الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
جامع الحنابلة من روائع العمارة في دمشق، مقال للباحث عماد الأرمشي يتناول تاريخ جامع الحنابلة من خلال وصف دقيق لمحرابه وصحنه ومئذنته وترميمه
موقع جامع الحنابلة
يقع جامع الحنابلة خارج أسوار مدينة دمشق القديمة، في زقاق الحنابلة بمنطقة أبو جرش، محاذياً لشارع الشيخ عبد الغني النابلسي والشيخ محي الدين بن عربي بالجبة، عند سفح جبل قاسيون الشرقي بصالحية دمشق.
وذكر لي والدي الأستاذ المرحوم محمد شحادة الأرمشي-المفتش الأول بوزارة التربية والتعليم السورية رحمه الله- أن هذا الجامع يعد من أوائل المساجد الجوامع الكبيرة، التي بنيت بعد المسجد الجامع الأموي الكبير، وليس كل مسجد هو جامع بل كل جامع هو مسجد، وهذا الجامع من الآثار النورية والأيوبية الضخمة الماثلة إلى اليوم في دمشق الشام.
وقال: عُرف المسجد الجامع بعدة أسماء منها:
جامع الحنابلة: لأن أبناء الشيخ أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي هم الذين أسسوا بناءه ، وكانوا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وكان وقفاً حنبلياً لذلك سمي بجامع الحنابلة.
جامع الصالحاني: نسبة لأبي صالح الحنبلي والذين ينتمون إليه المقادسة مؤسسو الجامع، وقد سميت أيضاً الصالحية نسبة لاسمه.
الجامع المظفري: نسبة إلى متمم بنائه الأمير الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري بن زين الدين بن علي بن بكتكين، أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد صاحب أربل، وكان الأمير مظفر الدين زوجاً للصاحبة خاتون شقيقة السلطان صلاح الدين الأيوبي –رحمه الله.
جامع الجبل: سماه النعيمي بهذا الاسم لأنه الجامع الوحيد الكبير الموجود في جبل قاسيون.
جامع الصالحية: لوقوعه في حي الصالحية.
بناء جامع الحنابلة
وقد بوشر ببناء جامع الحنابلة في خامس عشر من شوال 597 هـ الموافق 19 يوليو 1201م، كرديف إسلامي لدير الحنابلة والمدرسة العُمرية بدمشق. وقد دعا لبناء هذا الجامع المبارك الشيخ أبو عمر بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي أحد أئمة المقادسة، وقد تولى أمر البناء والإنفاق عليه الشيخ أبو داود محاسن الفامي عام 598 هـ/ 1202م تحت رعاية ومناصرة الشيخ أبو عمر، لكن الأموال التي جمعوها لم تكن كافية لمتابعة البناء، فبلغ الخبر مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل أن الحنابلة بدمشق شرعوا في عمل جامع بسفح قاسيون، وإنهم عاجزون عن إتمامه، فأرسل الأمير على فوره مع حاجب من حجابه يسمى شجاع الدين الإربلي ثلاث آلاف دينار أتابكية، لتتميم العمارة وأخبرهم أن ما تبقى منها، يُشتري به أوقافاً للمسجد توقف عليه.
فأكمل الشيخ أبو عمر المقدسي بناءه، وجعل منبره العظيم المميز ذا ثلاث درجات كدرج منبر النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو أول من ولي خطابته، وانتهى البناء بمؤازرة الأمير مظفر الدين، حيث تم وضع آخر حجر ببناء المئذنة في السابع عشر من رجب سنة 610 هـ / الثاني من كانون أول 1213م.
ثم إن الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري عاود فأرسل ألف دينار لسياق الماء إلى الجامع من قرية برزة، فمنعهم الملك المعظم بن سيف الدين أيوب صاحب دمشق، وأعتذر لهم بأن في طريقه قبورا كثيرة للمسلمين، فصُنع له بئرا ذو ماء زلال، ووقف عليه أوقافا تقوم به، وما زال البئر باق إلى الآن ولكن للأسف قد جف مائه.
وصف جامع الحنابلة
ويعد جامع الحنابلة من أقدم جوامع مدينة دمشق التي بنيت في العصر الأيوبي، وقد تم تصميم وتخطيط مساقط الجامع، مشابها لتصميم وتخطيط مساقط الجامع الأموي الكبير بدمشق، فواجهة الجامع الأمامية الغربية حجرية فيها نافذتان كبيرتان تطلان على زقاق الحنابلة، ويتوسطها الباب الغربي الكبير عليه لوحة التأسيس. ويتصل المدخل الرئيسي للجامع برواق جميل ذو أربعة قناطر كبيرة يحملن قبة صغير، وهذه القناطر من أساس بنيان الجامع القديم ذوات الأحجار القديمة، كما يتصل رواق المدخل مع الجدار الشمالي لحرم بيت الصلاة وهو مبني من الحجارة المتناوبة الأبلقية الشكل (الحجارة البيضاء والسوداء البازلتية و المزية أي اللون الرماني)، والواقع في الزاوية الجنوبية الغربية من صحن المسجد خلف الرواق المقنطر.
