ملخص المقال
يعرض المقال سيرة السلطان الملك الظاهر برقوق أول المماليك الجراكسة بمصر والشام، منذ نشأته إلى تسلطنه وأشهر مناقبه ومآثره
الملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين برقوق بن آنص العثماني اليلبغاوي الجاركسي (نحو 738 - 801هـ / 1337 - 1398م)، السلطان الخامس والعشرون من سلاطين المماليك في ديار مصر والشام، وأول السلاطين الشراكسة (المماليك البرجية) إذا لم يُعدّ السلطان الملك المظفر بيبرس الجاشنكير من الشراكسة. وقد سمي هؤلاء بالبرجية لأنهم ينتسبون إلى المماليك الذين كانت ثكناتهم في أبراج قلعة القاهرة.
تسلطن برقوق مرتين (784 - 791 ثم 792 - 801هـ)، وهو يعد صلة الوصل بين سلالتين من سلاطين المماليك، إذ حكم مصر والشام قائدًا للعسكر (أتابك العسكر) قبل توليه السلطنة، وكان ذلك في ظل سلطانين صغيرين من نسل المنصور قلاوون من المماليك البحرية.
أصله ونشأته:
ينحدر برقوق إلى بلاد الشركس (الجركس)، وأصله من قبيلة كسا، وإنما سمى برقوق لجحوظ في عَيْنَيْه، وبيع في شبه جزيرة القرم وجلبه إلى مصر تاجر رقيق معروف يدعى الخواجة فخر الدين عثمان بن مسافر فعرف به (العثماني)، واشتراه بمصر الأمير يلبغا العمري الخاصكي من مماليك السلطان الأشرف شعبان في حدود سنة 764هـ/1364م، فأعتقه وجعله من جملة مماليكه، واستمرّ بخدمته إلى أن ثارت مماليك يلبغا عليه وقتل في سنة 768هـ، ولما قتل يلبغا وتمزّقت مماليكه وحبس أكثرهم، حبس برقوق هذا مع من حبس مدّة طويلة مع بعض زملائه، ثم أفرج عنه وخدم عند الأمير منجك اليوسفىّ نائب الشام سنين، إلى أن طلب الملك الأشرف مماليك يلبغا إلى الديار المصرية فحضر برقوق من جملتهم وصار بخدمة الأسياد أولاد الملك الأشرف جنديّا ولم يزل على ذلك حتى ثار مع من ثار من مماليك يلبغا على الملك الأشرف شعبان في نوبة قرطاى وأينبك وغيرهما، فلما اغتيل الملك الأشرف شعبان سنة 778هـ/1377م، نصب ابنه الملك المنصور علي القلاووني سلطانًا (778 - 783هـ) وكان عمره نحو سبع سنوات.
برقوق أتابكًا:
صعد نجم برقوق، وكوفئ بترقيته من الجندية إلى رتبة أمير طبلخاناه دفعة واحدة (نصيب الأمير فيها أربعون فارسًا وقد يزيد حتى الثمانين بحسب إقطاعه)، ولم تمض أيام حتى غدا برقوق أمير آخور كبيرًا (مسؤولًا عن الإسطبل السلطاني)، ثم أتابكًا للعسكر (قائدًا للجيش) وصار إليه الحل والعقد مفوضًا من السلطان.
توفي الملك المنصور علي بالطاعون سنة 783هـ/1381م، ونُصِّب أخوه صلاح الدين أمير حاج سلطانًا، فتلقب بالملك الصالح حاجي، وعمره لا يتجاوز أحد عشر عامًا، فكان آخر سلاطين الدولة القلاوونية بمصر والشام، وانفرد الأتابك برقوق بتصريف الأمور بعد أن تخلص من شركائه في الحكم وأكثر خصومه.
برقوق على عرش السلطنة المصرية:
لم يلبث برقوق أن تاقت نفسه إلى السلطنة بتشجيع من أنصاره فقام بخلع السلطان الجديد، وقلده الخليفة المتوكل على الله مقاليد البلاد، وشهد بذلك القضاة الأربعة وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينى. وخطب الخليفة المتوكل على الله خطبة بليغة، ثم بايعه على السلطنة وقلّده أمور المملكة ثم بايعه من بعده القضاة والأمراء. وتسلم برقوق السلطنة في وقت الظّهر من يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة 784هـ / الموافق للسادس من نوفمبر سنة 1382م.
