ملخص المقال
السلطان مراد الثاني السلطان الزاهد، الذي أعاد للدولة العثمانية وحدتها، وانتصر على الصليبيين في معركة فارنا، وهو السلطان الوحيد الذي تنازل عن الحكم
هو السلطان مراد الثاني السلطان الزاهد، الذي قضى على التمرُّد الداخلي، وانتصر على التحالف الصليبي في معركة فارنا، وهو السلطان الوحيد الذي تنازل عن الحكم لابنه مرَّتين ليتفرَّغ لعبادة الله –عز وجل.
نشأة السلطان مراد الثاني
وُلِدَ السلطان مراد الثاني عام (806هـ= 1404م)، ونشأ في بيت الدولة العثمانية، التي غرست في أبنائها حبَّ العلم والجهاد في سبيل الله، فنشأ السلطان مراد الثاني نشأة إسلامية صحيحة؛ وهذا ما أهَّلهُ لتولي السلطنة وعمره ثمانية عشر عامًا، كان معروفًا لدى جميع رعيته بالتقوى، والعدالة والشفقة، وكان محبًّا للجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الإسلام في ربوع أوربا.
تولي السلطانة والقضاء على التمردات الداخلية
تولَّى السلطان مراد الثاني أمر الدولة بعد وفاة أبيه محمد جلبي عام (824هـ= 1421م)، واستطاع السلطان مراد أن يقضي على حركات التمرُّد الداخلية التي قام بها عمُّه مصطفى، والتي كانت تُدعم من قِبَلِ أعداء الدولة العثمانية، وكان الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني خلف الدسائس والمؤامرات والمتاعب التي تعرَّض لها السلطان مراد، فهو الذي دعم عمَّ السلطان مراد بالمساعدات؛ حتى استطاع مصطفى أن يُحاصر مدينة غاليبولي ابتغاء انتزاعها من السلطان واتخاذها قاعدة له، إلَّا أن السلطان مراد الثاني قبض على عمِّه وقدَّمه إلى المشنقة.
ومع ذلك فقد مضى الإمبراطور مانويل الثاني يكيد للسلطان، واحتضن شقيقًا لمراد الثاني، ووضعه على رأس قوَّة استولت على مدينة نيقية في الأناضول، وسار إليه مراد واستطاع أن يقضي على قوَّاته، واضطر خصمه للاستسلام ثم قُتل؛ ومن ثَمَّ صمَّم السلطان مراد أن يُلَقِّنَ الإمبراطور درسًا عمليًّا، فأسرع باحتلال سلولنيك، فهاجمها ودخلها عَنْوة في 834هـ= مارس 1431م، وأصبحت جزءًا لا يتجزَّأ من الدولة العثمانية.
وكان السلطان مراد الثاني يُوَجِّه الضربات الموجعة لحركات التمرُّد في بلاد البلقان، وحرص على تدعيم الحكم العثماني في تلك الديار، واتَّجه الجيش العثماني نحو الشمال لإخضاع إقليم ولاشيا، وفَرَضَ عليه جزية سنوية، واضطر ملك الصرب الجديد ستيف لازار ميتش إلى الخضوع للعثمانيين، والدخول تحت حكمهم، وجدَّد ولاءه للسلطان، واتَّجه جيش عثماني نحو الجنوب؛ حيث قام بتوطيد دعائم الحكم العثماني في بلاد اليونان، ولم يلبث السلطان أن واصل جهاده الدعوي وقام بالقضاء على العوائق في كلٍّ من ألبانيا والمجر.
فتوحات مراد الثاني
استطاع العثمانيون في عهد مراد الثاني أن يفتحوا ألبانيا عام (834هـ= 1431م)، وركَّزوا هجومهم على الجزء الجنوبي من البلاد، أمَّا شمالي ألبانيا فقد خاض العثمانيون فيه جهادًا مريرًا، وتمكَّن الألبانيون الشماليون من القضاء على جيشين عثمانيين في جبال ألبانيا، كما ألحقوا الهزيمة بحملتين عثمانيتين متعاقبتين كان يقودهما السلطان مراد بنفسه، وتكبَّد العثمانيون خسائر فادحة أثناء عملية الانسحاب، ووقفت الدول النصرانية خلف الألبان لدعمهم ضدَّ العثمانيين؛ وخصوصًا من حكومة البندقية، التي كانت تُدرك خطورة الفتح العثماني لهذا الإقليم المهمِّ بشاطِئَيْه وموانيه البحرية، التي تربط البندقية بحوض البحر المتوسط والعالم الخارجي، وأن العثمانيين في استطاعتهم حجز سفن البنادقة داخل بحر مغلق هو بحر الأدرياتيك، وهكذا لم يشهد السلطان مراد الثاني استقرارًا للحكم العثماني في ألبانيا.