صحن جامع الحنابلة
كان صحن الجامع المستطيل الشكل والموجود في الجهة الشمالية للبناء مع المنارة المبنية في الضلع الشمالي من الصحن مفروش بالحجارة العادية، وتشبه تقسيماته تقسيمات وأجزاء صحن الجامع الأموي الكبير من حيث أروقة الصحن المحمولة على قناطر وكذلك النوافذ القوسية فوق القناطر، بالإضافة إلى شكل ميضأة المسجد القديمة، و توضع مكان المئذنة كما هي مئذنة العروس بالأموي.
أرضية الجامع
وقد لاحظت أثناء زيارتي الميدانية للجامع أن أرضية الجامع تغيرت بعد الترميمات التي طرأت عليها، فصارت مفروشة بالرخام الأبلقي البديع ذو الأشكال الهندسية المتداخلة، و غابت مظلة الميضأة بوسط صحن الجامع، وصار فيها فسقية مياه (بحرة)، مربعة الشكل مطوقة بعقد رخامي ومحمولة على أرضية الصحن يصب فيها الآن مياه عين الفيجة.
أما الأعمدة القديمة المتراكبة بصحن الجامع، فهي من بنيان المسجد القديم وقد شيدت آنذاك آخذة طابع الأعمدة الرومانية أو البيزنطية القديمة، بالإضافة إلى الأقواس المبنية فوق الأعمدة والمتعددة، والتي يعلوها نوافذ قوسيه الشكل. يوجد في شرقي وغربي الصحن إيوانان عظيمان يقوم كل منهما على خمس قناطر وقواعد وأعمدة قديمة، وفي الجهة الشمالية إيوان يقوم على خمس قناطر من ورائها ثلاث قناطر أخرى، والى جانبها المنارة المربعة الجميلة. كما أن للجامع باب شرقي مقابل الباب الغربي.
قبلة جامع الحنابلة
يدخل إلى حرم بيت الصلاة (القبلة) لجامع الحنابلة من باب كبير إلى يمينه بابان صغيران وثالث أصغر. وكذلك إلى يساره، وهناك نوافذ محيطة بالمدخل الرئيسي فوق الأبواب من جهة الحائط الشمالي والغني باللوحات المنحوتة الغنية بالزخارف الجصية الأنيقة على هيئة نباتات زهرية مرسومة بشكل فني وعليها رسومات داخل القوصرة، وهي مثلث في أعلى واجهة المبنى ، وقد انمحى معظمها ولم يبق منها الآن إلا ما على الباب الأيمن الثاني.
والحرم نفسه مضاء من خلال نوافذ موضوعة داخل الحجارة الضخمة بشكل منظم متناسق الأبعاد مع أرضية المسجد، و الجدار الجنوبي متآخي مع النوافذ التي تم دمجها من الزجاج المعشق والملون مع بعض من النوافذ العلوية ومضاءة من السقف الملتحم مع الجدار الجنوبي.
والقبلة قائمة تحت ثلاث جملونات خشبية مركبة على ثلاثة مجموعات من العقود الحجرية، ومجازه الأوسط القاطع على ثلاثة عقود أيضاً مبني على شكل جمالون أو مثلث أو هرم، ضلعاه يستندان إلى مجموعتي العقود وتحتها خمس قناطر، ومن أمامها خمس أخرى، وهي مقسومة إلى ثلاث أجنحة "بائكات (البائكة مجموعة عقود مبنية على اتجاه واحد)"، موازية لحائط القبلة، يقطعها مجاز قاطع منحرف قليلاً إلى الغرب، مدعمة برتل من الركائز الضخمة الحاملة للقناطر الحجرية المساندة والملتحمة مع الأعمدة الخشبية للسقف كما هو الحال في الجامع الأموي، ولها شباكان عظيمان إلى زقاق الحنابلة، وآخران إلى طريق المسكي، و أربعة جنوبية تطل على الدور والبيوت العربية القديمة ويوجد حاليا بداخل كل شباك جهاز تكيف حديث قد حجب رؤيتهما، وفي جدار القبلية سدة خشبية ذات زخارف بديعة وكذلك فوق الشباكين الشرقيين كوى بديعة الزخرفة من الزجاج.
محراب مسجد الحنابلة
أما محراب جامع الحنابلة فهو بديع من الحجر، ولكنه مشوه بالدهان وتم تحديثه في العصر العثماني، مرتفع القامة محفور في حائط القبلة يحيطه إطار مزخرف بشكل هندسي مزين بجملة من الآيات القرآنية، مكتوبة بأجمل أنواع الخطوط العربية ومتوج بمقرنصات على شكل نصف قبة، ومحاط بأعمدة صقلية، ونقش في أعلى المحراب: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103].
