الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
كانت بنود بيعة العقبة الثانية خطوة نحو بناء خير أمة أخرجت للناس، فقد تضمنت بنود هذه البيعة كل معاني الإصلاح والتغير، فما هي بنود بيعة العقبة الثانية؟
أهم مقتطفات المقال
القاعدة الثانية: هي أنَّه إذا شعر الجندي أنَّ القائد معه في الخندق، يُعاني ممَّا يُعاني منه، ويشكو ممَّا يشكو منه ويتألم منه، فإنَّ الجندي يبذل أقصى وسعه لخدمة القضيَّة التي من أجلها جلس هو والقائد في خندقٍ واحد؛ أمَّا إذا شعر الجندي باستعلاء القائد وتكبُّره، وسعادته وقت حُزن الجنود، وتَرَفه وقت بُؤسهم، وأَمْنِه وقت خوفهم، وشبعه وقت جوعهم، وراحته وقت تعبهم. إذا شعر الجندي بكلِّ هذا فإنَّه يفقد كلَّ حماسةٍ لخدمة القضيَّة التي من أجلها وقف وحيدًا في خندقه، ويُصبح بذلك جسدًا بلا رُوح، ولو واتته الفرصة لينكص على عقبيه لفعل؛ بل قد يُغدق الأموال ويدفع الرشاوى حتى يهرب من هذه الجنديَّة! وكل ذلك لأنَّه فقد مصداقية القائد وقدوته.
- السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ:
- وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ:
- وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرِوفِ وِالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ:
- «وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ»
- وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ إِلَيْكُمْ، وَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ:
عندما تم اللقاء بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الأنصار في بيعة العقبة المباركة، نجد أنَّه عرض عليهم ما أراده منهم بصورةٍ عجيبة، تُبْرِز المشقَّة والصعوبة في كلِّ بندٍ من بنود البيعة، وهو لم يعرض هذه الأمور على أحدٍ آمن من قبلُ، ولعلَّه لم يعرضها على أحدٍ آمن بعد ذلك! فقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يُيَسِّرَ على الناس تمامًا أمر الإيمان، وكان يقبل أن يشترط الرجل أن يقوم بالفرائض فقط دون النوافل؛ بل كان يُعطي الأموال يتألَّف قلوب الناس للإيمان، أمَّا الآن -وفي هذا الموقف الحرج- فإنَّه يشترط شروطًا قاسية، ويفرض أمورًا شديدة، لم يفرضها حتى على الأنصار في بيعة العقبة الأولى!
كل ذلك لأنَّه الآن لا يبني فردًا، بل يبني أُمَّة!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجنَّة».
إنَّها خمسة أمور في غاية المشقَّة والصعوبة؛ بل إنَّ الواحد من هذه الأمور شاقٌّ وعسير، فكيف باجتماعهم معًا في بيعة واحدة!
ولنراجع بنود البيعة العظيمة:
والسمع والطاعة في النشاط مفهوم، والمقصود بالنشاط هنا النشاط الإيماني، والحماسة الدينية؛ لأن هذا النشاط يدفع صاحبه إلى تَقَبُّل التضحية والمخاطرة؛ ولكن السمع والطاعة في الكسل -أو في رواية أخرى: المـَكْرَه- صعب جدًّا؛ لأن تكاليف الإيمان قد تكون شاقَّة في طبيعتها؛ لأنَّها في الأصل عبارة عن اختبار، وطبيعة الاختبار أن يكون فيه شيءٌ من المشقَّة والابتلاء، فاشتراط الطاعة في أمور الدين حتى في حالات الكسل الإيماني أمر صعب، وقد لا يحبُّ المرء أن يُلْزِم نفسه بذلك، وكان من الممكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلب من الأنصار أن يُبايعوه على السمع والطاعة فقط، دون أن يطرح مسألة النشاط والكسل؛ ولكن كان الغرض هو توضيح الرؤية تمامًا؛ ليُؤخذ بذلك قرارُ حمل الأمانة على بصيرة، ودون خداع من أيٍّ من الطرفين.