الدولة العثمانية في عهد مراد الثاني
وأمَّا ما يتعلَّقُ بجبهة المجر فقد استطاع مراد الثاني في عام (842هـ= 1438م) أن يهزم المجريين، ويأسر منهم سبعين ألف جندي، وأن يستولي على بعض المواقع، ثم تقدَّم لفتح بلجراد عاصمة الصرب؛ ولكنَّه أخفق في محاولته وسرعان ما تَكَوَّنَ حلفٌ صليبيٌّ كبير باركه البابا، استهدف هذا الحلف طرد العثمانيين من أوربا كلية، وشمل الحلف البابوية والمجر، وبولندا، والصرب، وبلاد الأفلاق (رومانيا)، وجنوة والبندقية، والإمبراطورية البيزنطية، ودوقية برجنديا، وانضمَّت إلى الحلف -أيضًا- كتائب من الألمان والتشيك، وأُعطيت قيادة قوات الحلف الصليبي إلى قائد مجري قدير هو يوحنا هونياد؛ وقد قاد هونياد القوات الصليبية البرية، وزحف جنوبًا، واجتاز الدانوب وأوقع بالعثمانيين هزيمتين فادحتين عام (846هـ= 1442م)، واضطر العثمانيون إلى طلب الصلح، وأُبرمت معاهدة صلح لمدَّة عشر سنوات في سيزجادن؛ وذلك في شهر يوليو عام (848هـ= 1444م) تنازل فيها عن الصرب، واعترف بجورج برانكوفيتش أميرًا عليها، كما تنازل السلطان مراد عن الأفلاق (رومانيا) للمجر، وافتدى زوج ابنته محمود شلبي -الذي كان قائدًا عامًّا للجيوش العثمانية- بمبلغ 60 ألف دوقية، وقد حُرِّرت هذه المعاهدة باللغتين العثمانية والمجرية، وأقسم لاديسلاس ملك المجر على الإنجيل كما أقسم السلطان مراد بالقرآن على أن تُراعى شروط المعاهدة بذمَّة وشرف.
التنازل عن السلطنة
تنازل مراد الثاني عن الحكم
حين فرغ مراد من عقد الهدنة مع أعدائه الأوربيين عاد إلى الأناضول، وفُجِعَ بموت ابنه الأمير علاء، واشتدَّ حزنه عليه، وزهد في الدنيا والمُلْكِ، وتنازل عن السلطنة لابنه محمد الثاني، وكان إذ ذاك في الرابعة عشر من عمره؛ ولصغر سنِّه أحاطه والده ببعض أهل الرأي والنظر من رجال دولته، ثم ذهب إلى مغنيسيا في آسيا الصغرى؛ ليقضِيَ بقيَّة حياته في عُزلة وطمأنينة، ويتفرَّغ في هذه الخلوة إلى عبادة الله –سبحانه وتعالى، والتأمُّل في ملكوته؛ وذلك بعد أن اطمأنَّ إلى استتباب الأمن والسلام في أرجاء دولته.
الصليبيون ينقضون العهد
ولم يستمتع السلطان طويلًا بهذه الخلوة والعبادة؛ حيث قام الكاردينال سيزاريني وبعض أعوانه بالدعوة إلى نقض العهود مع العثمانيين وطردهم عن أوربا؛ خاصةً وأن العرش العثماني قد تركه السلطان مراد لابنه الفتى، الذي لا خبرة له ولا خطر منه، وقد اقتنع البابا أوجين الرابع بهذه الفكرة الشيطانية، وطلب من النصارى نقض العهد ومهاجمة المسلمين، وبَيَّنَ للنصارى أن المعاهدة التي عُقدت مع المسلمين باطلة؛ لأنها عُقدت بدون إذن البابا وكيل المسيح في الأرض، وكان الكاردينال سيزاريني عظيمَ النشاط، دائمَ الحركة، لا يكلُّ عن العمل، يجِدُّ ويسعى للقضاء على العثمانيين؛ ولذلك كان يزور ملوك النصارى وزعمائهم، ويُحَرِّضهم على نقض المعاهدة مع المسلمين، ويُقنع كلَّ مَنْ يعترض عليه لنكث المعاهدة، ويقول له: «إنه باسم البابا يُبرئ ذمَّتهم من نكثها، ويُبارك جنودهم وأسلحتهم، وعليهم أن يَتَّبِعُوا طريقه؛ فإنه طريق المجد والخلاص، ومَنْ نازعه ضميرُه بعد ذلك وخشي الإثم فإنه يحمل عنه وزره وإثمه».
