التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
سطور من حياة المأمون العباسي الخليفة العالم، سابع خلفاء الدولة العباسية وأشهرهم في العلم، فمن هو المأمون وما أوضاع خلافته ومحنته مع العلماء؟
الخليفة المأمون هو عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس (198 - 218هـ / 814 - 833م)، ومن أفاضل خلفائهم وعلمائهم وحكمائهم، وكان فطنًا، شديدًا، كريمًا. شهد عهده ازدهارا بالنهضة العلمية والفكرية في العصر العباسي الأول؛ وذلك لأنه شارك فيها بنفسه، واتسمت سياسة المأمون بأنها جمعت بين المواقف المتناقضة التي يصعب التوفيق بينها، وهو الذي أظهر القول بخلق القرآن وامتحن الناس عليه، وبه كانت محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
نسبه ونشأته
هو الخليفة أبو العباس عبد االله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، سابع خلفاء الدولة العباسية، وأم المأمون كانت أم ولد اسمها "مراجل الباذغيسية" ماتت في نفاسها به، ولد في شهر ربيع أول سنة 170هـ / 786م، في نفس الليلة التي توفى فيها عمه موسى الهادي الخليفة، لذلك يقال لتلك الليلة: إنها ليلة الخلفاء؛ لأن فيها مات خليفة، وولد خليفة، وتولى خليفة.
وولد أخوه الأمين ابن السيدة زبيدة بعده بأربعة أشهر في شوال سنة 170هـ. نشأ المأمون في حجر الخلافة، وقد تهيأ له أفضل وسائل التربية والتثقيف في عصره، فقد نشأ في بيت الخلافة وكان مربيه وأستاذه هو "يحيى البرمكي"، وبانت نجابته وذكائه من صغره ورشحته صفاته لأن يعقد له أبوه الرشيد البيعة للخلافة بعد أخيه الأمين.
ولايته للعهد
وعلى الرغم مما عرف عن هارون الرشيد من ذكاء وبعد نظر، فإنه وقع فيما وقع فيه أسلافه، فقد لجأ تحت ضغط من زوجته زبيدة والقوة العربية في الدولة إلى تعيين الأمين وليًا للعهد سنة 175هـ/791م، وجعل له ولاية العراق والشام حتى أقصى المغرب، وما لبث سنة 182هـ/799م أن عين المأمون في ولاية العهد الثانية على أن تكون له ولاية خراسان وما يتصل بها من الولايات الشرقية، وأعقب ذلك سنة 186هـ/802م البيعة لابنه القاسم بعد المأمون ودعاه المؤتمن وولاه الجزيرة والثغور.
وقد اتُبع هذا الاتجاه نحو تقسيم الدولة إلى قسمين شرقي وغربي منذ قيام الدولة العباسية، فكان الخلفاء يقلدون كل قسم لأحد القادة المتنفذين أو المظفرين أو أولياء العهود، فإذا كانوا صغار السن عين الخليفة من ينوب عنهم، وهؤلاء بدورهم كانوا يستخلفون العمال على ولاياتهم.
وضع الرشيد بتصرفه هذا وباختياره ثلاثة من أبنائه لولاية العهد بذرة التفكك السياسي وأوقع الدولة في خضم حرب أهلية كبيرة كانت لها نتائجها الخطيرة على مستقبل الدولة، فقد تكتل العرب بزعامة الفضل بن الربيع إلى جانب الأمين، في حين انضم الفرس بزعامة الفضل بن سهل إلى جانب المأمون.
وهذه الفعلة من الرشيد رحمه الله أدت لنشوب الخلاف بين الأمين والمأمون ووقوع القتال أكثر من أربعة سنوات.
خلافته
توفي الخليفة العباسى هارون الرشيد عام سنة 193هـ / 809م في خراسان، وأخذت البيعة لابنه الأمين وفقا لوصية والده التي نصت أيضا أن يخلف المأمون أخاه الأمين، إلا أن الخليفة الجديد سريعا ما خلع أخاه من ولاية العهد وعين ابنه موسى الناطق بالحق وليا للعهد، وكان المأمون آنذاك في خراسان، فلما علم بأن أخاه قد خلعه عن ولاية العهد، أخذ البيعة من أهالي خراسان وتوجه بجيش لمحاربة أخيه، وحدثت فتنة عظيمة بين المسلمين، وقد استمرت الحروب بينهما أربع سنوات، إلى أن استطاع المأمون محاصرة بغداد، والتغلب على الأمين وقتله عام 198هـ / 813م، ظافرا بالخلافة.
