ملخص المقال
السلطان مراد الأول بن السلطان أورخان، اتخذ أدرنة عاصمة لدولته، وهزم التحالف البيزنطي البلغاري في معركة مارتيزا كما انتصر على التحالف الصليبي في قوصوه
السلطان مراد الأول بن السلطان أورخان، استولى العثمانيون في عهده على مدينة أدرنة (762هـ= 1360م)، وجعلها عاصمةً لدولته، وهزم التحالف البيزنطي البلغاري في معركتي مارتيزا عام (764هـ= 1363م)، كما انتصر على التحالف الصليبي في قوصوه (كوسوفا) عام (791 هـ= 1389م)، وفيها اسْتُشهد.
نشأته وتولِّي الحكم
وُلِدَ السلطان مراد الأول عام (726هـ= 1326م)، وهو العام الذي تولَّى فيه والده الحُكم؛ تولَّى الحُكم بعد وفاة أبيه أورخان بن عثمان عام (761هـ= 1360م)، وكان ابن 36 عامًا وقتها، واستمرَّ حكمه 30 سنة.
كان مراد الأول شجاعًا مجاهدًا، كريمًا متديِّنًا، وكان محبًّا للنظام متمسِّكًا به، عادلًا مع رعاياه وجنوده، مشغوفًا بالغزوات وبناء المساجد والمدارس والملاجئ، وكانت بجانبه مجموعة من خيرة القادة والخبراء والعسكريين؛ شَكَّل منهم مجلسًا لشورته، وتوسَّع في آسيا الصغرى وأوربا في وقت واحد.
فتوحات مراد الأول
في أوربا هاجم السلطان مراد الأول أملاك الدولة البيزنطية، ثم استولى على مدينة أدرنة في عام (762هـ= 1360م)، وكانت لتلك المدينة أهمية استراتيجية في البلقان، وكانت ثاني مدينة في الإمبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية، واتخذ مراد من هذه المدينة عاصمة للدولة العثمانية منذ عام (768هـ= 1366م).
وبذلك انتقلت العاصمة العثمانية من آسيا إلى أوربا، وأصبحت أدرنة عاصمة إسلامية، وكان هدف مراد من هذه النقلة عدَّة أمور؛ منها:
1- استغلال مناعة استحكامات أدرنة الحربية وقُرْبِها من مسرح العمليات الجهادية.
2- رغبة مراد في ضمِّ الأقاليم الأوربية التي وصلوا إليها في جهادهم وثَبَّتُوا أقدامهم فيها.
3- جمع مراد في هذه العاصمة كل مُقَوِّمات النهوض بالدولة وأصول الحُكْم؛ فتكوَّنت فيها فئاتُ الموظفين، وفِرَقُ الجيشِ، وطوائفُ رجال القانون وعلماء الدين، وأُقيمت دور المحاكم، وشُيِّدت المدارس المدنية والمعاهد العسكرية لتدريب الإنكشارية.
واستمرَّت أدرنة على هذا الوضع السياسي والعسكري والإداري والثقافي والديني؛ حتى فتح العثمانيون القسطنطينية في عام (857هـ= 1453م)، فأصبحت عاصمة لدولتهم.
تحالف صليبي ضد مراد الأول
معركة مارتيزا
مضى السلطان مراد في حركة الجهاد والدعوة وفتح الأقاليم في أوربا، وانطلق جيشه يفتح مقدونيا، وكانت لانتصاراته أصداء بعيدة، فتكوَّن تحالف أوربي بلقاني صليبي باركه البابا أوربا الخامس، وضمَّ الصربيين والبلغاريين والمجريين، وسكان إقليم والاشيا. وقد استطاعت الدول الأعضاء في التحالف الصليبي أن تحشد جيشًا بلغ عدده ستين ألف جندي، تصدَّى لهم القائد العثماني (لالا شاهين) بقوَّة تقل عددًا عن القوات المتحالفة، وقابلهم على مقربة من «تشيرمن» على نهر مارتيزا، حيث وقعت معركة مروعة وانهزم الجيش المتحالف، وهرب الأميران الصربيان، ولكنهما غرقا في نهر مارتيزا، ونجا ملك المجر بأعجوبة من الموت، أمَّا السلطان مراد فكان في هذه الأثناء مشتغلًا بالقتال في بلاد آسيا الصغرى؛ حيث فتح عدَّة مدن، ثم عاد إلى مقرِّ سلطنته لتنظيم ما فتحه من الأقاليم والبُلْدَان، كما هو شأن القائد الحكيم.
وكان من نتائج انتصار العثمانيين على نهر مارتيزا أمور مهمَّة؛ منها:
1- تمَّ لهم فتح إقليم تراقيا ومقدونيا، ووصلوا إلى جنوبي بلغاريا وإلى شرقي صربيا.
2- أصبحت مدن وأملاك الدولة البيزنطية وبلغاريا وصربيا تتساقط في أيديهم كأوراق الخريف.