وما قلناه في النقطة الأولى نقوله هنا كذلك! فالنفقة في اليسر ممكنة، خاصَّةً مع النفوس الكريمة؛ وذلك لأنَّ المرء الذي يمتلك مالًا كثيرًا يكون عنده من فضل المال ما يُهَوِّن عليه الإنفاق، ويدفعه إليه، فهو لن يتأثَّر سلبًا بإنفاقه هذا، أما في حال العُسر فالأمر جدُّ مختلف! فالمرء في حال العسر والفقر يحتاج مَنْ يُنْفِق عليه أو يُقْرِضه، أو بمشقَّة يحتاج إلى أن يحتفظ بكل درهم أو دينار ليُخْرِج نفسه وأهله من العسر والضائقة. هذا هو الوضع بالنسبة إلى عامة البشر؛ ولذلك فالمبايعة على النفقة في سبيل الله حتى في حالات العسر أمرٌ لن يقوى على قبوله إلا أقوياء الإيمان حقًّا، وكان من الممكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلب من الأنصار المبايعة على النفقة في سبيل الله دون تحديد لظرف أو حالة؛ ولكنَّه التوضيح الكامل للرؤية كما ذكرنا في النقطة الأولى.
وهذه -أيضًا- مسألة شاقَّة للغاية؛ فالغالب من الناس يحبُّ أن يعيش في وئام مع غيره، دون أن يُنَغِّص عليه حياته بالتوجيه والإرشاد؛ لأن كثرة لفت النظر إلى الأخطاء والمنكرات تدفع معظم الناس تلقائيًّا إلى تجنُّب التعامل مع الآمر بالمعروف، أو الناهي عن المنكر؛ ولذلك يختلق الناس عادة الأعذار كي يمتنعوا من القيام بهذه الفضيلة، كما أن الذي يتجرَّأ على أمر الناس بالمعروف، أو نهيهم عن المنكر، يفتح المجال لكي يفعل معه الناس الشيء نفسه، وهذا قد لا يحبُّه عامَّة الناس؛ ولذلك تجد أن غالب البشر لا يلتفتون إلى ما يفعله الناس، بل يعيشون حياتهم بمعزل عن مشاكل غيرهم وأخطائهم. أمَّا الآن في هذه البيعة الصعبة يشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار أن يُبايعوه على عدم التخلِّي عن هذه الفضيلة الصعبة في كل مراحل حياتهم، مهما تعرَّضوا بسببها لخلافات مع غيرهم.
وجاء في رواية: «وَعَلَى أَنْ تَقُومُوا فِي اللهِ لَا تَأْخُذُكُمْ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ»[1]. والمعنى واحد، ومعنى هذا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلب البيعة على قول الحقِّ مهما كان مُرًّا! ومرارة الحقِّ تكون بسبب لوم اللائمين، وقد يأت اللوم من الأب أو الأم، أو يأتي من الحاكم أو القائد، أو يأتي من الصاحب أو الجار، أو يأتي ممَّن بيده مقاليد الأمور أو أنواع المصالح، وفي كل هذه الأحوال لا يُعْذَر الأنصاري المبايِع في سكوته عن قول الحقِّ، فيا له من بند شديد!
وهذا هو الجهاد في سبيل الله! وهو من أصعب الأمور في تكاليف الإيمان، وقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى أعلى ما في الإسلام، فقال: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ»[2]. وعندما سأله رَجُلٌ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ؟ قَالَ: «لَا أَجِدُهُ». قَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ؟»، قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ[3]؟ فهو يطلب منهم البيعة على شيء لا مثيل له أو عِدْل في الإسلام؛ بل إن صياغة الطلب تُعطيه صعوبة أكثر، حيث يطلب منهم الجهاد بـ«الهِمَّة» نفسها التي يُدافعون بها في المعتاد عن أنفسهم وزوجاتهم وأولادهم، وهي هِمَّة فطرية لا تَرَدُّد فيها، فهكذا ينبغي أن تكون رُوحهم وعزيمتهم عند طلب الجهاد منهم!
