يعد إمام المحدثين، ورأس الحفاظ في ذلك الوقت، وقال عنه الإمام الجويني: ما من فقيه شافعي إلا وللشافعي ليه منة، إلا أبا بكر البيهقي، فإن المنة له على الشافعي لتصانيفه في نصرة مذهبه.
وقد وصفه الإمام عبد الغافر الفارسي في تاريخه، فقال: واحد زمانه في الحفظ، وفرد أقرانه في الإتقان والضبط.
وقال عنه الإمام الذهبي: ولو شاء البيهقي أن يعمل لنفسه مذهبًا يجتهد فيه لكان قادرًا على ذلك؛ لسعة علومه، ومعرفته بالاختلاف.
وقال الإمام السبكي: كان الإمام البيهقي رحمه الله عالمًا عاملاً، ذا سعة وإحاطة بالعلوم الشرعية فإنه أنفق شطر عمره في جمعها وتحصيلها، وأنفق الشطر الآخر منه في تنظيمها وتصنيفها، فأخرج للناس هذه المصنفات الجليلة، والتي بلغت الخمسين مصنفًا في فنون لم يسبق إليها.
وقال ابن الصلاح: ولا يخدعن، أي: طالب العلم، عن كتاب السنن الكبير للبيهقي فإنما لا نعلم مثله في بابه.
وقال السخاوي: كتاب السنن للحافظ البيهقي استوعب أكثر أحاديث الأحكام، لا نعلم -كما قال ابن الصلاح- في بابه مثله.
وفاة البيهقي
بعد حياة حافلة بالتطواف والطلب في جمع فنون العلم وتحصيله، والهمة في بثه وتعليمه، والاعتكاف على تدوينه وتصنيفه، أصاب البيهقي المرض في رحلته الأخيرة إلى نيسابور، وحضرته المنية، فتوفي رحمه الله في العاشر من جمادى الأولى سنة 458 ه، وله من العمر أربع وسبعون سنة، فغسلوه وكفنوه، وعملوا له تابوتًا ثم نقلوه إلى مدينه "بيهق" وهي على يومين من نيسابور.
رحم الله البيهقي رحمة واسعة، ورافق نبيه في أعالي الجنان[1].
[1] للمزيد انظر: الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك: الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرناءوط، وتركي مصطفى، إحياء التراث، بيروت، ١٤٢٠هـ=٢٠٠٠م، ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي: البداية والنهاية، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1418هـ=1997م، ياقوت الحموي، شهاب الدين أبو عبد الله بن عبد الله الرومي: معجم البلدان، دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية، 1995م، أبو الطيب نايف بن صلاح بن علي المنصوري: السَّلسَبِيلُ النَّقِي في تَرَاجِمِ شيُوخ البَيِهَقِيّ، تقديم: أحمَد معَبَد عَبْد الكَريِم، وأبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السُّليماني، دَارُ العَاصِمَة للنشر والتوزيع، السعودية، الطبعة الأولى، 1432هـ=2011م.
التعليقات
إرسال تعليقك