الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
مظاهر الرقي الحضاري ببغداد، مقالٌ يعرض مدى تقدُّم ورقي المجتمع الإسلامي ببغداد زمن العباسيِّين، وسَبْقِهِ للغرب في كثيرٍ منها، فما أغربها من مظاهر
أهم مقتطفات المقال
وهكذا وصلت الحضارة العربيَّة ببغداد إلى درجة الإشباع في كلِّ ناحيةٍ من نواحي الحياة، ويُمكننا أن نلمس ذلك في سلوك الناس وآدابهم، وفي قصورهم الضاحكة ونعيمهم المقيم، ولياليهم المشرقة، وبيوتهم المموَّهة سقوفها بماء الذهب، المزيَّنة حيطانها بالفسيفساء الموزَّرة بالرخام الـمُفَوَّف، المحلَّاة بالصور والتماثيل.
الاعتناء باللحوم
من مظاهر الحضارة بمدينة بغداد أنَّ العباسيين كانوا يطعمون الفراريج الفستق المقشر، ويسقونها الحليب ليأكلوا لحمًا غريضًا طريًّا تشتهيه الأنفس، لا يُدانيه لحمٌ من اللحوم الأخرى، كما أنَّهم كانوا يعنون بالظباء فكانوا يأكلون لحومها ويشربون ألبانها، ولعلَّ من أغرب مآكلهم التي تدلُّ على مبلغ تحضُّرهم وانغماسهم في الترف، أنَّهم كانوا يبذلون جهدهم في إعداد أكلات من أدمغة الطيور وأمخاخها، وكبود الدجاج وألسنة السمك والطيور ولو كلفت مبالغ طائلة.
يقدمون لكلابهم لحم الدجاج والضأن
ومن الغريب أنَّ العرب عنوا بالكلاب والدوابِّ أكثر من عناية الأوربيِّين بها، ولئن عني الأوربيُّون اليوم بحمَّامات الكلاب وملابسها وعطورها، فقد عني العباسيُّون بكلابهم ودوابِّهم؛ فكانوا يُقدِّمون لكلابهم لحم الدجاج ولحم الضأن، ويُطعمون حميرهم السمسم، كما عُنوا بأنساب الخيل والأبل، وبحثوا في أنساب الحمام والطيور، وخصصت في بعض الوقفيَّات أوقاف وخيرات على الفقراء والمساكين، أُطعم منها السنانير وحيتان الشط والطير من اللحم والخبز والشيلم، كما جاء ذلك في وقفيَّة مرجان مؤسِّس المدرسة المرجانيَّة ببغداد.
غلمان بأكواب وأباريق
يُضاف إلى ذلك أنَّ الحضارة العربيَّة أوحت إلى العباسيِّين أن يتفنَّنوا في الطهي، ويُتقنوا أحسن أنواع الأطعمة، وأن يُؤلِّفوا الكتب المختلفة في الطبخ والطبيخ، وأن يقتنوا صحاف الذهب وأجمل أواني الفضة والبلور والعاج والنحاس، وكانت ملاعقهم من الذهب والفضة والزجاج والصدف، وكان يطوف على المدعوين غلمان أو قيان بأكواب وأباريق من فضَّة أو ذهب، وكانوا يغسلون أيديهم في طسوت مفضَّضة وبالصابون الرقي، وكان طعامهم يتألَّف من عدَّة أصناف، يبدأ بالفاكهة وينتهي بالحلوى.
زرياب
وكانت الأصناف تُقدَّم بعضها تلو بعض، وقد أخذ الأوربيُّون هذه العادة من العرب فيما يظهر، كما أصبح للأكل والولائم والموائد عندهم آدابٌ خاصَّةٌ حفلت بها الكتب العربيَّة، وقد استطاع أبو الحسن علي بن نافع البغدادي الملقَّب (زرياب) أن يحمل معه إلى الأندلس ضروبًا من الفنون والرسوم والآداب إلى جانب الغناء الذي تعلَّمه ببغداد؛ فقد زاد في أوتار عوده وترًا خامسًا، واخترع مضربًا للعود من قوادم النسر بعد أن كان يُتَّخذ من الخشب.
واستطاع زرياب أن يُعلِّم أهل الأندلس أنواع الطهي البغدادي وينظم لهم الموائد؛ فجعلهم يبدأون بالحساء ثم اللحوم والطيور وينتهون بالحلوى، كما جعلهم يتَّخذون مفارش الموائد من الجلد الرقيق، ويستعملون آنية الزجاج الثمين بدلًا من آنية الذهب والفضة، وعلَّمهم استعمال نوعٍ خاصٍّ من معاجين الأسنان، تُتَّخذ من بعض أنواع النباتات يُعجن مع موادٍّ أخرى لتنظيف الأسنان.
عُلفت اللوز وشربت ماء الرمان
ويذكر ابن أبي أصيبعة الخزرجي أنَّ مائدة الطبيب البغدادي بختيشوع بن جبرائيل قدم فيها في يومٍ من أيام الصيف فراريج مشويَّة كانت تُعلف اللوز وتُسقى ماء الرمان، وقدمت مائدةٌ أخرى في يومٍ من أيام الشتاء فراريج كانت تُعلف الجوز وتُسقى اللبن الحليب.
