الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
يتناول ابن فضلان في هذا الموضع من رسالته الأحوال السياسية لبلاد الخزر، خاصَّةً ما يتعلَّق برسوم ملك الخزر أو الخاقان وعلاقته برعيَّته.
العرب وبلاد الخزر
تعرَّف العرب على الخزر عن قرب؛ فقد كان مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية قد طاردهم إلى شمال الدربند، واحتل حاضرتهم آتل، إلَّا إنَّهم عادوا وتحصَّنوا في ما وراء جبال القفقاس، وردًّا على الضغط الإسلامي من قِبَل العباسيِّين من جهة، والضغط المسيحي من قِبَل بيزنطة، اختارت النخبة اليهوديَّة دينًا لها، وفشلت محاولات بيزنطة السياسيَّة تارةً والتبشيريَّة تارةً أخرى في دفعها إلى المسيحيَّة؛ حيث لم تنجح جهود القديس (كيرلس) في صرفهم عن اليهودية؛ فقد تهوَّدت هذه الدولة في عهد هارون الرشيد، واستمرَّت في مناوشتها للإسلام، وتحالفها مع بيزنطة حتى انهيارها، ولعلَّ اليهود الأوربيين -على الأقل يهود أوربَّا الشرقية- يرجعون بأصولهم إلى هذه الدولة بعد تمزُّقها، ولا يمتُّون بأيَّة صلةٍ أقواميَّة وسلاليَّة إلى ما سُمِّي "بني إسرائيل".
وصف ابن فضلان الوجه السياسي لبلاد الخزر
وقد حصل عند العرب بعض اللبس في أصول الخزر، فلم يكن هناك إجماع على أصولهم التي يرجعها البعض إلى أصول تركية، رغم أن ما يروى عن أديانهم ومؤسساتهم السياسية تجد ما يشابهها عند الشعوب التركية. أما ابن فضلان فيربطهم بعلاقة غامضة بالأتراك، ويرُكِّز في وصفه لهم الوجه السياسي، فيستغرق في وصف الملك ووظائفه وسلوكه أكثر ممَّا يُعطينا صورةً عن الحياة اليومية للخزريِّين.
فمَلِك الخزر يُسمَّى عندهم (خاقان) أو الخاقان الكبير، لا يظهر للجمهور إلَّا كلَّ أربعة أشهر حفاظًا -على ما يبدو- على المهابة، وله خليفةٌ أو نائبٌ يُسمَّى (خاقان به) يقود الجيوش ويسوسها ويُدبِّر أمر المملكة، ويُقدِّم كلَّ إشارات الطاعة للخاقان الأكبر؛ فلا يدخل عليه إلَّا حافيًا وبيده حطب يوقده بين يديه، بعدها يجلس على يمين سريره، ويخلفه رجلٌ يُقال له: كندر خاقان. ويخلف الأخير رجلٌ يُقال له: جاوشيغر.
وإذا مات الخاقان الأكبر (الملك الأكبر) يُبنى له دارٌ كبيرةٌ فوق نهر، ويجعلون القبر فوق ذلك النهر، ويقولون: "حتى لا يصل إليه شيطانٌ ولا إنسانٌ ولا دودٌ ولا هوام". وإذا دُفن ضربوا أعناق الرجال الذين دفنوه، حتى لا يُدرى مكان قبره.
ولملك الخزر خمسة وعشرون امرأةً من أبناء الملوك المجاورين، وإذا ركب ركب معه سائر الجيوش، ويكون بينه وبين المواكب ميل، ويخرُّ له ساجدًا كلُّ من صادفه في طريقه، ومدَّة ملكه أربعون سنةً، فإذا تجاوز هذه المدَّة قتلته رعيَّته وخاصَّته بحجَّة أنَّه سيُعاني نقصًا في عقله بعد ذلك.
ويُشير إلى بسالة جيوشهم، فإذا بعث الملك سريَّة لم تولِّ الدبر بوجه ولا سبب، فإذا انهزمت قُتل كلِّ من تراجع، فأمَّا إذا انهزم القوَّاد أو خليفة الملك، أحضر الملك نساءهم وأولادهم ووهبهم إلى غيرهم، ومعهم دوابهم ومتاعهم وسلاحهم وبيوتهم، وربَّما علَّقهم بأعناقهم في الشجر.
وتقع مدينة ملك الخزر على جانبي نهر آتل، وعلى أحد الجانبين يقطن المسلمون وفي الجانب الآخر الملك وأصحابه، وعلى المسلمين رجلٌ مسلمٌ من رجال الملك يقضي في أمور المسلمين، وهناك -أيضًا- جماعات من النصارى والوثنيين؛ فالخزر مجتمعٌ تعدُّديٌّ تُهيمن عليه نخبةٌ حاكمةٌ يهوديَّة.
_______________
المراجع:
- ستيفن، رنسيمان: الحضارة البيزنطية، ترجمة جاويد، عبد العزيز توفيق، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1961م.
- العظمة، عزيز: العرب والبرابرة، دار الريس، لندن 1991م.
- رسالة ابن فضلان: أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد، تحقيق وتقديم: سامي الدهان، مديرية إحياء التراث العربي-دمشق، ط2، وزارة الثقافة، دمشق 1978م، ص91-94.
التعليقات
إرسال تعليقك