ملخص المقال
البخاري .. أمير رجال الحديث، مقال يعرض دور العلم في حياة الإمام البخاري منذ نشأته وجهوده في علم الحديث وأهم مؤلفاته ومحنة البخاري ووفاته
لأنه الدين الخاتم، ولأنه الدين الذي ارتضاه رب العالمين لعباده على الأرض، فقد تكفّل سبحانه بحفظه وإلى قيام الساعة، ومن ثم سخّر من خلقه من يذبّ عنه قرآنًا وسنةً.
وبالنسبة إلى السنة ممثلة في الحديث النبوي الشريف، فكونها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، والمنهل البياني له في تفصيل الأحكام المجملة التي وردت فيه، وتقييد المطلق وتخصيص العام، وتأسيس الأحكام التي لم ينص عليها القرآن.. فقد انبرى لتدوينها وتمييز صحيحها من ضعيفها علماء أجلاء، علموا قيمة العلم، فبذلوا فيه جهدهم، ونذروا له نفوسهم ونفيسَهم..
اشترك في ذلك العرب وغير العرب، ولم تمنعهم أصولهم من أن يقوموا بدورهم على أكمل وجه، حتى في ذلك المجال الصعب..
وفي هذا السياق كان لنا أن نتوقف مع أمير أهل الحديث، الإمام الجليل والمحدث العظيم، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري.. أمير أهل الحديث، وصاحب أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، والذي احتل مكانته في القلوب؛ حتى كان يقرأ في المساجد كما تُتلى المصاحف.. قال هو عنه: "ما وضعت في كتاب الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين"، وقال أيضًا: "صنفت الصحيح في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى" [1].
إنَّ تاريخ الإسلام لم يشهد مثله في قوة الحفظ، ودقة الرواية، والصبر على البحث، مع قلة الإمكانات، حتى أصبح منارة في الحديث، وفاق أقرانه وشيوخه على السواء، بل فاق كل العرب مع كونه ليس عربيًّا..!!
البخاري.. تربيةُ أمٍّ صالحة
كانت البداية في بخارى (إحدى مدن أوزبكستان الآن)، وتحديدًا في ليلة الجمعة 13من شوال، سنة 194هـ، حيث ولادته [2]..
وقد عرفت أسرته الإسلام عن طريق جده "المغيرة بن بردذبة"، فكان أول من أسلم من أجداده، وكان إسلامه على يد وإلى بخارى "اليمان الجعفي"؛ ولذلك نُسِب إلى قبيلته، وانتمى إليها بالولاء، وأصبح "الجعفي" نسبًا له ولأسرته من بعده.
وكان قدر الله أن يموت والد البخاري وهو مازال طفلاً صغيرًا، لينشأ يتيمًا في حجر أمه، التي قامت على تربيته أحسن تربية.. لتُري أمهات المسلمين -والأرامل منهن خاصة- كيف تكون تربية الأبناء.. وما هو دور الأم في جهادها لرفعة الأمة والنهوض بها..؟!
لم تكن بداية البخاري الطفل ككل الأبناء؛ إذ ابتلاه الله هز وجل في صباه بفقدان بصره!! ولكنَّ أمه الصالحة لم تنقطع صلتُها بربها، وكانت تتودد إليه ليل نهار، وهي تدعوه سبحانه راجية أن يرد على صبيها بصره.. ويشاء الله أن يسمع دعاءها، فيأتيها إبراهيم عليه السلام يبشرها في المنام يقول لها: "يا هذه، قد ردَّ الله على ابنك بصره لكثرة دعائك"!!
فأصبح البخاري وقد ردّ الله عليه بصره، بحسن صلة أمه بربها، وبركة دعائها له [3]..!!
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أنعم الله عز وجل عليه وهو مازال في طفولته بالنجابة والذكاء، ووهبه سبحانه ذاكرةً قويَّة، قلَّما وهبها غيرَه، حتى كان آية في الحفظ..