هذه هي المطالب النبويَّة في بيعة العقبة الثانية، ولنا معها عدَّة وقفات:
أولًا: البيان في منتهى الوضوح، وليس هناك مجال للتمييع أو لسوء الفهم أو للغموض، فهذه هي طبيعة الدعوة بكل صراحة ووضوح، فمَنْ أراد أن يحملها على هذه الصورة فقد فاز ورشد، ومَنْ ظنَّ أنها سهلة هينة بسيطة فقد خاب ظنُّه! هذا هو الاختبار الصعب الشاقُّ الذي وصفه ربنا عز وجل بقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجنَّة وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142].
ثانيًا: شتان بين ما طلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار في بيعة العقبة الأولى وما طلبه منهم في بيعة العقبة الثانية، ففي الأولى كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبني فردًا مسلمًا مؤمنًا يتَّصف بعقيدة سليمة، وبأخلاق حميدة، وخصال فاضلة، فهو لا يسرق، ولا يزني، ولا يقتل، وهذا كله حسن وجميل؛ بل رائع؛ ولكن بناء الأُمَّة يحتاج لما هو أعلى وأرقى، فهو يحتاج إلى بذل وعطاء وكفاح وعرق ودماء، ويحتاج إلى مكابدة وصبر وقوَّة تحمُّل، ويحتاج كذلك إلى مَنْ باع نفسه وماله ووقته وجهده وحياته كلها لله عز وجل.
أمَّا أن يكتفي المؤمن بالاعتقاد الصحيح، وبالعبادات المفروضة كالصلاة والصوم، وباجتناب الكبائر من سرقة وزنا وقتل، ويُصبح صالحًا في ذاته فقط؛ لكن ليس له علاقة بإصلاح المجتمع من حوله، فهذا جزء من الإسلام، وجزء محدود؛ لأنه في الواقع تَرَك كثيرًا من بنود الإسلام، فالناس تحتاج إلى مَنْ يقودها إلى الخير، والإسلام يُريد مَنْ يُدافع عنه، وما أكثر مَنْ يعتدي على حُرمات المسلمين، فلا بُدَّ أن يُوجد جيل يُدافع عن هذه الحُرمات، وهذا الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يُريده في بيعة العقبة الثانية، فهو يُريد الأُمَّة الصالحة القوية وليس فقط الفرد الصالح القوي؛ ولهذه الأسباب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الجهاد ذروة سنام الإسلام.
ثالثًا: يتَّضح -أيضًا- من بنود هذه البيعة مبدأ التدرُّج في التربية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنذ عامٍ مضى طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار أمورًا معينة كانت في مقدور الرجل حديث الإسلام، والآن بعد عامٍ من الدعوة والإيمان والقرب من الله عز وجل يطلب أمورًا أعلى، وستمرُّ الأيام ويأتي وقت يطلب فيه ما هو أعلى وأعلى مثل القتال في بدر؛ حيث سيكون الجهاد خارج المدينة، وليس في حدودها كما اتفق الأنصار في البيعة، ومثل بيعة الرضوان التي عُرفت في التاريخ ببيعة الموت، التي تعني عدم الانسحاب بأي حال في القتال؛ فإمَّا النصر وإمَّا الموت.
ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانه الكبير وكان في انتظار ردِّ الأنصار، وكان الوفد -فيما يبدو- برئاسة البراء بن معرور رضي الله عنه، بل قيل: إنه رئيس الوفد اليثربي بكامله مسلمين ومشركين[4]، ولعلَّه بسبب هذه الرئاسة كان البراء رضي الله عنه أول مَنْ ردَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البراء بن معرور رضي الله عنه وهو آخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا. فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ».
ونلاحظ في كلمات البراء رضي الله عنه اشتياق الأنصار إلى البيعة، فهم لا ينظرون إليها على أنَّها تكاليف خطرة؛ ولكن ينظرون إليها على أنَّها تشريفٌ وتمجيدٌ ورفعة؛ بل إنَّ البراء رضي الله عنه كان يُشَجِّع الرسول صلى الله عليه وسلم على قبول البيعة بتطمين قلبه إلى قوَّة الأنصار وبأسهم.
هذا كان كلام البراء رضي الله عنه؛ لكنه لم يكن الكلام الوحيد للأنصار!