حصار الصليبيين لمدينة فارنا
لقد نقض الصليبيون عهودهم، وحشدوا الجيوش لمحاربة المسلمين، وحاصروا مدينة فارنا البلغارية الواقعة على ساحل البحر الأسود، والتي كانت قد تحرَّرَتْ على أيدي المسلمين. ونَقْضُ العهود هو سِمَة ظاهرة لأعداء هذا الدين؛ ولذلك أوجب الله على المسلمين قتالهم يقول سبحانه: {وَإِنْ نَكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة: 12]، لا عهود ولا مواثيق يرعَوْنَها، كما هو طابعهم دائمًا، إنهم لا يتورَّعُون عن مهاجمة أيِّ أُمَّة، أيّ إنسان يلمحون فيه ضعفًا، يقتلون ويذبحون.
مراد الثاني والعودة للجهاد
عندما تحرَّك النصارى وزحفوا نحو الدولة العثمانية، وسمع المسلمون في أدرنة بحركة الصليبيين وزحفهم انتابهم الفزع والرعب، وبعث رجال الدولة إلى السلطان مراد يستعجلون قدومه لمواجهة هذا الخطر، وخرج السلطان المجاهد من خلوته ليقود جيوش العثمانيين ضدَّ الخطر الصليبي، واستطاع مراد أن يَتَّفق مع الأسطول الجنوي لينقل أربعين ألفًا من الجيش العثماني من آسيا إلى أوربا تحت سمع الأسطول الصليبي وبصره في مقابل دينار لكلِّ جندي.
وأسرع السلطان مراد في السير فوصل إلى فارنا في اليوم نفسه الذي وصل فيه الصليبيون، وفي اليوم التالي نَشِبَت المعركة بين الجيشين النصراني والإسلامي، وكانت عنيفة حامية، وقد وضع السلطان مراد الثاني المعاهدة التي نقضها أعداؤه على رأس رمح؛ ليُشهدهم ويُشهد السماء والأرض على الغدر والعدوان، وليزيد حماس جنده.
واقتتل الفريقان، ودارت بينهما معركةٌ رهيبةٌ كاد يكون فيها النصر للنصارى نتيجة حميَّتِهم الدينية وحماسهم الزائد، إلَّا أنَّ تلك الحمية والحماس الزائد اصطدم بالروح الجهادية لدى العثمانيين، والتقى الملك لاديسلاس -ناقض العهود- مع السلطان مراد الوفي بالعهود وجهًا لوجه واقتتلا، ودارت بينهما معركة رهيبة في (28 من رجب 848هـ= 10 من نوفمبر 1444م)، تمكن السلطان المسلم مراد الثاني من قتل الملك المجري النصراني، فقد عاجله بضربة قوية من رمحه، أسقطته من على ظهر جواده، فأسرع بعض المجاهدين وجَزُّوا رأسه ورفعوه على رمح مُهَلِّلِينَ مُكَبِّرِينَ فرحين، وصاح أحد المجاهدين في العدوِّ: «أيها الكفار هذا رأس ملككم». وكان لذلك المنظر أثر شديد على جموع النصارى، فاستحوذ عليهم الفزع والهلع، فحمل عليهم المسلمون حملة قوية، بَدَّدَتْ شملهم، وهزموهم شرَّ هزيمة، وولَّى النصارى مدبرين، يدفع بعضهم بعضًا، ولم يُطارد السلطان مراد عدوَّه، واكتفى بهذا القدر من النصر، وإنه لنصر عظيم.
وقد أخرجت هذه المعركة بلاد المجر لعشر سنوات على الأقل من عداد الدول التي تستطيع النهوض بعمليات حربية هجومية ضدَّ العثمانيين.