وقد زادت أمه من العناية به، وتعهدته بالرعاية والتعليم والصلاح، فكانت تدفعه إلى العلم وتحببه فيه، وتزين له أبواب الخير.. فنشأ البخاريُّ مستقيمَ النفس، متين الخلق، محبًا للعلم، مقبلاً على الطاعة.. حتى ما كاد يتم العاشرة إلا وكان قد حفظ القرآن الكريم، وبدأ يتردد على الشيوخ والمحدثين..
يقول محمد بن أبي حاتم: قلت لأبي عبد الله (البخاري): كيف كان بدء أمرك؟ قال: أُلهِمتُ حفظ الحديث وأنا في المكتب (الكُتَّاب). فقلت: كم كان سنك؟ فقال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من المكتب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره، فقال يومًا فيما كان يقرأ للناس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم. فقلت له: إن أبا الزبير لم يروِ عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل، فدخل فنظر فيه ثم خرج فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم مني وأحكم (أصلح) كتابه، وقال: صدقت. فقيل للبخاري: ابن كم كنت حين رددت عليه؟ قال: ابن إحدى عشرة سنة!![4].
وما كاد البخاري يبلغ السادسة عشرة من عمره حتى حفظ كتب ابن المبارك ووكيع، وغيرها من كتب الأئمة المحدثين، حتى بلغ محفوظه آلاف الأحاديث وهو لا يزال غلامًا.. وكانت بخارى آنذاك مركزًا من مراكز العلم، تمتلئ بحلقات المحدِّثين والفقهاء [5].
رحلة العلم.. وما زال دور الأم
في مرحلة جديدة.. وفي دور جديد لأمه في إحكام تربيته ونشأته.. أخذته وهو في سن السادسة عشرة هو وأخًا له يدعى أحمد إلى مكة للحج..
كانت فرصة عظيمة عند البخاري الصغير ليحج، ثم تتفتح له آفاقٌ أوسع من أبواب العلم ينهل منها.. وقد تمَّ له ذلك؛ فلما أَدَّوا جميعًا مناسك الحج، تخلَّف هو لطلب الحديث والأخذ عن الشيوخ، ورجعت أمه وأخوه إلى بخارى [6]..
وعلى ما يبدو؛ فإن أمه هي التي كانت صاحبة هذه الفكرة، في أن يحج، ثم يظل يأخذ العلم بلسان العرب ومن منبعه ورافده الأول.. فهي بصدد إعداده لا ليرجع فيعلم قومه وأهل بلده فقط، وإنما ليعود فيُعلِّم الدنيا..
وفي الحرمين الشريفين، كانت بداية رحلة البخاري في طلب العلم، وقد ظل بهما ستة أعوام، ينهل من الشيوخ والعلماء، انطلق بعدها متنقلاً بين حواضر العالم الإسلامي.. يجالس العلماء ويحاور المحدِّثين، ويجمع الحديث، ويعقد مجالس للتحديث، ويتكبد مشاق السفر والانتقال.. لم يترك حاضرة من حواضر العلم إلا نزل بها وروى عن شيوخها، وربما حلَّ بالبلد الواحد مرات عديدة، يغادره ثم يعود إليه مرة أخرى..
وكان من الحواضر الإسلامية التي نهل منها وأخذ من شيوخها غير مكة والمدينة، بغداد وواسط، والبصرة، والكوفة، ودمشق، وقيسارية، وعسقلان، وخراسان، وبلخ، ونيسابور، ومرو، وهراة، ومصر، وغيرها..
وفي مثال يدل على عجب أقرانه منه وهو خارج موطنه، يقول محمد بن أبي حاتم الوراق: سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان: كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام فلا يكتب، حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يومًا بعد ستة عشر يومًا: إنكما قد أكثرتما عليّ وألححتما، فاعرضا عليّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدرًا وأضيع أيامي؟! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد [7].
وعن رحلاته في طلب العلم يقول البخاري: "دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة مرتين، وإلى البصرة أربع مرات، وأقمت بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد" [8].