لقد قام أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه، وهو من الصحابة الأجلاء، واعترض كلام البراء رضي الله عنه بخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ -يعني اليهود في المدينة- حِبَالًا وَإِنَّا قَاطِعُوهَا -يَعْنِي الْعُهُودَ- فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟
وهذا في الواقع كلام في منتهى الخطورة، ولنا معه أكثر من تعليق:
أولًا: إنَّ هذه مباحثات وليست أوامر من اتجاهٍ واحد، والجندي الأمين ينبغي أن يعرض رأيه، وعليه أن يُناقش ويُحاور، وليس هناك أيُّ مانعٍ في أن يُبْدِيَ مخاوفه وظنونه؛ لأنَّنا ما زلنا حتى هذه اللحظة في المرحلة التي تسبق القرار، ولا بُدَّ من التثبُّت من كلِّ نقاط البيعة، فإذا تمَّ اتخاذ القرار فلا مجال هنا للنكث والخُلْف؛ ومن ثَمَّ فكلام أبي الهيثم رضي الله عنه منطقي جدًّا ومناسب.
ثانيًا: لا بُدَّ أن نُدرك أن موقف الأنصار خطير فعلًا، فهم يعقدون منذ سنوات معاهدات مع اليهود، وسيقومون -بعد استضافة رسول الله صلى الله عليه وسلم- بقطع هذه المعاهدات، ووقف العلاقات الدبلوماسية معهم، واليهود -كما سيتبيَّن لنا عند الحديث عن الوضع الجغرافي والسياسي ليثرب- يُحيطون بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، وهم من أهل الحروب، وصناعة السلاح، وهم -أيضًا- أصحاب قوَّة اقتصادية هائلة، ويمتلكون التجارة والصناعة والزراعة؛ بل والماء، والأنصار الآن سيتَّحدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبهة واحدة، فماذا يحدث لو تركهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد انتصاره على مكة في يوم من الأيام؟ وماذا سيفعل الأنصار مع اليهود آنذاك؟ إن الموقف عندها سيكون في غاية التأزُّم، فكان لا بُدَّ من التثبُّت من هذه المسألة.
وقد يقول قائل: إنَّ هذا الاعتراض فيه تَعَدٍّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه يَفترض حدوث أمرٍ هو ليس من الأمور الأخلاقيَّة، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي منه إلَّا طيب؛ ولكن في الواقع، إنَّ هذا الاعتراض يزيد من قوَّة الميثاق، ويزيد من قيمة البيعة، وهو بمثابة التوثيق لكلِّ بندٍ من بنودها، وإذا كان أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه متأكِّدًا من أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيبقى معهم، فمَنْ أدراه أن هناك رجالًا من الأنصار المشاركين في البيعة في نفوسهم هذا القلق من موقف اليهود ومن مستقبل المدينة، فهو إن أثار هذه النقطة الآن فسيُغلق كل أبواب الشيطان على نفوس الأنصار، وستخرج كل الشكوك -ولو كانت بسيطة- من نفوسهم.
والرسول صلى الله عليه وسلم بصدره الرحب، وفقهه الواسع، يقرأ كل هذه الأفكار، ويُقَدِّر كل هذه المشاعر، فماذا فعل إزاء هذا الاعتراض؟ أتراه قيَّد هذه الحرية؟ أتراه قال: إن في هذا تطاولًا على القيادة؟ أتراه قال: كيف لا تحسن الظنَّ يا أبا الهيثم في قولي وفعلي وأنا مَنْ أنا؟!
لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيًّا من هذه الأمور، بل على العكس لقد تبسَّم!
نعم تبسَّم! ثمَّ قال: «بَلِ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ».
هل نَقَصَ من قدر القيادة شيءٌ عندما اعترض أحد الجنود على نقطةٍ ما يُريد توضيحها؟
أبدًا؛ فالقيادة الواثقة من نفسها لا يجب أن تغضب لهذا، بل عليها أن تُشَجِّعه؛ وذلك حتى يُخْرِج الجنود كلَّ ما في صدورهم، فيقفون بذلك إلى جانب القيادة وهم يشعرون أنَّهم معها وهي معهم، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي».