على جانب المحراب يوجد منبر الجامع؛ خشبي الصنع أية من آيات الفن الخشبي المحفور، وهو من أقدم و أندر وأجمل المنابر الموجودة في بلاد الشام ومصر قاطبة بعد منبر صلاح الدين الأيوبي، الذي حرقه الصهاينة في حريق المسجد الأقصى المبارك في 21 آب / أغسطس 1969م، وقد صُنع منبر جامع الحنابلة في عام 604 هـ الموافق 1207م حسبما تشير إلى ذلك الكتابة التاريخية المحفورة فوق باب المنبر مباشرة. وهو واضح للعيان في نقوشه ويدل على أناقة وعراقة في صياغة الخشب المصنوع منه والمعشق والمتشابك بنقوش معقدة هندسياً ومشغولة على هيئة نباتات زهرية.
سقف مسجد الحنابلة
سقف الجامع مصنوع من الخشب تغطيه طبقة من التبن والكلس، وهو محكم الصنع يقي المسجد ويحميه من أمطار الشام الغزيرة. و الجدير بالذكر أن حرم المسجد لا يوجد فيه غارب أو قبة كما هو الحال في الجامع الأموي وجامع التوبة.
مئذنة جامع الحنابلة
ذكرت بعض المصادر التاريخية أنه كان لجامع الحنابلة مئذنتان جنوبية وشمالية، ولم يبق منهما حالياً إلا الشمالية وتقع في آخر الرواق الشمالي للجامع، وبنيت على نسق مئذنة العروس في الجامع الأموي، وهي عبارة عن مئذنة بسيطة مطلية بالجص الأبيض خالية من المقرنصات وبقية العناصر التزيينية، وهي ذات جذع مربع متقشف في عمارته ضخم في محيطه، و المئذنة طويلة شاهقة الارتفاع في جذعها السفلي يتخللها نوافذ طولية ضيقة وتعلوها شرفة خشبية وحيدة ومربعة أخذت شكل الجذع، تغطيها مظلة خشبية أخذت شكل الشرفة متوجة بقمة حجرية منحوت فيها محاريب صغيرة صماء وصولاً لقمة المئذنة على شكل خوذة على شاكلة القمم الأيوبية.
والذي ينظر إليها من زقاق الحنابلة يراها قد توارت وحجبت بحكم التوسع والتطور العمراني حولها، وعلى عتبة مدخل المئذنة كتابة / على أنها عُمرت عام 610 هـ / 1223م،كما أسلفنا.
ما وقع في جامع الحنابلة من حريق
وذكر المؤرخ بن تغري بردي في النجوم الزاهرة أنه في مستهل ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وسبعمائة للهجرة ما يوافقه 25 آب / أغسطس 1343م، وقع حريق عظيم بسفح قاسيون احترق به سوق الصالحية حتى وصل الحريق إلى الجامع المظفري وكانت جملة مهولة من الدكاكين التي احترقت تقارب من مائة وعشرين دكانا، ولم ير حريق من زمان أكبر منه ولا أعظم إنا لله وإنا إليه لراجعون .
ورد ذكر الجامع بكتاب البعثة الألمانية العثمانية التي قامت بإجراء مسح ميداني شامل للأبنية الأثرية والإسلامية بدمشق وقد أسهبا في تفاصيل التفاصيل في ذكر حرمه وصحنه و أروقته، و للمزيد راجع كتاب الآثار الإسلامية في مدينة دمشق المذكور.
ترميم جامع الحنابلة
جرت أعمال ترميم كاملة للمسجد في عام 2002م، وقد شارك بالمقدار الأكبر في ترميم هذا المسجد المحسن إسماعيل يوسف السعدي بتاريخ 17 محرم 1423 هـ الموافق 12 شباط فبراير 2002م، جزاه الله خيرا و أحسن إليه بحسب اللوحة الرخامية المثبتة عند مدخل الجامع [1].
[1] للمزيد انظرالمصادر التالية:
- السيرة الصلاحية والمحاسن اليوسفية / الشيخ يوسف ابن شداد.
ـ النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة / يوسف بن تغري بردي
ـ البداية و النهاية / أبو الفداء إسماعيل ابن كثير القرشي الدمشقي
ـ تاريخ ابن قاضي شهبة / تقي الدين أبو بكر الأسدي الدمشقي
ـ ثمار المقاصد في ذكر المساجد / ابن عبد الهادي الشهير بابن المبرد.
ـ وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان / المؤرخ الدمشقي شمس الدين أحمد بن خلكان .
ـ الدارس في تاريخ المدارس / الشيخ عبد القادر بن محمد النعيمي الدمشقي
ـ منادمة الأطلال و مسامرة الخيال / الشيخ عبد القادر بن بدران
ـ الآثار الإسلامية في مدينه دمشق / تأليف كارل ولتسينجر وكارل واتسينجر، تعريب عن الألمانية قاسم طوير، تعليق الدكتور عبد القادر الريحاوي.
: Carl Watzinger & Karl Wulzinger Damaskus: die islamische Stadt
ـ في رحاب دمشق / العلامة محمد أحمد دهمان.
ـ ذيل ثمار المقاصد في ذكر المساجد / د. محمد أسعد طلس.
التعليقات
إرسال تعليقك