ثم أفيض على برقوق خلعة السلطنة، وهي خلعة سوداء خليفتيّة على العادة، وأشار السّراج البلقينى أن يكون لقبه "الملك الظاهر" فإنه وقت الظّهيرة والظّهور، وقد ظهر هذا الأمر بعد أن كان خافيا، فتلقّب بـ "الملك الظاهر" وركب فرس النّوبة من الحرّافة من المقعد الذي بالإسطبل السلطانىّ من باب السّلسلة. والقبّة والطّير على رأسه، وطلع من باب السّر إلى القصر الأبلق، وأمطرت السماء عند ركوبه بأبّهة السلطنة، فتفاءل الناس بيمن سلطنته ومشت الأمراء والأعيان بين يديه إلى أن نزل ودخل القصر المذكور وجلس على تخت الملك. ودقّت البشائر بقلعة الجبل عند ركوبه ثم زيّنت القاهرة ومصر ونودى بالقاهرة بالدعاء للسلطان الملك الظاهر برقوق.
ثم كُتب بذلك إلى سائر البلاد وخرجت الأمراء لتحليف النّوّاب بالبلاد الشامية ثم أمر الملك الظاهر في السلطنة وثبتت قواعد ملكه. ومدحه جماعة من شعراء عصره منهم الشيخ شهاب الدين أحمد بن العطار فقال:
ظهور يوم الأربعاء ابتدا *** بالظاهر المعتز بالقاهر
والبشر قد تمّ وكلّ امـرئ *** منشرح الباطن بالظاهر
الصعوبات التي واجهت السلطان برقوق:
واجهت السلطان برقوق منذ أول عهده، صعوبات أضعفت موقفه وأفقدته السيطرة على مقاليد الأمور شيئًا فشيئًا إلى أن دالت دولته الأولى بعد سبع سنوات من حكمه. فقد أكثر من القبض على الأمراء من أقرب المقربين إليه أو عزلهم أو نقلهم، حتى أصاب العزل الخليفة نفسه والقضاة، فتغيرت عليه الخواطر وخافه الخاصة والعامة.
ثورة الأمير يلبغا الناصري وعودة الصالح حاجي سلطانا:
وكان أخطر ما واجهه ثورة نائبه على حلب الأمير يلبغا الناصري، الذي تحالف مع أحد الأمراء المطرودين المعروف باسم "منطاش" وانضم إليهما عدد من الأمراء في بلاد الشام، ومنهم نائب سيس. وسيطر الناصري على كامل سوريا وهزم جيش السلطان عند أسوار دمشق، ودخلت دمشق في طاعته في ربيع الأول 791هـ/ مارس 1389م.
وصلت طلائع الناصري أراضي مصر وعسكرت في الصالحية على مقربة من القاهرة قبل أن يتمكن السلطان برقوق من تجهيز جيش آخر استعدادًا للمعركة الحاسمة، ودارت المعركة شمالي القاهرة وبين أسوار المدينة في التاسع من جمادى الأولى 791هـ/ مايو 1389م من غير نتائج حاسمة، وبدأ السلطان برقوق يفقد رجاله وسلطانه يومًا فيومًا إلى أن قرر مغادرة قلعته في خاتمة المطاف والاختفاء عن الأعين. ولم يلبث الملك الظاهر أن كشف أمره فقبض عليه وأودع السجن في قلعة الكرك (في الأردن اليوم).
وأعيد الملك الصالح حاجي إلى السلطنة مرةً ثانية فغيّر لقبه وتلقب بالملك المنصور سنة 791هـ/ 1389م. وصار يلبغا الناصري أتابك العسكر وبيده الحل والربط ولكن سرعان مادب النزاع بين يلبغا الناصري وحليفه منطاش، ودارت رحى المعارك بين الطرفين في القاهرة وغيرها، وتمكن منطاش من القبض على ناصية الأمور، وانتهى أمر الناصري.
عودة برقوق سلطانا على مصر مرة أخرى:
وانتهز برقوق الفرصة في غمرة الفوضى التي عمت البلاد، ففرَّ من سجنه وجمع حوله قوة من مماليكه وأنصاره ومن البدو العرب، استطاع بها بعد كثير من المغامرات المثيرة، أن يحقق نصره كاملًا ويدخل القاهرة في شهر صفر سنة 792هـ/ فبراير 1390م. ولم يكن في وسع السلطان الصغير الملك المنصور حاجي سوى الانسحاب متخليًا عن السلطنة لبرقوق، فخلع نفسه من السلطنة صلحا سنة 792هـ وعاد مع برقوق إلى مصر، فدخل دور الحرم وبه ختمت الدولة القلاوونية، وكانت مدتها 103 سنين. بيد أن السلطان برقوق لم يتمكن من عدوّه القديم منطاش إلا بعد سنتين من المطاردة المستمرة.