أول معاهدة بين الدولة العثمانية والدول المسيحية
لما اشتدَّ ساعد الدولة العثمانية خاف مجاوروها، خصوصًا الضعفاء منهم، فبادرت جمهورية راجوزه -وهي جمهورية تطلُّ على البحر الأدرياتيكي- وأرسلت إلى السلطان مراد رسلًا ليعقدوا مع السلطان مراد معاهدة ودية وتجارية؛ تعاهدوا فيها بدفع جزية سنوية قدرها 500 دوكا ذهبًا، وهذه أول معاهدة عُقدت بين الدولة العثمانية والدول المسيحية.
معركة قوصوه (كوسوفا)
كان السلطان مراد قد توغَّل في بلاد البلقان بنفسه وعن طريق قوَّاده؛ مما أثار الصرب، فحاولوا في أكثر من مرَّة استغلال غياب السلطان عن أوربا في الهجوم على الجيوش العثمانية في البلقان وما جاورها؛ ولكنهم فشلوا في تحقيق انتصارات تُذكر على العثمانيين؛ فتحالف الصرب والبوسنيون والبلغار، وأعدُّوا جيشًا أوربيًّا صليبيًّا كثيفًا لحرب السلطان، الذي كان قد وصل بجيوشه بعد إعدادها إعدادًا قويًّا إلى منطقة كوسوفو في البلقان.
ومن الأحداث التي تُذكر أن وزير السلطان مراد كان يحمل معه مصحفًا فتحه عن غير قصد، فوقع نظره على هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65]. فاستبشر بالنصر، واستبشر معه المسلمون، ولم يلبث أن نَشِبَ القتال بين الجمعين، وحمي وطيسه، واشتدَّت المعركة، وانجلت الحرب عن انتصار المسلمين انتصارًا باهرًا حاسمًا.
استشهاد السلطان مراد
بعد الانتصار في قوصوه (كوسوفا) قام السلطان مراد يتفقَّد ساحة المعركة، ويدور بنفسه بين صفوف القتلى من المسلمين ويدعو لهم، كما كان يتفقَّد الجرحى، وفي أثناء ذلك قام جندي من الصرب كان قد تظاهر بالموت وأسرع نحو السلطان، فتمكَّن الحراس من القبض عليه، ولكنه تظاهر بأنه جاء يُريد محادثة السلطان، ويُريد أن يُعلن إسلامه على يديه، وعند ذلك أشار السلطان للحرس بأن يُطلقوه، فتظاهر بأنه يُريد تقبيل يد السلطان، وقام في حركة سريعة بإخراج خنجر مسموم طعن به السلطان، فاستُشهد السلطان مراد –رحمه الله- في (15 من شعبان 791هـ=30 من يوليو 1389م)، فقتل الانكشاريةُ الجنديَّ الصربيَّ مباشرةً.
الكلمات الأخيرة للسلطان مراد
اسْتُشهد هذا السلطان العظيم بعد أن بلغ من العمر 65 عامًا، وكانت آخر كلماته: «لا يسعُنِي حين رحيلي إلَّا أن أشكر الله؛ إنه علام الغيوب المتقبِّل دعاء الفقير، أشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وليس يستحقُّ الشكر والثناء إلَّا هو، لقد أوشكتْ حياتي على النهاية، ورأيتُ نصر جند الإسلام. أطيعوا ابني يزيد، ولا تُعَذِّبُوا الأسرى، ولا تُؤذونهم، ولا تسلبوهم، وأودعكم منذ هذه اللحظة وأودع جيشنا الظافر العظيم إلى رحمة الله، فهو الذي يحفظ دولتنا من كل سوء».
لقد قاد السلطان مراد الشعب العثماني ثلاثين سنة بكلِّ حكمة ومهارة لا يضاهيه فيها أحد من ساسة عصره؛ قال المؤرِّخ البيزنطي هالكو نديلاس عن مراد الأول: «قام مراد بأعمال مهمة كثيرة، دخل 37 معركة سواء في الأناضول أو في البلقان، وخرج منها جميعًا ظافرًا، وكان يُعامل رعيته معاملة شفيقة دون النظر إلى فوارق العرق والدين».
ويقول عنه المؤرِّخ الفرنسي كرينارد: «كان مراد واحدًا من أكبر رجالات آل عثمان، وإذا قوَّمناه تقويمًا شخصيًّا، نجده في مستوى أعلى من كلِّ حُكَّام أوربا في عهده».
لقد ورث مراد الأول عن والده إمارة كبيرة بلغت 95.000 كيلو متر مربع، وعند استشهاده تَسَلَّم ابنه بايزيد هذه الإمارة العثمانية بعد أن بلغت 500.000 كيلو متر مربع؛ بمعنى أنها زادت في مدى حوالي 29 سنة أكثر من خمسة أمثال ما تركها له والده أورخان.
