ملخص المقال
اكتسبت حركة النفاق مع الوقت مزيدا من الخبرة في التخريب من داخل الصف المسلم، وأضحت ذات خطورة بالغة على الدعوة الإسلامية
ظل المنافقون يعملون ضد الإسلام، من داخل صفوفه، منتهزين أية فرصةٍ لتحقيق أهدافهم، وللتعبير عن قلقهم وازدواجيتهم، وليس أدلّ في هذا المجال من حادثة مسجد الضرار التي أعقبت عودة المسلمين من تبوك عام ٩ للهجرة.
إن مغزى الحادثة يتبدى من الاسم الذي أطلقه القرآن الكريم عليها وعلى أصحابها {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 107، 108].
ويروي المؤرخ الطبري في كتابه (تاريخ الرسل والملوك) أن الذين بنوه اثنا عشر رجلاً على رأسهم خذام بن خالد، أحد بني عمرو بن عوف، الذي تبرع بإخراج المسجد من داره، ثم جاءوا إلى الرسول r وهو يتجهز لغزوة تبوك فقالوا: "إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه". فأجابهم الرسول r: "إني على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه". لكنه ما إن قفل عائدًا من غزوته تلك وأصبح على مقربة ساعةٍ من المدينة، حتى جاءه الوحي الأمين بحقيقة ما كان يرمي إليه أولئك الرجال المنافقون في بناء مسجدهم ذلك ودعوتهم الرسول r لمباركته!! فما لبث r أن استدعى اثنين من أصحابه وقال لهما: "انطلقا إلى المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرّقاه". فخرجا مسرعين حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرقاه وهدماه حتى تفرّق عنه أصحابه.
وقد سئل عاصم بن عدي: لم أرادوا بناءه؟ فقال: كانوا يجتمعون في مسجدنا، فإنما هم يتناجون فيما بينهم ويلتفت بعضهم إلى بعض، فيلحظهم المسلمون بأبصارهم، فشقَّ ذلك عليهم وأرادوا مسجدًا يكونون فيه لا يغشاهم فيه إلا من يريدون ممن هو على مثل رأيهم. فكان أبو عامر يقول: لا أقدر أن أدخل مربدكم هذا، وذاك أن أصحاب محمد يلحظونني وينالون مني ما أكره. قالوا: نحن نبني مسجدًا تتحدث فيه عندنا.
ويروي البلاذري عن سعيد بن جبير أن بني عمرو بن عوف ابتنوا مسجدًا في قباء فصلى بهم رسول الله r فيه، فحسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف فقالوا: لو بنينا أيضًا مسجدًا وبعثنا إلى رسول الله r يصلي فيه كما صلى فيه مسجد أصحابنا. ولعل أبا عامر -الذي كان قد فرَّ من الله ورسوله إلى أهل مكة ثم لحق بالشام فتنصّر، وأقسم أن يحارب الرسول حيثما وجد فرصة لذلك- أن يمر بنا إذا أتى من الشام فيصلي بنا فيه.
ويبدو من دراسة هذه الحادثة أن حركة النفاق كانت قد أتقنت خلال سني الدعوة الطويلة مزيدًا من الأساليب لتخريب المجتمع الإسلامي من الداخل، بعد أن أعيتها كل الحيل السابقة. وها هي الآن تسعى في ظاهر الأمر إلى مزيد من الاندماج في المجتمع الإسلامي، وإلى اعتماد مؤسساته نفسها كالمسجد الذي هو رمز العبادة الإسلامية وحرمها؛ للوصول إلى أهدافها بضمان أكبر حيث سيحقق لها ذلك العمل خفاءً أكثر ويظهر من نياتها وأعمالها ما هو طيب مقبول، ولكنه سيؤدي في الوقت نفسه إلى تمزق وانشقاق في قلب المجتمع الإسلامي.. وفي أي شيء؟ في المسجد الذي هو مركز المجتمع المسلم ومنطلق أنشطته المختلفة، وقلبه الذي لا يكف عن الخفقان.
ومن هناك، وبعد المباركة التي سيمنحها الرسول r مسجدهم هذا، سينطلق المنافقون وقد أبدوا نية حسنةً وبنوا مسجدًا جديدًا لاستقطاب العناصر القلقة في المجتمع الإسلامي، وضمها إلى صفوفهم وتوسيع قواعدهم بين المسلمين، وإطلاق الشائعات وبذل نشاط واسع من هذا المسجد بقيادة زعيمهم الذي كان قد لحق بالشام وتنصّر!! للاتصال بغير المسلمين كذلك لرسم الخطط وتحديد أساليب العمل، وهم في حماية من غضبة المسلمين وفي أمانٍ من الانكشاف، ما داموا يمارسون نشاطاتهم تلك من قلب المسجد الذي باركه الرسول r. والذي يؤكد هذا أن تصاعد نشاط المنافقين في أقوالهم وأعمالهم، والذي رافق محنة تبوك جاء موازيًا لبناء هذا المسجد الذي تم إنشاؤه قبيل التجهز لغزو الروم. وعندما هُرع مبعوثا الرسول r لتهديم بؤرة النفاق هذه وجدا في باحتها أولئك الذين أقاموها.. وربما كانوا يمارسون من هناك نشاطهم المسموم.
وهذا الأسلوب في العمل التخريبي، وهو اعتماد قيم مؤسسات مجتمع أو عقيدة ما لتخريب أسس ذلك المجتمع وعقائدياته وتدمير معنويات أصحابه، معروف على مر العصور، وليست هذه التجربة التي فضحها القرآن الكريم إلا علامة تحذير دفعت المسلمين وتدفعهم دومًا إلى مزيدٍ من اليقظة والحذر.
المصدر: موقع مجلة الفكر الحر.
التعليقات
إرسال تعليقك