وما أروع البساطة التي تعامل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الموقف! فهو لم يكتفِ بقبول الاعتراض، بل تبسَّم، وكأنه يُريد أن يرفع الحرج عن أبي الهيثم رضي الله عنه، ويُريد أن يُغْلِق أبواب اللوم التي يُمكن أن يُوَجِّهها إليه بعض الأنصار بتهمة إثارة حفيظة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه البسمة اللطيفة، ثم نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الاحتمال ببساطة، وأعلن أنه من الآن فصاعدًا فسيكون مع الأنصار قلبًا وقالبًا، بل أعلن عن اطمئنانه لهم إلى الدرجة التي ستدفعه إلى حرب مَنْ يُحاربون، ومسالمة مَنْ يُسالمون!
لقد كانت كلمات موفَّقة للغاية!
ولنتفكَّر في حالة أبي الهيثم بن التيهان رضي الله عنه -ومَنْ كان على رأيه من الأنصار- قبل اعتراضه، فلا شكَّ أن نفسياتهم كانت حائرة، وأفكارهم مضطربة؛ لكن بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبدَّلت هذه الحيرة إلى هدوء، واستقرَّت النفوس بعد اضطرابها.
إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يُقَرِّر في كلامه هذا قاعدتين أصيلتين في بناء الأمم:
القاعدة الأولى: هي أنَّ كلَّ إنسان -أيَّ إنسانٍ- قابلٌ للمناقشة وللحساب، وأهلٌ للاستجواب ولعرض الرأي وللمعارضة؛ لأنَّه في النهاية بشر، والبشر قد يخطئون؛ بل لا بُدَّ أن يُخطئوا؛ إلا الذين عصمهم الله عز وجل وهم الأنبياء، فإذا كان الاعتراض قد حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المعصوم، وأقرَّه ولم يرفضه، فمِن باب أولى أن يُقْبَل مع أيِّ إنسانٍ آخر مهما كان منصبه.
القاعدة الثانية: هي أنَّه إذا شعر الجندي أنَّ القائد معه في الخندق، يُعاني ممَّا يُعاني منه، ويشكو ممَّا يشكو منه ويتألم منه، فإنَّ الجندي يبذل أقصى وسعه لخدمة القضيَّة التي من أجلها جلس هو والقائد في خندقٍ واحد؛ أمَّا إذا شعر الجندي باستعلاء القائد وتكبُّره، وسعادته وقت حُزن الجنود، وتَرَفه وقت بُؤسهم، وأَمْنِه وقت خوفهم، وشبعه وقت جوعهم، وراحته وقت تعبهم. إذا شعر الجندي بكلِّ هذا فإنَّه يفقد كلَّ حماسةٍ لخدمة القضيَّة التي من أجلها وقف وحيدًا في خندقه، ويُصبح بذلك جسدًا بلا رُوح، ولو واتته الفرصة لينكص على عقبيه لفعل؛ بل قد يُغدق الأموال ويدفع الرشاوى حتى يهرب من هذه الجنديَّة! وكل ذلك لأنَّه فقد مصداقية القائد وقدوته.
ولا يفوتنا في التعليق على ردِّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن نلفت الانتباه إلى ثقته الكبيرة صلى الله عليه وسلم في الأنصار، حيث صرَّح قائلًا: «أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ». وبدهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يقاتل في حربٍ إلا إذا كانت حربًا في سبيل الله، وإلا إذا كانت مستوفية للشروط الشرعية، وهو بذلك وكأنه يُعْلِن أنه يثق تمامًا أن هؤلاء الأنصار قد بلغوا درجة من الإيمان تجعلهم لا يُقيمون حربًا ولا سلامًا إلا إذا كان يُرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه من أعظم الشهادات في حقِّ الأنصار في كلِّ تاريخهم!
عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات نزلت بردًا وسلامًا على الأنصار، فقاموا يُبايعون وهم مطمئنون؛ ولكن حدث أمر عجيب آخر، فقد قام العباس بن عبادة بن نضلة الخزرجي رضي الله عنه، وهو من رجال بيعة العقبة الأولى، ومن السابقين، قام ليُخاطب قومه، وكأنَّه يُريد أن يُنَبِّه الناس لخطورةِ ما هم مُقْدِمون عليه.
قال العباس بن عبادة رضي الله عنه: هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تُبَايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ؟
قالوا: نَعَمْ.
فقال العباس بن عبادة رضي الله عنه موضحًا لهم: إنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إذَا نُهِكَتْ أَمْوَالُكُمْ مُصِيبَةً وَأَشْرَافُكُمْ قَتْلًا أَسْلَمْتُمُوهُ فَمِنَ الآنَ، فَهُوَ وَاللهِ -إنْ فَعَلْتُمْ- خِزْيُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إلَيْهِ عَلَى نَهْكَةِ الأَمْوَالِ وَقَتْلِ الأَشْرَافِ فَخُذُوهُ، فَهُوَ وَاللهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
لقد أراد العباس بن عبادة رضي الله عنه أن يُوَضِّح الرؤية للأنصار، ويشرح لهم بالتفصيل طبيعة المعركة، وطبيعة المرحلة، فالنصر ليس أمرًا سهلًا قريبًا، فطريقه مليء بالأشواك والجراح والآلام، وطبيعة المعركة بين الحقِّ والباطل أن يفقد المؤمنون أموالهم؛ بل وأن يفقدوا أشرافهم، ولا بُدَّ أن يصبروا، فإذا بلغ الألم أقصاه، وثبت المؤمنون، وصبر الصابرون، جاء النصر لا محالة؛ قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجنَّة وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].
فالعباس بن عبادة رضي الله عنه يُريد هنا عقدًا لا ينفصم مع مرور الأيام، وهذا الوضوح الكامل للتضحيات المتوقَّعة سيجعل الميثاق أشدَّ قوَّة، وسيُقلِّل من احتماليات نقضه تحت أيِّ ظرف، وهذا ما فهمه عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ رحمه الله حيث قَالَ: وَاللهِ مَا قَالَ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ إلَّا لِيَشُدَّ الْعَقْدَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَعْنَاقِهِمْ.
وهناك رؤية أخرى لما قاله العباس بن عبادة رضي الله عنه، مِنْ أنه كان يُريد بهذه التحذيرات أن يتمَّ تأجيل البيعة ليلة أخرى؛ وذلك بهدف دعوة عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم الوفد اليثربي إلى الإسلام؛ ومن ثَمَّ يحضر معهم البيعة، فيكون ذلك أدعى لنجاح استضافة الرسول صلى الله عليه وسلم في يثرب دون مُنغِّصات؛ وذلك لمكانة عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول فيها. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: مَا قَالَ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ إلَّا لِيُؤَخِّرَ الْقَوْمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ رَجَاءَ أَنْ يَحْضُرَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فَيَكُونَ أَقْوَى لأَمْرِ الْقَوْمِ.
ويمكن أن يكون الأمران معًا؛ أي يرغب العباس بن عبادة رضي الله عنه في توثيق البيعة، وكذلك في إعطاء عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول فرصة المشاركة في حال إسلامه، والله أعلم بحقيقة الأمر.
ماذا كان ردُّ فعل الأنصار؟
إنَّه من الواضح أنَّ الأنصار كانوا قد أخذوا قرارهم بالمبايعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيًّا كانت الشروط، وأنهم غير متردِّدين بالمرَّة؛ ولهذا فإن كلمات العباس بن عبادة رضي الله عنه لم تزدهم إلا قوَّة إلى قوَّتهم، فقالوا في إصرار: فَإِنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الأَمْوَالِ وَقَتْلِ الأَشْرَافِ.
ثُمَّ نظر الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الثمن! أي الثمن لمصيبة الأموال، وقتل الأشراف، والثمن للطاعة المطلقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في النشاط والكسل، والثمن للنفقة في العسر واليسر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثمن للقيام لله دون أن تأخذهم فيه لومة لائم، والثمن لنصرته وحمايته مما يحمون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، وأخيرًا الثمن لحرب الأحمر والأسود من الناس!
