ملخص المقال
موالد كثيرة اجتمعت وانفض سامرها، وخرج الجميع مسرورين كأنهم انتصروا في المعركة، وأدوا واجبهم وحققوا آمال أمتهم، فمتى نعيش موسم الحصاد؟
موالد كثيرة اجتمعت وانفضّ سامرها، وخرج الجميع مسرورين كأنهم انتصروا في المعركة، وأدُّوا واجبهم، ونالوا ثواب الله، وحققوا آمال أمتهم. موالد تنسب نفسها إلى الدين، وأخرى تنسب نفسها إلى الاقتصاد، وأخرى إلى السياسة أو الأسرة أو الاجتماع!!
إنها موالد هنا وهناك يسعى أصحابها إلى إظهار أنفسهم وكأنهم دون الناس يتميزون بحب رسول الله، وبحب أهل بيت رسول الله r.. وبالتالي فهم إنما يقومون بهذا الضجيج وبهذه الأحفال؛ تجسيدًا لهذا الحب للنبي u وأهله -رضوان الله عليهم- نيابةً عن الأمة. فهم -وحدهم- أهل التخلية وأهل التحلية والتزكية، وهم من بين الناس أصحاب القلوب التقيّة، والنفوس الزكية، والفناء في حب رسول الله!! أما غيرهم فهم أهل الجمود العاطفي نحو رسول الله u وآل البيت y، وهم -كذلك- أهل الولاء البارد الذي لا تظهر آثاره في رقص أو طبل أو أناشيد تتداخل الأصوات فيها، فتصبح مجرد ضجيج صاخب لا يصل إلى قلب فقيه ولا إلى عقل حصيف!!
وبعض هذه الموالد (المسمَّاة بالدينية) تسعى -كما يزعم أصحابها الكبار- إلى إظهار حب النبي بطريقة (علمية)؛ ولذلك فهي تقام في فنادق ذات نجوم خمسة وتسمى (بالمؤتمرات)، ويُستجلب لها أصحاب أسماء إسلامية رنانة، يقومون بدور العلماء الغيورين، وتتوزع الأدوار على محاور محدّدة لهم منذ شهور، فيدبِّجون فيها الصفحات تلو الصفحات، ويقدمون كلامهم مصحوبًا بالهوامش الدقيقة، والمأخوذة من المصادر والمراجع الوثيقة. وقبل أن ينفضّ سامرهم يأخذون بعض الهدايا الرمزية، وبعضهم يأخذ الجوائز السَّنِيَّة من أصحاب النفوذ والأريحية، ثم يعود الجميع إلى بلادهم راضين عن أنفسهم؛ فقد أظهروا حبّهم لرسول الله في شهر مولده، وأدوا -بالتالي- الأمانة، وبلَّغوا الرسالة، ونصحوا الأمة، وكشفوا عن أنفسهم بهذه الرحلة الجميلة (الغُمَّة)!!
وهناك موالد -على الشاطئ الآخر- تصل إلى مستوى رجال القمة، ليس فيها حديث عن النبي محمد r وآله، ولكن الحديث يدور عما أصاب أتباع النبي u وأحفاده؛ فأحفاد النبي u من (بنات وبنين) لم يعودوا ممثلين لسيرة أصحاب النبي r ولا أمهات المؤمنين، بل أصبحوا -على العكس مما كان عليه آل البيت والصحابة الكرام y- أشدّاء على المؤمنين رحماء على الكافرين، يتوارون خجلاً من انتمائهم للإسلام، بينما يُصدِّرون للرأي والفكر والإعلام جماعة العلمانيين والمنافقين، ويشترون الدنيا بالدين.
وهؤلاء يمثلون الأمل الكبير؛ لأنهم إذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، لكن الناس - على الرغم من هيبة موالدهم ووقارها، وعلى الرغم من ضجيج أبواق إعلامهم- فقدوا الأمل في مصداقيتهم، وأصبحوا ليل نهار يجأرون إلى الله بالشكوى، ولسان حالهم يقول: (ليس لها من دون الله كاشفة)!!