شيوخ الإمام البخاري
فلم يكن غريبًا إذن أن يزيد عدد شيوخ البخاري عن ألف شيخ من الثقات الأعلام!! وتراه هو يعبر عن ذلك فيقول: "كتبت عن ألف شيخٍ وأكثر، ما عندي حديث إلا أذكر إسناده"!! [9].
ويحدد عدد شيوخه فيقول: "كتبت عن ألف وثمانين نفسًا، ليس فيهم إلا صاحب حديث، كانوا يقولون الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" [10].
وكان من شيوخ الإمام البخاري المعروفين والذين روى عنهم: أحمد بن حنبل، ويذكره البخاري ممتنًا فيقول: "قال لي في آخر ما ودَّعته: يا أبا عبد الله، تدع العلم والناس وتصير إلى خراسان؟ قال: فأنا الآن أذكر قوله. وكان من شيوخه أيضًا يحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، وقتيبة بن سعيد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو حاتم الرازي، وغيرهم [11]..
البخاري.. منهج خاص
كان للبخاري منهج خاص في حياته كلها، وبالأخص في العلم وتدوين الحديث.. فقد ظل ستة عشر عامًا يجمع الأحاديث الصحاح في دقة متناهية، وعمل دؤوب، وصبر على البحث، وتحرٍ للصواب، قلما توافر لباحث قبله أو بعده، وكان بعد كل هذا لا يدون الحديث إلا بعد أن يغتسل ويصلي ركعتين!!
وقد بات عنده أحد تلامذته ذات ليلة، فأحصى عليه أنه قام وأسرج يستذكر أشياء يعلقها في ليلة ثمان عشرة مرة!!
وقال محمد بن أبي حاتم الوراق: كان أبو عبد الله إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ أحيانًا، فكنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري (يشعل) نارًا ويسرج، ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها [12].
وروي عن البخاري أنه قال: لم تكن كتابتي للحديث كما كَتبَ هؤلاء؛ كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبته، وحمله الحديث إن كان الرجل فهمًا، فإن لم يكن سألته أن يخرج إلى أصله ونسخته..
وكان العباس الدوري يقول: ما رأيت أحدًا يحسن طلب الحديث مثل محمد بن إسماعيل، كان لا يدع أصلاً ولا فرعًا إلا قلعه، ثم قال لنا: لا تدعوا من كلامه شيئًا إلا كتبتموه!
وكان من كلام البخاري رحمه الله: "ما جلست للحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم، وحتى نظرت في عامة كتب الرأي، وحتى دخلت البصرة خمس مرات أو نحوها، فما تركت بها حديثًا صحيحًا إلا كتبته، إلا ما لم يظهر لي" [13].
وقال بكر بن منير: سمعت أبا عبد الله البخاري يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا، قلت: صدق، ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه فيمن يضعفه؛ فإنه أكثر ما يقول: منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر ونحو هذا، وقل أن يقول: فلان كذاب أو كان يضع الحديث، حتى إنه قال: إذا قلت: فلان في حديثه نظر، فهو متهم واه، وهذا معنى قوله: "لا يحاسبني الله أني اغتبت أحدًا"، وهذا هو -والله- غاية الورع [14].
البخاري.. مؤلفات في محراب العلم
بعد أن تهيأت له الأسباب، من موهبة الذكاء، وقوة الحافظة، والصبر على العلم، والمثابرة في تحصيله، والمعرفة الواسعة بالحديث النبوي وأحوال رجاله، من عدل وتجريح، وخبرة تامة بالأسانيد؛ صحيحها وفاسدها.. كان له أن يكثر من التأليف والتصانيف، والتي ما برحت تخلد اسمه في سماء العلم، وقد بدأ هذا الطريق وهو في الثامنة عشرة من عمره!!
وقد صنَّف البخاري رحمه الله ما يزيد عن عشرين مصنفًا، منها: "الأدب المفرد"، و"التاريخ الكبير"، وهو كتاب كبير في التراجم، رتب فيه أسماء رواة الحديث على حروف المعجم، و"التاريخ الصغير"، وهو تاريخ مختصر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن جاء بعدهم من الرواة إلى سنة (256هـ = 870م)، و"خلق أفعال العباد"، و"رفع اليدين في الصلاة"، و"الكُنى"، وغيره..