دعاء السلطان مراد قبل اندلاع معركة قوصوه
كان السلطان مراد يعلم أنه يُقاتل في سبيل الله، وأنَّ النصر من عنده؛ ولذلك كان كثير الدعاء والإلحاح على الله، والتضرُّع إليه، والتوكُّل عليه، ومن دعائه الخاشع نستدلُّ على معرفة السلطان مراد لربِّه، وتحقيقه لمعاني العبودية؛ يقول السلطان مراد في مناجاته لربه: «يا الله؛ يا رحيم، يا رب السموات، يا مَنْ تتقبَّلُ الدعاء لا تُخْزِني، يا رحمن، يا رحيم، استجب دعاء عبدك الفقير هذه المرَّة، أَرْسِلِ السماء علينا مدرارًا، وبدِّد سحب الظلام فنرى عدوَّنا، وما نحن سوى عبيدك المذنبين، إنك الوهاب ونحن فقراؤك. ما أنا سوى عبدك الفقير المتضرِّع، وأنت العليم يا علام الغيوب والأسرار وما تُخفي الصدور، ليس لي من غاية لنفسي ولا مصلحة ولا يحملني طلب المغنم، فأنا لا أطمع إلَّا في رضاك يا الله يا عليم يا موجود في كل الوجود، أفديك روحي فتقبَّل رجائي، ولا تجعل المسلمين يَبُؤُ بهم الخذلان أمام العدوِّ، يا الله يا أرحم الراحمين لا تجعلني سببًا في موتهم؛ بل اجعلهم المنتصرين، إن روحي أبذلها فداءً لك يا رب إني وددت وما زلت دومًا أبغي الاستشهاد من أجل جند الإسلام، فلا تُرِنِي يا إلهي محنتهم، واسمح لي يا إلهي هذه المرَّة أن أستشهد في سبيلك ومن أجل مرضاتك».
وفي رواية: «يا إلهي؛ إنني أُقسم بعزَّتك وجلالك أنني لا أبتغي من جهادي هذه الدنيا الفانية، ولكنني أبتغي رضاك، ولا شيء غير رضاك يا إلهي، إنني أُقسم بعزَّتك وجلالك أنني أُجاهد في سبيلك، فزدني تشريفًا بالموت في سبيلك».
وفي رواية: «يا إلهي ومولاي؛ تقبَّل دعائي وتضرُّعي، وأنزل علينا برحمتك غيثًا يُطفئ من حولنا غبار العواصف، واغمرنا بضياءٍ يُبَدِّد من حولنا الظلمات؛ حتى نتمكَّن من إبصار مواقع عدونا؛ فنقاتله في سبيل إعزاز دينك العزيز.
إلهي ومولاي؛ إن المُلك والقوَّة لك، تمنحها لمَنْ تشاء من عبادك، وأنا عبدك العاجز الفقير، تعلم سرِّي وجهري، أُقسم بعزَّتِك وجلالك إنني لا أبتغي من جهادي حطام هذه الدنيا الفانية، ولكني أبتغي رضاك ولا شيء غير رضاك.
إلهي ومولاي؛ أسألك بجاه وجهك الكريم، أن تجعلني فداءً للمسلمين جميعًا، ولا تجعلني سببًا في هلاك أحد من المسلمين في سبيل غير سبيلك القويم.
إلهي ومولاي؛ إن كان في استشهادي نجاة لجند المسلمين فلا تحرمني الشهادة في سبيلك؛ لأنعم بجوارك ونعم الجوار جوارك.
إلهي ومولاي؛ لقد شرَّفتني بأن هديتني إلى طريق الجهاد في سبيلك، فزدني شرفًا بالموت في سبيلك».
إنَّ هذا الدعاء الخاشع دليل على معرفة السلطان مراد بالله –عز وجل، وعلى أنه حقَّق شروطَ كلمةِ التوحيد (لا إله إلا الله)، ولقد اجتمعت شروطها في سلوكه وحياته.
لقد فهم السلطان مراد حقيقة الإيمان وكلمة التوحيد، وذاق آثارها في حياته، فنشأت في نفسه أنفة وعزَّة مستمدَّة من الإيمان بالله، فأيقن أنه لا نافع إلَّا الله –عز وجل؛ فهو المحيي والمميت، وهو صاحب الحُكْم والسلطة والسيادة؛ ومن ثَمَّ نزع من قلبه كلَّ خوفٍ إلَّا منه سبحانه، فلم يُطأطئ رأسه أمام أحد من الخلق، ولا يتضرَّع إليه، ولا يرتع من كبريائه وعظمته؛ لأنه على يقين بأن الله هو القادر العظيم، ولقد أكسبه الإيمان بالله قوَّة عظيمة من العزم والإقدام، والصبر والثبات، والتوكُّل والتطلُّع إلى معالي الأمور؛ ابتغاء مرضاته –سبحانه وتعالى، فكان في المعارك التي خاضها ثابتًا كالجبال الراسية، وكان على يقين راسخ بأن المالك الوحيد لنفسه وماله هو الله -سبحانه؛ ولذلك لم يُبَالِ بأن يُضَحِّيَ في سبيل مرضاة ربِّه بكلِّ غالٍ ورخيصٍ.
إن السلطان مرادًا عاش حقيقة الإيمان؛ ولذلك اندفع إلى ساحات الجهاد، وبذل ما يملكه من أجل دعوة الإسلام.
التعليقات
إرسال تعليقك