وكان المأمون محظوظًا في وجود عدة شخصيات قوية من حوله ساعدته على الحصول على الخلافة والانتصار على أخيه الأمين، من أمثال هذه الشخصيات القائدين الحربيين الكبيرين طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين والوزير صاحب الدور المشبوه الفضل بن سهل.
اتسمت سياسة المأمون بأنها جمعت بين المواقف المتناقضة التي يصعب التوفيق بينها، فكان يميل إلى الفرس تارة، ثم إلى العلويين تارة أخرى، ثم يميل إلى أهل السنة والجماعة تارة ثالثة، فاستطاع بتلك السياسة المرنة أن يجمع بين المواقف المتناقضة وأن يرضي جميع الأحزاب ويتغلب على معظم الصعاب. بويع بالخلافة أثناء وجوده في خراسان ولهذا لم ينتقل إلى بغداد مقر الخلافة العباسية، بل ظل مقيما في مدينة مرو بخراسان مدة ست سنوات تقريبا، وكان من الطبيعى أن يفضلها بعد أن انفرد بالخلافة؛ لأنها تضم أنصاره ومؤيديه.
وكان الفرس يودون أن يبقى بمرو لتكون عاصمة الخلافة، ولكنها بعيدة عن مركز الدولة، وهى أكثر اتجاهًا نحو الشرق، مما جعل سيطرتها على العرب ضعيفة. وقد تسبب عن بقاء المأمون بعيدًا عن عاصمة دولته بغداد بعض الأزمات السياسية خصوصًا أنه فوّض إدارة البلاد إلى وزيره الفضل بن سهل وأخيه الحسن بن سهل، وأثار تحيز المأمون إلى الفرس غضب أهل العراق من بني هاشم ووجوه العرب، فأشاعوا أن بني سهل قد حجبوا الخليفة واستبدوا بالرأي دونه. واضطر المأمون أخيرًا أن يذهب إلى بغداد وأن يترك مرو للقضاء على هذه التحركات فى مهدها، فانتقل بعدها إلى بغداد في منتصف شهر صفر من سنة 204هـ.
الإحسان إلى الشيعة
كان معظم أعوان المأمون من الفرس، ومعظمهم من الشيعة، ولهذا اضطر المأمون لممالأه الشيعة وكسبهم إلى جانبه، فأرسل إلى زعماء العلويين أن يوافوه فى عاصمته (وكانت مرو فى ذلك الوقت)، فلما جاءوه أحسن استقبالهم، وأكرم وفادتهم.
وكان الوزير الفضل بن سهل قد استولى تمامًا على المأمون وحجبه عن الناس وحجب الناس عنه وعزل كل الأخبار عنه، وكان غرضه من ذلك إسقاط الخلافة العباسية وإسنادها للطالبيين إذ كان من الشيعة المغالين. وفي سنة 201هـ استطاع الفضل بن سهل أن يقنع المأمون أن يجعل ولاية العهد من بعده للإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق الإمام الثامن عند الإمامية الاثني عشرية، ولقبه بالرضا من آل محمد، وكتب بذلك إلى سائر أنحاء المملكة. وهى خطوة جريئة؛ لأن فيها نقلا للخلافة من البيت العباسى إلى البيت العلوى. ولم يكتفِ بهذا، بل خلع السواد شعار الدولة العباسية ولبس الخضرة مكانها وهي شعار العلويين.
ورغم اعتراض أقاربه من العباسيين، فإن المأمون كان مصرًّّا على هذا الأمر، إذ كان يعتقد أن ذلك من بر علي بن أبي طالب رضى الله عنه. وجاءت عمة أبيه زينب بنت سليمان بن على، وكانت موضع تعظيم العباسيين وإجلالهم، وسألته: ما الذى دعاك إلى نقل الخلافة من بيتك إلى بيت على؟ فقال: يا عمة، إنى رأيت عليّا حين ولى الخلافة أحسن إلى بنى العباس، وما رأيت أحدًا من أهل بيتى حين أفضى الأمر إليهم (وصل إليهم) كافأه على فعله، فأحببت أن أكافئه على إحسانه. فقالت: يا أمير المؤمنين إنك على بِرِّ بنى علىّ والأمر فيك، أقدر منك على برهم، والأمر فيهم.
