ملخص المقال
حول تدهور الحضارات مقال بقلم الدكتور عماد الدين خليل، يتناول فيه معنى تدهور الحضارات وهل يحدث فجأة وهل لبعض الحضارات حصانة
لدى التحدث عن عوامل تدهور الحضارة الإسلامية، لا بد من التأكيد على جملة من الملاحظات الضرورية بهذا الخصوص.
وأولى هذه الملاحظات هي أن التدهور لا يعني بالضرورة السقوط النهائي، والانسحاب من الميدان، على الأقل بالنسبة لحضارة كالحضارة الإسلامية، تستمد مقوماتها في المنشأ والصيرورة من مرتكزات هذا الدين متمثلة بكتاب الله سبحانه وسنة رسوله r، اللذين يتضمنان شبكة الشروط المناسبة، والمحفزة للفعل الحضاري، بخلاف العديد من الحضارات الأخرى التي اختفت بالكلية عوامل أو شروط نشوئها، وأصبح مستحيلاً استعادة قدرتها على الفعل كَرَّة أخرى؛ فالذي يتعرض للتدهور بالنسبة للحضارة الإسلامية هو الفعل الحضاري نفسه، وليس أصوله العقدية بطبيعة الحال.
والملاحظة الأخرى هي أن التدهور لا يحدث فجأة، أو عبر فترات زمنية قصيرة، وإنما تتجمع روافده من هنا وهناك خلال أزمان متطاولة في أغلب الأحيان قد تستغرق القرون الطوال. هذا إلى أن التدهور لا ينفرد به عامل واحد، وإنما هو وليد جملة من العوامل التي يتداخل بعضها مع البعض الآخر، بحيث يصعب أحيانًا فك الارتباط بينها من أجل تبين الحجم الحقيقي لكل منها.
إن ظاهرة التدهور الحضاري تتشكل ببطء وعلى مكث، وتسهم في صنعها عوامل ومؤثرات شتى؛ عقدية وسياسية وإدارية واقتصادية واجتماعية وجغرافية وأخلاقية إلى آخره.. ويمكننا في ضوء ذلك أن نضع أيدينا على حشود السلبيات المدمرة التي يمكن أن تتمخض على سبيل المثال عن أية تجربة سياسية أو إدارية تلتقي في قطبيها (القيادة) الظالمة و(القاعدة) الساكنة، أو أية ممارسة اجتماعية يتقابل فيها بشكل حاد الترف والحرمان، أو أي مجتمع يغفل عن أهدافه العقدية الأساسية التي قام بها، ولأجلها، وتفشو فيه الممارسات اللا أخلاقية الهابطة، أو أية حقبة يغيب فيها التوازن بين الثنائيات التي ينطوي عليها الوجود الحضاري، إلى آخره.
هذه الحشود التي تبدأ جزئيات وتفاصيل يومية صغيرة، متقطعة، مستعصية على الرؤية والضبط والتحديد، ولكنها تتجمع شيئًا فشيئًا لكي ما تلبث أن تشكل تيارات خطيرة جارفة تدمر في طريقها كل شيء، وتوقف كل نشاط فعال، وتصيب بالتفكك والاضمحلال كل إنجاز أو إبداع.
إن منحنى الإنجاز الحضاري، بمفهومه الشامل، يرتبط بهذه المسائل جميعًا، وحيثما تراكمت وطغت السلبيات المتمخضة عن هذه المسلمات، كفت طاقة الإنسان والجماعة عن مواصلة صعود المنحنى، وآل الأمر إلى الهبوط والتدهور.
إن التفسير الأحادي لسقوط الحضارات أو تدهورها؛ أي رد الظاهرة إلى عامل أو مؤثر واحد، كذلك الذي اعتمدته المثالية، أو المادية التاريخية، أو التفسير الاقتصادي، أو الجغرافي، أو العرقي.. إلى آخره، إنما هو تقليد فكري عتيق عفا عليه الزمن، ولا بد من الاستعاضة عنه بالتفسير الشمولي الذي يستقصي العوامل والمؤثرات جميعًا، وهو أقرب التفاسير للتصور الإسلامي الذي يضع الأمور كافة في مكانها الحق.
أما الملاحظة الثالثة، فهي أن الحضارات كافة، بما فيها الإسلامية، عرضة لتحديات التدهور والانهيار بمجرد غياب شروط الفعل الحضاري، أو فقدانها الحد الأدنى من التوتر المطلوب، وليس ثمة حصانة إلهية مسبقة لهذه الحضارة أو تلك بسبب نزوعها الديني أو الإيماني؛ فإن استمرارية الحضارة رهن بما يصنعه أبناؤها أنفسهم في ضوء جملة من الضوابط والمعايير والعوامل التي إذا أسيء التعامل معها سيقت الحضارة إلى مصيرها المحتوم. فليس ثَمَّة في سنن الله في الخلق ونواميسه في العالم محاباةٌ أو مداجاة، وحاشاه، وإنما هي الأسباب التي تقود إلى نتائجها المنطقية العادلة.
المصدر: موقع مكتبات مجلة الفكر الحر.
التعليقات
إرسال تعليقك