برقوق والصراع بين العثمانيين وتيمور لنك:
كان عهدا السلطان برقوق حافلًا بأحداث مختلفة أكثرها محاولات تمرد وانشقاق ومنازعات بين كبار أمراء المماليك الأتراك والشراكسة من أجل السلطة، إضافة إلى تفشي الأمراض وكساد الأسواق، وكانت العقود الأخيرة من القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي سنوات جدب في تاريخ مصر والشام.
ولم يخل الأمر من حوادث مهمة لا يمكن إغفالها. ففي عهده الأول تواترت الأنباء عن ظهور تيمورلنك في أواسط آسيا، بعد أن سيطر على مناطق شاسعة منها واتخذ من سمرقند عاصمة له، وغزا فارس (782هـ/1381م)، ثم استولى على تبريز (788هـ/1386م)، وراح يهدد العراق وديار بكر. وفي العهد الثاني للسلطان برقوق عاد تيمورلنك إلى الظهور في آسيا الصغرى (أواسط عام 795هـ/1393م)، وأرسل السلطان بايزيد الأول العثماني إلى الملك الظاهر برقوق طالبًا مساعدته عسكريًا، في حين اكتسح تيمور العراق واستولى على بغداد ولجأ السلطان أحمد بن أويس إلى القاهرة في 27 ربيع الأول سنة 796هـ، وأكرمه الملك الظاهر وأمده بالمال، واستضافه حتى جلا تيمور عن بغداد فأعاده إليها.
لم يحاول تيمور في أول الأمر الدخول في صدام مباشر مع دولة المماليك، واكتفى ببعض التحرشات على الحدود الشمالية والشرقية من بلاد الشام، وأرسل سفارة إلى الملك الظاهر مع رسالة تهديد في3ربيع الثاني سنة 796هـ يدعوه فيها إلى الدخول في طاعته، وكان رد الملك الظاهر برقوق عنيفًا في رسالته الجوابية بعد أن أعدم سفراء المغول، ولم يلبث أن غادر القاهرة إلى بلاد الشام على رأس جيش مملوكي وفي صحبته السلطان أحمد بن أويس، فأقام في دمشق مدة ثم توجه إلى حلب، وأجرى تعديلات في قيادات المناطق الحدودية وبعض التحصينات استعدادًا لخوض المعركة الحاسمة مع تيمور، ولكن الصدام لم يحدث، إذ انسحب تيمور إلى بلده وعاد الملك الظاهر إلى القاهرة في 13 صفر سنة 797هـ/8 ديسمبر سنة 1394م. ولم يتجدد صراع المماليك مع تيمور إلا بعد وفاة الملك الظاهر برقوق.
مآثر السلطان برقوق:
أجمل السخاوي في وصف الظاهر برقوق في ترجمته بالضوء اللامع فمما قال: " وَكَانَ شهما شجاعا ذكيا خَبِيرا بالأمور، إِلَّا أَنه كَانَ طماعا جدا لَا يقدِّم على جمع المَال شَيْئا، وَلَقَد أفسد أُمُور المملكة بِأخذ الْبَدَل على الولايات حَتَّى وَظِيفَة الْقَضَاء والأمور الدِّينِيَّة، وَكَانَ جَهورِي الصَّوْت كَبِير اللِّحْيَة وَاسع الْعَينَيْنِ عَارِفًا بالفروسية خُصُوصا اللّعب بِالرُّمْحِ، يحب الْفُقَرَاء ويتواضع لَهُم وَيتَصَدَّق كثيرا وَلَا سِيمَا إِذا مرض".
وبالجملة كان الملك الظاهر السلطان برقوق في سلطنته يخلط الصالح بالطالح، قليل الثقة بمن حوله، ويكثر من عزل أصحاب المناصب في دولته، وتجاهر الناس في أيامه "بالبراطيل"، فلايولّى أحد وظيفة أو عملًا إلا بمال.
