الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
يعرض المقال قصة إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو أول من أسلم من الرجال برسول الله، فكيف أسلم أبو بكر؟ وما نستفاد من إسلامه؟
ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان يصغره بعامين، أي كان في الثامنة والثلاثين من عمره، وكان رضي الله عنه أحبَّ الرجال إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي دلَّنا على قدر هذا الحب الحوار اللطيف الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بن العاص رضي الله عنه بعد ذلك بسنوات، عندما سأله عمرو عن أحب الناس إليه .. يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيتُه فقلتُ: "أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: "عَائِشَةُ". فقلتُ: من الرِّجال؟ فقال: "أَبُوهَا". قلتُ: ثمَّ مَنْ؟ قال: "ثمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ". فَعَدَّ رِجَالاً" [1].
ماذا كان ردُّ فعل الصديق رضي الله عنه عندما سمع بأمر هذا الدين الجديد؟
لقد قَبِلَه دون تردُّد، حتى إن هذا الأمر لفت نظر الرسول صلى الله عليه وسلم، وظلَّ يتذكَّر هذا الموقف للصديق، ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم مُعلِّقًا على ذلك: "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلاَمِ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ (الوقفة كوقفة العاثر، أو الوقفة عند الشيء يكرهه الإنسان) وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ، مَا عَتَّم (أبطأ وأخَّر) حِينَ ذَكَرْتُهُ لَهُ مَا تَرَدَّدَ فِيهِ" [2].
وهذا النصُّ السابق -وإن كان مرسلاً - فإن له شواهد كثيرة؛ منها ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "أَلَسْتُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ .." [3]. وعن عامرٍ، قال: سَأَلْتُ ابن عباس رضي الله عنهما، أَوْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَيُّ النَّاسِ كَانَ أَوَّلَ إسْلاَمًا؟ فَقَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه:
إِذَا تَذَكَّرْتُ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ *** فَاذْكُرْ أَخَاك أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلاَ
خَيْـــرَ الْبَرِّيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا *** إِلا النَّبِيُّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلاَ
وَالثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ *** وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلاَ [4].
وقفات مع إسلام أبي بكر رضي الله عنه
ما تردَّد، وما نظر، وما قال آخذ يومًا أو يومين للتفكير؛ بل أسرع إلى الإسلام إسراعًا، وهو أمر لافت للنظر، فأحيانًا بعض الرجال يعتقدون أنه من الحكمة التروي، وعدم التسرُّع، وأخذ وقت طويل في التفكير قبل الإقدام على خطوة من خطوات الحياة، خاصةً لو كانت الخطوة مصيرية، وهذا قد يكون صوابًا في بعض الأحيان؛ ولكن في أحيان أخرى -عندما يكون الحقُّ واضحًا جليًّا مضيئًا كالشمس في كبد السماء- يُصبح التروي حماقة، وتُصبح الأناة كسلاً، وتُصبح كثرة التفكير مذمَّة.
هذا مثلاً ما حدث مع قوم نوح؛ فقد كانوا يعيبون على الذين آمنوا مع نوح عليه السلام أنهم تَسَرَّعوا في الأمر ولم يتفكَّرُوا؛ قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27]، فبادي الرأي معناها: أولئك الذين يُبدون آرائهم لأول وهلة دون تفكير وتمحيص [5].
والحقُّ أنه لمن البلاهة أن ترى الشمس ساطعة فتُسأل عنها، فتقول: دعوني أفكر أولاً وأتروي هل هي ساطعة أم لا. أو ترى نبعًا صافيًا سلسبيلاً في الصحراء، وأنت على مشارف الهلكة من العطش، فتأخذ يومًا أو يومين تُفَكِّر هل تشرب أم لا؟!
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرى الحقَّ بهذه الصورة؛ فلماذا التردُّد والانتظار؟ إن الانتظار ليس من الحصافة؛ وهو الرجل الحصيف الرزين، والتردُّد ليس من الحكمة وهو الرجل الحكيم العاقل؛ لقد عُرض عليه الإسلام غضًّا طريًا واضحًا، فأنار الله قلبه بنور الهداية، وأدرك الحقَّ من أول وهلة، فلماذا الانتظار؟
وعندما حدث خلاف بين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبين أحد الصحابة رضي الله عنهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي". ثمَّ أكمل صلى الله عليه وسلم مسوِّغات أن يتركوا له صاحبه فقال: "إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جميعًا، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ" [6].
مِن الناس مَنْ آمن بعد أيام من سماع الدعوة، ومنهم مَنْ آمن بعد سنوات، ومنهم مَنِ انتظر حتى تم الفتح ثمَّ آمن، ومرَّت الأيام وصَدَّقَ المكذبون والمعاندون، ودخلوا الإسلام؛ لكن كان أبو بكر هو الفائز بأجر السبق .. {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10-12].