العودة إلى العزلة والتعبد
لم يُفارق السلطان مراد زهده في الدنيا والمُلك، فنزل على العرش مرَّة أخرى لابنه محمد، وعاد إلى عزلته في مغنيسيا، كما يعود الأسد المنتصر إلى عرينه.
ولقد ذكر لنا التاريخ مجموعة من الملوك والحكام الذين نزلوا عن عروشهم وانقطعوا عن الناس وأُبَّهة الملك إلى العزلة، وأن بعض هؤلاء الملوك قد عادوا إلى العرش، ولكن لم يذكر لنا أحدًا منهم نزل عن العرش مرَّتين غير السلطان مراد، فإنه لم يَكَدْ يذهب إلى معتزله بآسيا الصغرى حتى ثار الانكشارية في أدرنة وشغبوا، وهاجوا وماجوا، وتمرَّدُوا، وطغوا، وأفسدوا، وكان السلطان محمد الثاني فتى يافعًا حديث السنِّ، وخشي بعض رجال الدولة أن يستفحل الأمر، ويعظم الخطر، ويتفاقم الشرُّ، وتسوء العاقبة، فبعثوا إلى السلطان مراد يستقدمونه ليتولَّى الأمر بنفسه، وجاء السلطان مراد وقبض على زمام الأمر، وخضع له الانكشارية، وأرسل ابنه محمدًا إلى مغنيسيا حاكمًا عليها بالأناضول، وبقي السلطان مراد الثاني على العرش العثماني إلى آخر يوم في حياته، وقد قضاها في الغزو والفتح.
مراد الثاني وحبه للشعراء والعلماء وفعل الخير
يقول محمد حرب: «مراد الثاني وإن كان مُقِلًّا وكان ما لدينا من شعره قليلًا، لصاحبُ فضلٍ على الأدب والشعر لا يُجْحَدُ؛ لأن نعمته حلَّتْ على الشعراء، الذين كان يدعوهم إلى مجلسه يومين في كل أسبوع ليقولوا ما عندهم، ويأخذون بأطراف الأحاديث والأسمار بينهم وبين السلطان، فيستحسن أو يستهجن، ويختار أو يطرح، وكثيرًا ما كان يسدُّ عوز المعوزين منهم بنائلة الغمر، أو بإيجاد حرفة لهم تدرُّ الرزق عليهم؛ حتى يفرغوا من هموم العيش، ويتوفروا على قول الشعر، وقد أنجب عصره كثيرًا من الشعراء».
لقد حوَّل مراد الثاني القصر الحاكم إلى نوع من الأكاديمية العلمية، ووصل به الأمر أن كان الشعراء يُرافقونه في جهاده، ومن أشعاره: «تعالوا نذكر الله لأننا لسنا بدائمين في الدنيا».
لقد كان سلطانًا عالمًا عاقلًا عادلًا شجاعًا، وكان يُرسل لأهالي الحرمين الشريفين وبيت المقدس من خاصة ماله في كل عام ثلاثة آلاف وخمسمائة دينار، وكان يعتني بشأن العلم والعلماء والمشايخ والصالحين، مَهَّد الممالك، وأمَّن السبل، وأقام الشرع والدين، وأذلَّ الكفَّار والملحدين، وقال عنه يوسف آصاف: «كان تقيًّا صالحًا، وبطلًا صنديدًا، محبًّا للخير، ميَّالًا للرأفة والإحسان».
لقد قام السلطان مراد ببناء جوامع ومدارس، وقصور وقناطر؛ فمنها جامع أدرنة ذو ثلاثة شرف، وبنى بجانب هذا الجامع مدرسة وتكية يُطعم فيها الفقراء والمساكين.
وفاته ووصيته
تُوُفِّيَ السلطان مراد الثاني في قصر أدرنة في (16 من المحرم 855هـ= 18 من فبراير 1451م) عن عمر يُناهز 47 عامًا، وبِنَاءً على وصيته –رحمه الله- دُفِنَ في جانب جامع مرادية في بورصة، ووصى بأن لا يُبْنَى على قبره شيء، وأن يُبنى أماكن في جوانب القبر يجلس فيها الحفَّاظ لقراءة القرآن الكريم، وأن يدُفن في يوم الجمعة فنُفِّذَتْ وصيَّته.
التعليقات
إرسال تعليقك