ما الثمن لكل هذه التضحيات؟!
قالوا: فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ إنْ نَحْنُ وَفَّيْنَا؟
قَالَ «الجَنَّةُ»!
كانت الجنَّة هي الثمن الوحيد لكل هذه التضحيات، وليس هناك أي وعد بأي شيء آخر، فلا وعد بدولة، ولا وعد بتمكين، ولا وعد بنصر، مع أن هذا كله سيحدث لا محالة؛ ولكن قد لا يراه المبايعون المؤمنون؛ فقد يموت أحدهم شهيدًا قبل التمكين بسنوات، وقد يموت طريدًا شريدًا معذَّبًا؛ ولكنه في النهاية إلى الجنَّة ذاهب! قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ [التوبة: 111].
سمع الأنصار الثمن، فازدادوا حماسة، واشتاقت قلوبهم للجنَّة، فقالوا في صوت واحد، مخاطبين رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثُّونه على المبايعة: ابْسُطْ يَدَكَ.
فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقاموا يُريدون المبايعة؛ لكن قام الصحابي المجاهد الواعي أسعد بن زرارة رضي الله عنه، وأمسك يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبعدها عن أيدي الأنصار، ثمَّ قال: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، فَإِنَّا لَمْ نَضْرِبْ أَكْبَادَ الإِبِلِ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنَّ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ جَبِينَةً فَبَيِّنُوا ذَلِكَ، فَهُوَ عُذْرٌ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ.
في هذا الموقف يُؤَكِّد الصحابي الجليل أسعد بن زرارة رضي الله عنه المعنى نفسه الذي أراده العباس بن عبادة رضي الله عنه من جديد، فالأمر ليس نُزهة! مَنْ أراد أن يحيا حياة آمنة، فيكتفي بأن يعبد الله فيها في بيته أو مسجده، ولا يسرق، ولا يزني، ولا يقتل؛ ولكن ليس له علاقة بتمكين دين الله في الأرض، ولا بالجهاد في سبيل الله، ولا بالدعوة إلى الله، ولا بالتضحية من أجله، فليس له أن يبايع مثل هذه البيعة، أمَّا مَنْ أراد أن يُبايع بيعة الحرب، فعليه أن يفقه هذه البنود فقهًا جيدًا.
وهو في الوقت نفسه يُحَذِّرهم بصدق من التسرُّع؛ لأن الفرار من الزحف أمر خطير، والتداعيات التي ستنتج عن فشل هذه البيعة الآن أهون بكثير من تلك التي ستحدث مستقبلًا إذا تراجع عنها الأنصار، وهذا في الواقع من الحكمة البالغة؛ والعجيب أن أسعد بن زرارة رضي الله عنه -الذي يُظْهِر هذه الحكمة الكبيرة- كان أصغر الأنصار سنًّا، أو مِنْ أصغرهم سِنًّا!
لكن الأنصار كانوا قد سمعوا الوعد: الجنَّة، فما عادوا يطيقون صبرًا، فما بينهم والجنَّة إلا أن يبايعوا، فقاموا يتسارعون وهم يقولون: أَمِطْ عَنَّا يَا أَسْعَدُ، فَوَاللهِ لَا نَدَعُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ أبدًا، وَلَا نَسْلَبُهَا أبدًا. وفي رواية أنهم قالوا: يَا أَسْعَدُ بْنَ زُرَارَةَ أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا.
يصف جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا الموقف وصفًا عجيبًا فيقول: فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الجَنَّةَ.