كما كانت له إصلاحات وأعمال حسنة، فقد أبطل بعض المكوس التي ترهق الرعية، وأنشأ جسرًا على نهر الشريعة (الأردن)، وجدد خزائن السلاح بالاسكندرية، وحصَّن بعض الثغور، وعمَّر سور دمنهور والجبال الشرقية بالفيّوم، وزاوية البرزخ في دمياط، وبنى قناطر في بيت المقدس، وبحيرة عند رأس وادي بني سالم عند المدينة المنورة. وبناء السبيل والطاحون في قلعة الجبل.
ومن أهم آثاره المدرسة الظاهرية أو المدرسة البرقوقية التي أقامها بين القصرين في القاهرة، وكان شركس الخليلي أمير آخور هو المشرف على تنفيذ بنائها، والقائم بهندستها المعلم المهندس شهاب الدين أحمد بن الطولوني، فقيل في ذلك:
قَدْ أَنْشَأَ الظَّاهِرُ السُّلْطَان مَدْرَسَةً *** فَاقَتْ عَلَى إِرَم فِي سُرْعَةِ العَمَلِ
يَكْفِي الخَلِيـــلَ بِأَنْ جَاءَتْ لخدْمَته *** صمُّ الجِبَالِ لَها تَمشي عَلَى عَجَلِ
وقد اكتمل عملها في أوائل شهر جمادى الأولى سنة 788هـ. وقرر فيها برقوق أربعة من المذاهب وشيخ تفسير وشيخ إقراء وشيخ حديث وشيخ ميعاد بعد صلاة الجمعة وغير ذلك.
وفاة السلطان الظاهر برقوق:
عهد الظاهر برقوق في أواخر حياته بالسلطنة إلى ولده الناصر فرج، ثم مرض أياما وتوفي بقلعة الجبل رحمه الله تعالى ليلة الجمعة منتصف شوال سنة 801هـ / 1398م. وقد استمرت دولة الشراكسة من عهده إلى سنة 922هـ وعدة ملوكها 23 ملكا، وكانت لهم مصر والشام.
ومما قيل في رثائه وعهده للناصر فرج:
مَضَى الظَّاهِرُ السُّلْطَانُ أَكْرَمُ مَالِكٍ *** إِلَى رَبِّهِ يَرْقَى إِلَى الخُلْدِ فِي الدَّرَجْ
وقَالُوا سَتَأْتِي شِدَّةٌ بَعْدَ مَوْتِـــــهِ *** فَــأَكْذَبَهُمْ رَبِّــي وَمَا جَا سِوى فَرَجْ
وكانت مدة حكم برقوق بالديار المصرية أتابكا وسلطانا قرابة 21 عاما. فمنذ صار أتابكًا إلى أن آلت السلطنة إليه 4 سنين و9 أشهر و10 أيام، ومنذ تسلطن إلى أن مات 16 سنة و4 أشهر و27 يومًا خلع منها بالملك المنصور حاجي بيد الناصري 8 أشهر و16 يومًا.
وخلف الملك الظاهر برقوق من الأولاد ثلاثة ذكور وثلاث بنات؛ فالذكور: الملك الناصر فرج (تسلطن من بعده بعهد منه إليه)، والملك المنصور عبد العزيز، وإبراهيم. والبنات: خوند سارة (زوجة الأمير نوروز الحافظي) وخوند بيرم (زوجة الأمير إينال باي بن قجماس) وخوند زينب (زوجة المؤيد شيخ ثم الأتابك قجق).
وَخلف برقوق من الذَّهَب الْعين ألفي ألف دِينَار وَأَرْبَعمِائَة ألف دِينَار، وَمن الْخَيل المسومة وَالْبِغَال الفارهة سِتَّة آلَاف، وَمن الْجمال خَمْسَة آلَاف، وَكَانَ عليق دوابه كل شهر أحد عشر ألف أردب شعير وفول.
مراجع للاستزادة:
- ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، ج11 و12، الهيئة المصرية العامة للتأليف، القاهرة 1971م.
- ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، حققه ووضع حواشيه: دكتور محمد محمد أمين، تقديم: دكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية - لبنان/ بيروت، الطبعة: الأولى، 1418هـ / 1997م.
- ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1984م.
السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، الناشر: منشورات دار مكتبة الحياة – بيروت.
- العصامي: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود- علي محمد معوض، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1419هـ / 1998م.
- الزركلي: الأعلام، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر، مايو 2002م.
التعليقات
إرسال تعليقك