الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
قرطبة مدينة عصرية تضارع المدن العالمية في الألفية الثالثة، ولماذا العجب وقد انتشرت المدارس والمكتبات في كل مكان من أرض قرطبة
النهضة العلمية:
للحال التي رأينا، وللحياة التي شاهدنا لا غَرْوَ أن تُصْبِحَ قرطبة (منتصف القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي)، وكأنها مدينة عصرية، تضارع المدن العالمية في الألفية الثالثة! وكيف العجب وقد انتشرت المدارس لتعليم الناس، وانتشرت المكتبات الخاصَّة والعامَّة، حتى صارت هي أكثر بلاد الله كُتبًا، وحتى غَدَتْ مركزًا ثقافيًّا ومجمعًا علميًّا لكل العلوم وفي شتى المجالات، وقد كان الفقراء يَتَعَلَّمُون في مدارس بالمجَّان على نفقة الحُكَّام أنفسهم؛ ولذا فليس عجيبًا أن نعلم أن جميع أفراد الشعب كان قد عرف القراءة والكتابة، ولم يُوجَدْ في قرطبة شخص واحد لا يجيد القراءة والكتابة[1]، في حين لم يَكُنْ يعرفها أرفع الناس في أوربا، باستثناء بعض رجال الدين!
النهضة الإدارية:
وجدير بالذكر أن هذه النهضة العلمية والحضارية في مدينة قرطبة في ذلك الوقت، واكبها أيضًا نهضة إدارية؛ وذلك من خلال عدد من المؤسسات والنُّظُمِ الرائدة في الحكم؛ منها: الإمارة والوزارة، وقد تطوَّرَتْ أنظمة القضاء والشرطة والحِسْبة، وغيرها، وواكبتها أيضًا نهضة صناعية عظيمة؛ إذ تطورت فيها الصناعة كثيرًا، واشتهرت صناعات؛ مثل: صناعة الجلود، وصناعة السفن، وآلات الحرث، والأدوية، وغيرها، وكذلك استخراج الذهب والفضة والنحاس[2].
الحياة المدنية والعصرية في قرطبة:
أمَّا إذا نظرنا إلى الحياة المدنية والعصرية فيها، فنراها مُقَسَّمَة إلى خمس مدن، وكأنها خمسة أحياء كبرى، يقول المقري: "وبين المدينَة والمدينَة سور عظيم حصين حاجز، وكل مدينة مستقلَّة بنفسها، وفي كل منها من الحمامات، والأسواق، والصناعات... ما يكفي أهلها"[3].
كما تميزت قرطبة -كما يذكر ذلك ياقوت في معجم البلدان- بأسواقها الممتلئة بكافَّة السلع، وكان لكل مدينة سوقٌ خاصٌّ بها[4].
ومن المقري نذكر بعض إحصائيات عن عمران قرطبة:
المساجد: انتهت مساجد قرطبة أيام عبد الرحمن الداخل إلى 490 مسجدًا، ثم زادت بعد ذلك إلى 3837 مسجدًا.
البيوت الشعبية: 213077 بيتًا.
بيوت النخبة: 60300 بيت.
الحوانيت (المتاجر وما شابه): 80455 حانوتًا.
الحمامات العامة: 900 حمام.
الأرباض (الضواحي): 28 ضاحية[5].
وهذه الأرقام كانت تزيد وتنقص باختلاف الأحوال السياسيَّة، وباختلاف روايات المؤرخين، غير أنها اختلافات على "مدى" الفخامة والجلالة والجمال، لا على أصل وجودها وتحقُّقِهَا.
وكان عدد سكان قرطبة في عهد الدولة الإسلامية زُهاء خمسمائة ألف نسمة[6]! والجدير بالذكر أن عدد سكان قرطبة حاليًا يبلغ 310.000 نسمة تقريبًا[7].
[1] محمد ماهر حمادة: المكتبات في الإسلام ص99.
التعليقات
إرسال تعليقك