قصة تأليف صحيح البخاري
غير أن أشهر كتب البخاري، بل أشهر كتب الحديث النبوي قاطبة، هو كتابه "الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه"، وهو المعروف بـ "الجامع الصحيح" أو "صحيح البخاري"، ويُعد أول كتاب صُنف في الحديث الصحيح المجرد، وقد قال فيه الإمام البخاري: "وما أدخلت فيه حديثًا إلا بعدما استخرت الله تعالى، وصليت ركعتين، وتيقنت صحته" [15].
وقد بذل فيه البخاري جهدًا خارقًا، واستمر في تأليفه وجمعه وترتيبه وتبويبه ستة عشر عامًا، هي مدة رحلته الشاقة في طلب الحديث.
ويذكر البخاري السبب الذي جعله ينهض إلى هذا العمل، فيقول: "كنت عند إسحاق ابن راهويه، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح" [16].
وقال أيضًا: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب عنه، فسألت بعض المعبرين، فقال لي: أنت تذبّ عنه الكذب؛ فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح" [17].
وقد ابتدأ البخاري تأليف هذا الكتاب في المسجد الحرام والمسجد النبوي، ولم يتعجل إخراجه للناس بعد أن فرغ منه، ولكن عاود النظر فيه مرة بعد أخرى، وتعهده بالمراجعة والتنقيح؛ ولذلك صنفه ثلاث مرات حتى خرج على الصورة التي عليها الآن.
ويحوي الكتاب 7275 حديثًا، اختارها البخاري من بين ستمائة ألف حديث كانت تحت يديه؛ لأنه كان مدقِّقًا في قبول الرواية، وكان قد اشترط شروطًا خاصة في قبول رواية راوي الحديث، وهي أن يكون معاصرًا لمن يروي عنه، وأن يكون قد سمع الحديث منه، إلى جانب: الثقة، والعدالة، والضبط، والإتقان، والعلم، والورع!!
وقد استحسن شيوخ البخاري وأقرانه من المحدِّثين كتابه هذا بعد أن عرضه عليهم، وكان منهم جهابذة الحديث، مثل: الإمام أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين؛ وقد استحسنوه وشهدوا له بصحة ما فيه من الحديث، إلا في أربعة أحاديث!! قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة!! ثم تلقته الأمة بعدهم بالقبول باعتباره أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى [18].
وتلقف الكتاب علماء أجلاء بالشرح والتعليق والدراسة، بل امتدت العناية به إلى العلماء من غير المسلمين؛ حيث دُرس وتُرجم، وكُتبت حوله عشرات الكتب.
وكان من أشهر شروح صحيح البخاري: "أعلام السنن" للإمام أبي سليمان الخطابي (ت 388هـ)، و"الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" لشمس الدين الكرماني (ت 786هـ = 1348م)، و"فتح الباري في شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر (ت 852هـ = 1448م])، و"عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني(ت 855هـ = 1451م)، "إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري" للقسطلاني (ت 923هـ = 1517م).
البخار.. عرفانٌ بالجميل
تبوأ البخاري رحمه الله مكانة عالية ومنزلة رفيعة في العلم وبين العلماء، وقد شهد له العلماء والمعاصرون له بذلك، حتى إنهم لقّبوه بأمير المؤمنين في الحديث.. وهي أعظم درجة ينالها عالم في الحديث النبوي، وقد أثنوا عليه ثناءً عاطرًا..
فيقول عنه ابن خزيمة: "ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل البخاري" [19].
وقال أبو جعفر: سمعت يحيى بن جعفر يقول: "لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت؛ فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم" [20]!!
وقال قتيبة بن سعيد: "جالست الفقهاء والعباد والزهاد؛ فما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل، وهو في زمانه كعمر في الصحابة" [21].
وقال أبو عيسى الترمذي (صاحب جامع الترمذي): "لم أرَ بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل".