يا إخوتي.. إنها موالد تقام هنا وهناك يخدع الناس بها أنفسهم، لكن هل يغني عنهم هذا الضجيج في هذه الموالد -أو بتعبير آخر: (التمثيليات المحكمة الإخراج)- من الله شيئًا؟
إن الإسلام يشترط لصلاح الفعل ثلاث آليات؛ أولاها: صلاح النية؛ فـ "إنما الأعمال بالنيَّات" بهذا الحصر البلاغي الدقيق.. والنيّات لا بُدَّ أن تكون واضحة، ولا يجوز أن يكون فيها دخن أو شوائب، وهي إذا كانت كذلك بارك الله في الأعمال التي ترتبط بها، حتى لو حدث بعض العجز أو التقصير.
ثانيتها: صلاح الوسائل من الناحية الشرعية، فليس بالموالد -سواء كانت في (الأحياء الشعبية) أم في الفنادق (ذات الخمسة نجوم)- يصلح حال الأمة، أو يتحقَّق التعبير السليم عن حبِّ رسول الله r. ولئن كانت الموالد الشعبيّة تَتّخذ آلياتٍ اختلط فيها الحلال بالحرام، والنساء بالرجال، والذِّكر والترتيل بالضجيج والعويل؛ فإن الموالد في مستوى الفنادق الراقية يختلط فيها صخب صالات القمار والخمور والغانيات والمغنيات والراقصين والراقصات، بأصوات المتحدثين والمتحدثات والمحاضرين والمحاضرات والمعلقين والمعلقات.
فهلاَّ طهرتم وسائلكم (وأماكنكم) لتتعرضوا لنفحات الله وحضور الملائكة؛ فالله طيب لا يقبل إلا طيبًا! وهلاَّ وفَّرتم هذه الأموال الطائلة فأعطيتموها لإخوانكم الذين يموتون جوعًا من (حصار اليهود)، وصواريخ الأمريكان ولا يجدون ما ينفقون.
ولا تنسوا أن الوسائل في الإسلام لا بُدَّ أن تكون كريمة مثل الغايات، وأنه لا يجوز -أيضًا- أن ترتفع الوسيلة على حساب الغاية، ولا أن تكون الغاية العابرة مثل (الإعلام والدعاية) على حساب الغاية الباقية، وهي (بعث الأمة) على خُطا نبيِّ الرحمة r.
وثالثتها: الأهداف؛ فالمفروض أن (الغاية) من كل هذه الموالد الدينية والسياسية أو الإعلامية -في مستوى القواعد أو القمم- هي التعبير عن الولاء لله ولرسوله، وتفعيل هذا الولاء وهذه العاطفة، وتجسيدهما في أعمال أو مشروعات ترفع الأمة خطوات إلى الأمام، سواء في عالم الفكر أم السلوك أم التقدم المادي والمعنوي (الحضاري). بل إن من الواجب أن تقف الأمة أفرادًا ومؤسسات ودولاً مع نفسها لتتساءل بعد كل (مولد) أو (مؤتمر): ما المردود الذي عاد على الأمة وأفرادها؟ وماذا سنقول لله إذا سألنا يوم القيامة عن (الأموال) التي بُدِّدت والأوقات التي أهدرت؟!!
وفي دنيا الواقع نرى أن أسلوب (الموالد) الذي يسميه بعضهم -أحيانًا- (مؤتمرات) أو (مجالس) أو (احتفالات) - لم يصل بنا إلى شيء؛ فقلّما نفكر في تجديد الآليات والوسائل، مع أن بإمكاننا -إذا قمنا بهذا التطوير للوسائل- أن نُسهِم في دفع عجلة التقدم إلى الأمام، وأن نعيد الوعي إلى عقل الأمة، والسلامة إلى قلبها، والفطرة إلى نقائها، والدين إلى حقيقته الفاعلة الباعثة على إخراج الناس من ظلمات الشرك والوثنية والرياء والتجاوزات، إلى نور الإيمان الإيجابي المتعانق مع العقل الرشيد والفطرة النقية والنقل الصحيح.. ذلك الإيمان الذي ابتعث الله به {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].. وعندما ابتعثها كلَّفها بمهام أساسية، من شأنها -مع غيرها- أن تحافظ بها على الخيرية التي تصل بها إلى مستوى (الشهادة) على الناس؛ لأنها المالكة لميزان العدل الذي لا قوام للحياة الإنسانية بدونه.