500 دينار أسبوعيًّا للفاكهة
وكان ترف الوزراء وبذخهم عجيبًا؛ فكان الوزير ابن مقلة يُنفق 500 دينار في الإسبوع على الفواكه فقط، وكان الوزير الحسن بن العباس ينصب الموائد يوميًّا في داره ولكلِّ من دخلها من الموظفين أو العامَّة، وقد يصل عددها الأربعين مائدة، وكان الوزير فخر الدولة بن جهير يحضره الأكابر وكان من عادته أن يُنادم الحاضرين على الطبق ويُشاغلهم حتى يأكلوا.
قصر من السكر
ورُوي أنَّ الوزير الحسن بن العباس أقام مرَّةً في بستانه دعوةً لأحد الأمراء البويهيين في يومٍ بهيجٍ من أيام الربيع، فعمل له قصرٌ فخمٌ من السكر يتكوَّن من أربعة طوابق، وقد ظهر فيه الغلمان والجواري من السكر وهم يرفلون بالحلل ويحملون اللعب والملاهي المختلفة، كما ظهر القصر وطوقه أصناف الطيور والحيوانات والوحوش من السكر، ومن خلفهم رجال ينفخون بالأبواق والمزامير، فكان كلُّ حيوانٍ يخرج منه صوتٌ شبيهٌ بصوته، كلُّ ذلك من السكر الملوَّن بأنواع النقوش والأصباغ، وبعد الفراغ من الدعوة المذكورة طاف الحاضرون في البستان، فأُعجبوا بهذا "القصر السكر" الذي انهال عليه الناس تهديمًا وأكلًا.
حضارة تصل إلى درجة الإشباع
وهكذا وصلت الحضارة العربيَّة ببغداد إلى درجة الإشباع في كلِّ ناحيةٍ من نواحي الحياة، ويُمكننا أن نلمس ذلك في سلوك الناس وآدابهم، وفي قصورهم الضاحكة ونعيمهم المقيم، ولياليهم المشرقة، وبيوتهم المموَّهة سقوفها بماء الذهب، المزيَّنة حيطانها بالفسيفساء الموزَّرة بالرخام الـمُفَوَّف، المحلَّاة بالصور والتماثيل.
مجلس لم ترَ العرب ولا العجم مثله
وقد اشتهرت قصور الخلفاء ومجالسهم بالعظمة والفخامة؛ فقد روى المؤرخون أنَّ الأمين بنى ببغداد مجلسًا لنفسه لم ترَ العرب ولا العجم مثله، قد صُوِّرت فيه كلُّ التصاوير، وذهَّب سقفه وحيطانه وإيوانه، وكان الإيوان شاهقًا أفيح فسيحًا، يُسافر فيه البصر، وجُعِل كالبيضة، ثم ذهب تذهيبًا محلَّى بالإبريز المخالف فيه باللازورد، وكان في المجلس أبواب عظام، ومصابيح غلاظ تلألأ فيها مسامير الذهب قد قنعت رءوسها بالجوهر النفيس، وقد فرش بفرش كأنَّها صُبغت بالدم، منقَّشة بتصاوير الذهب وتماثيل العبان ونفذ فيها العنبر والأشهب والكافور المصعَّد، وعجين المسك.
مجتمع نظيف أنيق
وبلغ عدد الحمامات ببغداد إلى حدٍّ لا يكاد يُصدَّق، ولا عجب في كثرتها لضرورتها في مجتمعٍ نظيفٍ أنيق، وقد فصَّل الفقهاء والمشرِّعون أبواب النظافة والطهارة إلى درجةٍ لا نجد لها مثلًا عند أيَّة أمَّةٍ من الأمم.
وقد وصف القزويني -مدرِّس الشرابية بواسط- حمامات العراق فقال: "وبيوتها واسعةٌ جدًّا، وفرشها خصوصي، وكذلك تأزيرها وتحت كلِّ أنبوبةٍ حوضٌ حجريَّةٌ مثمَّنة في غاية الحسن، وسقفها جامات ملوَّنة؛ الأحمر، والأصفر، والأخضر، والأبيض على وضع النقوش، فالقاعد في الحمام كأنَّه في بيت مُدَبَّج".
وكانت بعض مجالس الغناء ببغداد لا تخلو أحيانًا من اللعب بالخيال أو خيال الظل، وهو عبارةٌ عن ألعابٍ كانت تظهر بالليل أو النهار على أزرٍ بيض، وتبرزها أضواء طائفة من الشموع في قاعات مظلمة.
الغلاميات
وإلى جانب ذلك كلِّه اتَّخذ الناس ببغداد الجواري وألبسوهنَّ الأقبية والمناطق وسموهنَّ الغلاميات، وأصبح الجواري في قصور الخلفاء يلبسن ملابس الغلمان، وازداد اختلاط الرجال بالنساء في القرن الرابع الهجري؛ حيث كان يحل في الدعوات والولائم محل ربَّة البيت نساءٌ من جواري ربَّة الدار، وكنَّ نساء مثقفات ومدرَّبات على أرقى الآداب الاجتماعيَّة، حائزات كل مظاهر الجمال والثقافة والفن، متعوِّدات على الحديث مع الرجال في غير وجل.
____________
المصدر: مقال "فصول من حضارة بغداد" لناجي معروف، مجلة المورد، مجلد (1)، العدد (3 – 4)، بغداد، 1972م.
التعليقات
إرسال تعليقك