إنها من المواقف القليلة جدًّا في السيرة التي يتعهَّد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَدْخُل رجلٌ بعينه الجنة، إلى الدرجة التي جعلت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يستخدم هذا اللفظ العجيب: «وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الجَنَّةَ»! فالجنة بيد الله عز وجل؛ ولكن التأكيد الذي ظهر في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومصافحته جعلت الأنصار في غاية الاطمئنان إلى تحقق حلمهم الأسمى في دخول الجنة، وأن هذا هو مراد الله عز وجل لمَنْ بايع هذه البيعة، ولا يخفى أن هذا العطاء الكبير كان مشروطًا بتنفيذ بنود البيعة كلها، وكان أهم ما فيها هو البند الخاص بالحفاظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدفاع عنه عند قدومه إلى يثرب، وقد أبرز جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أهمِّيَّة ذلك البند تحديدًا في كلمته عندما قال: «بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ»[5]. أي بالشرط الذي شَرَطَه العباس عمُّ الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، والعباس لم يشترط في كلمته إلا حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى يثرب، ومن البديهي أنَّ الأنصار إذا وافقوا على بذل الروح في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه من باب أولى أن يقبلوا ببقية شروط البيعة، التي تتطلَّب أمورًا وإن كانت عظيمة فإنَّها أقلُّ من التضحية بالنفس.
ولقد بايعت المرأتان اللتان شاركتا في هذه المباحثات -وهما أم عمارة نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو رضي الله عنهما- البيعة نفسها، مع أن البيعة تقتضي الحرب والجهاد، وهذا غير مفروض على النساء، ولعلَّ هذا هو الذي دفع أمَّ عمارة رضي الله عنها إلى القتال في غزوة أحد -كما سيأتي في تفصيلات العهد المدني- وذلك دفاعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما انكشف الجيش وحدثت الأزمة! وقد كانت بيعة النساء مشافهة بالكلام، وليست بالمصافحة؛ وذلك لقول عائشة رضي الله عنها: «وَلَا وَاللهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أَنَّهُ يُبَايِعُهُنَّ بِالْكَلَامِ»[6]. وكلام عائشة رضي الله عنها هذا قيل في موطن آخر غير بيعة العقبة الثانية؛ إلا أنه كلام عامٌّ لا استثناء فيه؛ مما يُؤَكِّد أن بيعة المرأتين كانتا على هذه الصورة.
وهكذا تمَّت البيعة الخالدة، البيعة التي غيَّرت من وجه الأرض، ومن يومها والأنصار يُعرفون بالأنصار؛ فقد أصبح اسمًا ملاصقًا لهم، فلا تُقال كلمة الأنصار إلا وينصرف الذهن فورًا إلى هذه المجموعة الخالدة من الصحابة.. هكذا أصبحوا أنصار الله، وأنصار رسوله صلى الله عليه وسلم وأنصار هذا الدين، وكان الثمن الجنَّة!
[1] الأزرقي: أخبار مكة 2/206، وابن ناصر الدمشقي: جامع الآثار في السير ومولد المختار 4/232، والغزالي: فقه السيرة ص159، ووردت عن ابن القيم بلفظ: «وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لَا تَأْخُذْكُمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ». ابن القيم: زاد المعاد في هدي خير العباد 3/41.
[2] الترمذي: كتاب الإيمان، حرمة الصلاة (2616) وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي (11394)، وابن ماجه (3973)، وأحمد (22069)، وقال شعيب الأرناءوط: صحيح بطرقه وشواهده. والحاكم (3548) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي 3/42، 43.
[3] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، (2633) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] قال كعب بن مالك رضي الله عنه: خَرَجْنَا فِي حُجَّاجِ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَلَّيْنَا وَفَقِهْنَا وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا... فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ: «هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟» قَالَ: نَعَمْ هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ. أحمد (15836)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث قوي وهذا إسناد حسن. وقال منير محمد الغضبان: تُشير بعض الروايات إلى أن رئاسة الوفد كله مسلمه ومشركه قد انتهت إلى البراء بن معرور. انظر: منير محمد الغضبان: التحالف السياسي في الإسلام ص66، ومع ذلك فهناك بعض الإشارات إلى أن رئاسة الوفد اليثربي كانت لعبد الله بن أبي ابن سلول، والله أعلم.
[5] قال محققو مسند أحمد طبعة الرسالة: «بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ» يعني المواثيق التي أخذها العباس عليهم بالوفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
[6] البخاري: كتاب الطلاق، باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي، (4983)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب كيفية بيعة النساء، (1866)، واللفظ له.
التعليقات
إرسال تعليقك