ومن العدل أن (يقدِّر) الناس ربهم حق قدره، ويعبدوه شكرًا له على آلائه، وتحقيقًا لرسالة وجودهم الكبرى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
ومن العدل أن تحتفظ الأمة الخيرية المسلمة بميزان القيم، فتحارب الشذوذ والانحراف بالقيم، إفراطًا وتفريطًا، فلا هي تبيح الشذوذ الجنسي، ولا هي تقهر الغرائز، وتقتلها باسم الرهبنة.
ومن العدل أن يكون الناس أحرارًا.. لكن -من العدل أيضًا- أن تبقى الحرية في إطار طاعة الله؛ لأن طاعة الله تمثل العدل الأعظم والرسالة الأسمى للإنسان؛ فالشرك ظلم عظيم، والإنسان من غير طاعة الله.. حيوان لا مولى له، يهيم على وجهه.. كالأنعام.. بل أضلّ سبيلاً. كما أن من العدل أن توزَّع (الحرية) على الناس، ولا تكون حرية طاغية هادمة جائرة.. تبتلع حقوق المطيعين لله، وتخدش حياءهم وعفتهم، وتفرض عليهم -بلسان الحال في السلوك، وبلسان المقال في الإعلام- أن يتجهوا إلى الرذيلة، وأن تضيع جهودهم التي بذلوها في تربية أسرهم على الأخلاق والفضيلة!!
إننا لا نطالب أحدًا بترك آلياته وأساليبه بالجملة، لكنَّا نقول له ولكل المسلمين: إن الرجوع إلى الكتاب والسُّنَّة هو الأجدى من الحفاظ على التقاليد والعادات التي ألبست لباس عبادات، وإن الوسائل التي يشوبها غبشٌ كثير، يجب -بمنطق الإسلام- أن يبحث المؤمنون عن وسائل بديلة تخلو من هذا الغبش الذي يفسد البواعث والغايات. ولماذا لا تكون هناك (موالد) أو (مؤتمرات) تخضع سلفًا لضوابط شرعية وعملية، ويتحدد لها برنامج معرفي وعملي ينتهي المجتمعون إلى الالتزام به والدعوة إليه بين غيرهم؟!
لقد قدِّر لي أن أحضر مع فضيلة الإمام الدكتور محمد مختار المهدي مؤتمرًا عن (القدس) بالجزائر العاصمة.. وكم كان رائعًا أن نرى الجميع يستشعرون المسئولية نحو فلسطين والقدس والمسجد الأقصى.. وقد خصصت جلسات لتوزيع المسئوليات، ومن بينها جلسة خاصة بجمع التبرعات لبناء ما هدمه الصهاينة من أركان المسجد الأقصى، محاولين أن يخدعوا المسلمين السُّذَّج الذين لا يعرفون حدود المسجد الأقصى، ويكادون يحصرونها في (قبة الصخرة). وفي هذه الجلسة أمكن جمع تسعة ملايين دولار، كما التزم كثيرون، وعلى رأسهم الجمعية الشرعية بتنفيذ مشروعات لصالح أهل القدس. فلماذا لا نطوِّر موالدنا ومؤتمراتنا إلى برامج وتبعات ومسئوليات عملية يتقاسمها القادرون من المجتمعين؟
ولماذا لا يكون لكل (مولد - مؤتمر) إسهام في تحقيق التقدم العلمي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.. وصولاً إلى (الإسهام السياسي) الذي يركز بعضهم عليه، متجاهلين أن القرارات السياسية لا يمكن أن تكون فاعلة إلا إذا وقفت على أرضية فكرية وعلمية واجتماعية واقتصادية صلبة؟!!
وإنه لمن أفضل ما يحققه المخلصون في حبِّ النبي u، وفي حبِّ (الإسلام) أن تتشكل لجان على مستوى القاعدة الشعبية، والمستويات الفوقية؛ للبحث عن إطار جديد لموالدنا ومؤتمراتنا.. إطار يجمع بين توعية القلوب وتزكية النفوس وتحقيق مقاصد الشريعة وآمال الأمة المسلمة.. التائهة.. الباحثة عن الطريق.
وأخيرًا.. لقد عشنا كثيرًا في مواسم الموالد، وشبعنا كلامًا وضجيجًا حتى التخمة، حتى مَلَلنا... فمتى نعيش -أيها الكرام- موسم الحصاد؟!!
د. عبد الحليم عويس
التعليقات
إرسال تعليقك