الأيام التي تمر لا تعود أبدًا إلى يوم القيامة، ولا شكَّ أن أولئك الذين تأخَّر إسلامهم شهورًا وسنوات كانت الحسرة تأكل قلوبهم على زمان قضوه في ظلمات الكفر؛ لكن الحسرة ما أعادت الزمن، ولا شكَّ أن الذي سارع إلى الخيرات استمتع بإيمانه، ونال الأجر الكبير، وأسلم بإسلامه كثيرون، وحقَّق درجة لا يقدر على تحقيقها جلُّ مَنْ لَحِق. قال تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].
إن سرعة إيمان أبي بكر تحتاج إلى دراسة، فالمسألة وإن كانت مرتبطة بالحبِّ العميق الذي كان بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هناك أسبابًا منطقية كثيرة تجعل إسلام الصديق بهذه السرعة أمرًا عقليًّا مقبولاً؛ فالناظر إلى أخلاق الصديق رضي الله عنه يجد أن فيها اقترابًا عجيبًا من أخلاق الأنبياء.
ويكفي أن نضرب مثالاً واحدًا يُدلِّل على هذا التقارب، فقد وصفت خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها: "إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ" [7].
وللعجب فإن ابن الدغنة -كما سيتبين بعد ذلك- وصف الصديق رضي الله عنه بالصفات نفسها دون أن يسمع من خديجة رضي الله عنها، فكان من كلامه للصديق: "إِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ" [8]. ولم يُوصف بهذه الصفات مجتمعة إلا الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، بما لا يدع مجالاً للشكِّ أن الاثنين يسيران على طريق واحد، وبمنهج أخلاقي متقارب للغاية.
وأضِفْ إلى ذلك أخلاق التواضع، والكرم، والعفَّة، والبعد عن أماكن الفساد، والمروءة، وخدمة الناس، ويكفينا أن نعرف أن كليهما لم يسجد لصنم في حياته قط [9]، وأن كليهما كذلك لم شرب خمرًا قط، لا في جاهلية ولا في إسلام [10].
ولعلَّ هذه الأخلاق المتقاربة كانت أكبر العوامل التي أدَّت إلى إيمان الصديق رضي الله عنه بهذه السرعة، وستكون هناك أسباب أخرى سنتعرَّف عليها من خلال قصته في السيرة النبوية إن شاء الله.
________________________
[1] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة ذات السلاسل، (4100)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة ري الله عنهما، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، (2384).
[2] البيهقي: دلائل النبوة 2/164، وابن كثير: السيرة النبوية 1/433، والبداية والنهاية 1/121، 3/37، والذهبي: تاريخ الإسلام، 1/79، وقال المحقق: مرسل: أخرجه ابن إسحاق كما في البداية... والإسناد مرسل، فإن ابن إسحاق لم يدرك أحدًا من الصحابة.
[3] الترمذي: كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (3667)، وابن حبان (6863)، وقال شعيب الأرناءوط: رجاله ثقات. وقال محمد بن رزق طرهوني: وهذا إسناده صحيح. انظر: صحيح السيرة النبوية 1/386، وقال الصوياني: حديث صحيح الإسناد رواه الترمذي وابن حبان. انظر: السيرة النبوية 1/74.
[4] الحاكم (4414)، والطبراني: المعجم الكبير (12592) وابن أبي شيبة: المصنف (33885)، وقال الصوياني: حديث حسن. انظر: السيرة النبوية 1/74.
[5] انظر: الماوردي: النكت والعيون 2/465، والبغوي: معالم التنزيل في تفسير القرآن 2/445، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن 9/24.
[6] البخاري: كتاب التفسير، سورة الأعراف، (4364) عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
[7] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (161).
[8] البخاري: كتاب الكفالة، باب جوار أبي بكر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعقده، (2175) عن عائشة ل.
[9] ذكر ابن الجوزي أبا بكر الصديق رضي الله عنه فيمن رفض عبادة الأصنام في الجاهلية، انظر: تلقيح فهوم أهل الأثر ص333.
[10] قال أبو داود: عثمان وأبو بكر رضي الله عنهما تركا الخمر في الجاهلية. أبو داود في سننه (4502)، وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "حَرَّمَ أَبُو بَكْرٍ الْخَمْرَةَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَشْرَبْهَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ". أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 7/160، وعنها ل قالت: والله ما قال أبو بكر شعرًا قط في جاهلية ولا إسلام، لقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية. انظر: ابن عساكر: تاريخ دمشق 30/333، 334، وقال السيوطي: أخرج ابن عساكر بسند صحيح عن عائشة ل قالت: والله ما قال أبو بكر شعرًا قط... وأخرج أبو نعيم بسند جيد عنها، قالت: لقد حرَّم أبو بكر الخمر على نفسه في الجاهلية. انظر: السيوطي: تاريخ الخلفاء ص29.
التعليقات
إرسال تعليقك