ملخص المقال
وداعا أيها الحبيب الغالي، مقال للكاتبه هدى النمر تحكي فيه آخر ساعات في عمر سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته.
أربعة أيام قبل غروب الشمس المحمدية .. اشتد الوجع بالحبيب حتى لم يعد قادرًا على إمامة الناس في الصلاة "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، ويمر يومان، فيجد الحبيب في نفسه شيئًا من الخفة؛ فيسرع إلى مهوى فؤاده وقرة عينه، إلى الصلاة.
خرج الحبيب صلى الله عليه وسلم لصلاة الظهر مستندًا إلى رجلين من المسلمين! وهو الطود الشامخ الذي كان إذا مشى فكأنما ينحدر من عَلٍ لسرعة خطوه صلى الله عليه سلم.
كان أبو بكر يؤم الناس، فهمَّ الصديق أن يتأخر ليؤم المصطفى المصلين، فأشار إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الزم مكانك وجلس عليه الصلاة والسلام.
نعم، جلس النبي الحبيب المصطفى الذي كانت قدماه تتفطر من كثرة وقوفه مصليًا ولصدره أزيز كأزيز المرجل، وهو الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فأبى إلا أن يكون عبدا شكورًا.
يا حبيبي يا سيد الخلق وأعظمهم
تفطرت قدماه واشتد به الوهن فلم يعد قادرًا على الوقوف! جلس عليه الصلاة والسلام، إلى يمين أبي بكر، فكان الصديق يقتدي بصلاة الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويُسمِع الناس التكبير.
(2)
قبل يوم من الرحيل ..
بينما المسلمون في صلاة الفجر، امتدت يده الكريمة، عليه الصلاة والسلام اليد التي طالما وسعتْ أكُف العبيد واليتامى والفقراء بل حتى البهائم، تمسح عليهم وتواسيهم، امتدت يده الشريفة صلى الله عليه وسلم لتزيح ستر حجرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وابتسم ..
ابتسم الثغر الوضيء واستنار الوجه الشريف لكأنه قطعة قمر؛ قد بلّغَ الرسالة .. وأدى الأمانة.
ابتسم لتلك الجموع .. ألوان شتى، وقبائل متفرقة، وأنساب متباعدة ومواطن مختلفة، وَحَّدهم دين لو انتزعت أرواحهم انتزاعًا من صدورهم ما تزحزحوا عنه قيد أنملة.
أشداء على الكفار وعلى أعداء الله والرسول رحماء بينهم .
(3)
ابتسم الحبيب، ابتسامة مشرقة في خفوت، لتخط خطوطها في وجه بدا في أحلك ساعات المرض، كبدر شاحب يودع آخر أيامه، وأطلت من عينينه الكريمتين، عينيه اللتين أرهقهما كثرة البكاء وطول السهر، تارة من خشية الله، وأخرى رحمة بأمته وخوفًا عليهم.
أطلت تلك النظرة، نظرة الرضا والحب والإشفاق والشوق .. قد رضي عن أصحابه ورضوا عنه، ورضي عن ربه ورضي الله عنه، وهو المرضي عنه عليه الصلاة والسلام.
واشتاق إلينا .. حتى في آخر لحظاته .. كنا نشغل تفكيره "وددت أن أرى إخواني .." أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ "لا أنتم أصحابي. أما إخواني فقوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني".
(4)
وهمَّ المؤمنون أن ينفتلوا من صلاتهم، فرحًا برؤية الحبيب صلى الله عليه وسلم فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم، وغاضت الابتسامة شيئا فشيئا .. وأرخى الحبيب الستر، ولم يرفعه مرة أخرى ..
لعمري لو كان الستر إنسًا لبكى حنينًا ليد الحبيب، كما حن إليه الجذع الذي كان يخطب مستندًا إليه.
وعاد الحبيب إلى داخل الحجرة .. وبين دموع وزفرات، نتبع الحبيب لنشهد معه آخر السويعات في حياته العظيمة.
(5)
بدأت ساعة الاحتضار، فأسندته السيدة عائشة -رضي الله عنها- إليها وبين يديه إناء فيه ماء، فجعل يدخل يده الشريفة في الماء فيمسح بها وجهه الشريف.
جعل الحبيب يمسح الوجه الشاحب الذي يتفصد عرقًا كحبات اللؤلؤ المنثور، وجعل يردد "لا إله إلا الله .. إنَّ للموت سكرات" ويردد بصوت ضعيف "لا إله إلا الله"
الصوت الذي لطالما أطلقه عاليًا ليجلجل في أسماع الكفار والمشركين "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب"
"والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الدين ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه"
صلى الله عليك وسلم يا حبيب القلوب ومهوى الأفئدة.
(6)
وحانت لحظة الوداع، وآن للجسد المكدود أن يستريح، وشخَصَ بصر الحبيب نحو السماء، وتحركت شفتاه "مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى"
ورفع يديه الشريفتين "بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى" .. "بــــ..ـــل الـ... رفيـ..ق الـ..أ..علـ..ى"
وخفت الصوت، وسكنت الأنفاس اللاهثة، ومالت اليدان، وانحنى الرأس، وفاضت الروح الطاهرة. عادت إلى حيث مستقرها {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}[الفجر:27]، وعلا صوت البكاء، وكانت الصدمة.
(7)
بكت النساء لعظم الهول، واضطرب الناس في المسجد، حتى سيدنا عمر الفاروق أسد الله وعدو الشيطان، أخذ الذهول بمجامع لبه، وراح يردد أن الحبيب لم يمت وإنما ذهب إلى ربه كما ذهب موسى، وسيعود كما عاد
وفي قرارة نفسه كان يدرك أن الحبيب رحل، رحل ولن يعود، ولكن .. كان الخَطب أعظم من أن يتحمله حتى رجل في بأس عمر
(8)
وحده الصديق، رفيق الدرب، وخليل الدين، والصاحب في الشدة واللين، وحده انسل من بين الناس، حتى دخل الحجرة إلى حيث الجسد الطاهر مسجى، فكشف عن الوجه الشريف الستر، وتأمل تلك الملامح النورانية المطمئنة النائمة في سلام أبدي، ثم أكب عليه، يقبله ويبكي .. ويبكي .. ويبكي "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طبت حيا وميتا، طبت حيا وميتا، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها " ..
(9)
واحبيباه، وارسولاه، واسيداه، سلام الله عليك و صلواته، طبت حيا وميتا يا من أعطاك الله دعوة لا ترد، فأبيت أن تطلبها لنفسك، أو لدنياك. أبيت إلا أن تختبئها عند ربك، و لمن يا حبيب القلوب؟! لأمتك، آثرت أن تختبئها شفاعة لأمتك يوم القيامة، "إن الله لم يبعث نبيًا إلا وأعطاه دعوة، وإن الله أعطاني دعوة فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة"
يوم يقول كل إنسان: نفسي، نفسي، إلا أنت أيها الحبيب، فتقول: "أمتي .. أمتي .. يا رب سلم، يا رب سلم، أمتي .. أمتي".
(10)
وينزل الروح الأمين في كوكبة من الملائكة، لتشييع خاتم النبيين، وسيد المرسلين، ورحمة الله للعالمين.
فاللهم صلِّ وسلم وبارك على الحبيب المصطفى، عدد مخلوقاتك، ومداد كلماتك، وارزقنا اللهم اتباع سنته، ورفع رايته، واحشرنا في زمرته، وتحت لوائه، وجُدْ علينا يا مولانا بصحبته الشريفة في الفردوس الأعلى .. آمين .
التعليقات
إرسال تعليقك