وقد قبَّله تلميذه النجيب مسلم بن الحجاج (صاحب صحيح مسلم) بين عينيه، وقال له: "دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذِين، وسيد المحدِّثين، وطبيب الحديث في علله" [22].
البخاري.. محنة العلماء
على الرغم من تلك المكانة العظيمة، وهذه المنزلة العالية الرفيعة للبخاري، والتي جعلها الله فقط للعلماء، إلا أن ذلك لم يكن يمنع غِيرة الحاسدين أو حقد الحاقدين؛ إذ هي سنة الله في خلقه، والنفس تأبى على من يعلوها إلا من عصم ربي.
فبعد رحلته الطويلة الشاقة، والتي لقي فيها الشيوخ ووضع مؤلفاته العظيمة، وقد ذاعت صيته بين الناس.. رجع البخاري إلى نيسابور للإقامة بها، إلا أن بعض العلماء غيرة وحسدًا سعوا به إلى والي المدينة، وألصقوا به تهمًا مختلقة، مما اضطروه إلى أن يغادر نيسابور إلى مسقط رأسه بخارى، وهناك استقبله أهلها استقبال الفاتحين؛ فنُصبت له القباب على مشارف المدينة، ونُثرت عليه الدراهم والدنانير.
ولأنها سنة قائمة؛ فلم يكد يستقر البخاري في موطنه الأصلي حتى طلب منه أميرها "خالد بن أحمد الدهلي" أن يأتي إليه ليُسمعه الحديث؛ فقال البخاري لرسول الأمير بعزة العالِم: "قل له إنني لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانت له حاجة إلى شيء فليحضرني في مسجدي أو في داري، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان، فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة أني لا أكتم العلم" [23].
وبعزة مضادة آثمة، ما كان من الحاكم إلا أن أخذ يحرض عليه ويسيء إليه، وقد أغرى به بعض السفهاء ليتكلموا في حقه، ويثيروا عليه الناس، وفي نهاية الأمر قام بنفيه من المدينة (بخارى) إلى "خرتنك"!!
وفاة الإمام البخاري
وفي "خرتنك" (من قرى سمرقند، وتعرف الآن بقرية "خواجة صاحب") ظل البخاري بعيدًا عن وطنه، صابرًا على محنته، حتى توفاه الله عز وجل في ليلة عيد الفطر المبارك 30 رمضان 256هـ= 31 أغسطس 869م.. مخلِّفًا علمًا ونورًا تستضيء به الإنسانية، وتظل تنهل منه، وتعول عليه، إلى يوم القيامة [24].
فرحمه الله رحمةً واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
[1] أبو الحجاج المزي: تهذيب الكمال 24/443،449.
[2] الذهبي: الكاشف 2/156.
[3] ابن حجر: فتح الباري 1/478.
[4] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 2/7،6.
[5] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 2/7،6.
[6] ابن حجر: فتح الباري 1/478.
[7] ابن حجر: فتح الباري 1/478.
[8] ابن حجر: فتح الباري 1/ 478.
[9] ابن عساكر: تاريخ دمشق 52/58.
[10] ابن حجر: فتح الباري 1/ 479.
[11] ابن حجر: فتح الباري 1/ 478، 479.
[12] أبو الحجاج المزي: تهذيب الكمال 24/447.
[13] ابن حجر: فتح الباري 1/ 488.
[14] أبو الحجاج المزي: تهذيب الكمال 24/446.
[15] ابن حجر: فتح الباري 1/489.
[16] أبو الحجاج المزي: تهذيب الكمال 24/442.
[17] السيوطي: تدريب الراوي 1/88.
[18] ابن حجر: فتح الباري 1/7.
[19] ابن حجر: فتح الباري 1/485.
[20] أبو الحجاج المزي: تهذيب الكمال 24/460.
[21] ابن حجر: فتح الباري 1/482.
[22] ابن كثير: البداية والنهاية 11/26.
[23] أبو الحجاج المزي: تهذيب الكمال 24/464.
[24] الذهبي: الكاشف 2/156.
التعليقات
إرسال تعليقك