وهذه الأمور كلها جعلت الفترة من 198 حتى سنة 202هـ كلها اضطرابات عليه وعلى خلافته، وحينما بلغ الخبر العراق نقم أهل بيته والناس وهاجوا وثاروا، ورفضوا مبايعة علي الرضا وخلعوا المأمون وبايعوا عمه إبراهيم المهدي خليفة عليهم، وتضيف الرواية أن أخبار هذه الفتنة لم تصل إلى المأمون وأن الفضل بن سهل كان يتعمد إخفاءها، ولم ينتبه المأمون للخطر المحدق به إلا بعد أن تجرأ علي الرضا ولي عهده على إخباره بأمر هذه الفتن.
عندئذٍ خرج المأمون من مرو متجهًا نحو مدينة طوس، وفي طريقه إليها قتل وزيره الفضل بن سهل وهو في الحمام بمدينة سرخس، وحينما بلغ طوس مات ولي عهده علي الرضا من جرّاء اضطراب في الجهاز الهضمي، فدفن في طوس في جوار هارون الرشيد. فكتب المأمون إلى بني العباس والموالي وأهل بغداد يعلمهم بموت علي بن موسى ويسألهم الدخول في طاعته ثم جدّ السير إلى بغداد فوصلها سنة 204هـ/819م، حيث أقبل الناس على مبايعته والترحيب به، وعفا المأمون عن عمه إبراهيم المهدي وأمر الناس بلبس السواد ثانية، واستوزر الحسن بن سهل وتزوج المأمون سنة 210هـ بوران ابنة الحسن بن سهل، وبقي وزيرًا حتى عرضت له سوداء فانقطع بداره ليتطبب واحتجب عن الناس، فاستوزر المأمون أحمد بن أبي خالد.
الثورات فى عهد المأمون
إن ضعف السلطة المركزية في بغداد نتيجة للفتن والحروب التي تخللت عصر الأمين وأوائل عصر المأمون قد انتقلت عدواها إلى الأقاليم الإسلامية، إلى مصر والمغرب، وقامت القبائل والعشائر العربية والجزيرة بثورات مختلفة بقيادة زعيم عربي اسمه نصر بن شبث العقيلي.
وقد اختلفت تلك الثورات فى مدى عنفها وشدتها، واستطاع المأمون القضاء عليها جميعًا. ويذكر أن أولى الثورات بدأت منذ بدايات عهد المأمون، أثناء إقامته في مرو بخراسان، ذلك أن تحيزه للفرس أثار غضب أهل العراق من بني هاشم ، لهذا كانت أول ثورة قامت ضد المأمون كانت ثورة عربية وكان مركزها مدينة الكوفة بالعراق.
ثورة مصر
وكان من أخطر هذه الثورات جميعًا ثورة مصر؛ ذلك أن جند مصر كانوا قد اشتركوا فى خلافات الأمين والمأمون، كل فريق فى جانب، وبعد أن انتهى الخلاف بفوز المأمون، ظل الخلاف قائمًا بين جند مصر، وأصبح موضع الخلاف التنافس على خيرات مصر، فكان الجند يجمعون الخراج لا ليرسل للخليفة، بل ليحتفظوا به لأنفسهم.
وقد قامت جيوش المأمون كثيرًا بمحاربتهم مع أهل مصر الذين شاركوا فى هذه الثورات، ولكن هذه الثورات ما لبثت أن أشعلت من جديد حتى أرسل إليهم جيشًا ضخمًا، فاستطاع القضاء على الثورة نهائيًا، كما تمكن قائده طاهر بن الحسين من القضاء على ثورات العرب أنصار الأمين.
ثورة بابك الخرمي
نجح المأمون بتوطيد سلطانه والقضاء على معظم الثورات إلا ثورة الزط في جنوبي العراق، وثورة بابك الخرمي التي استفحل أمرها في عهد المأمون ولم يتم القضاء عليها إلا في خلافة المعتصم بالله.
سياسته الخارجية مع الروم
كانت سياسة المأمون نحو الإمبراطورية الرومانية المقدسة -وتشمل وسط أوروبا وإيطاليا – استمرارا لسياسة والده الرشيد التي تقوم على المصادقة، وعلى الرغم من أن وفاة شارلمان حدثت في العام التالي من خلافة المأمون سنة 199هـ / 814م، إلا أن ذلك لم يحل دون استمرار سياسة التفاهم مع ولده لويس التقي، إذ تشير المصادر الأوروبية إلى أن الإمبراطور لويس أرسل سفارة إلى البلاط العباسي في بغداد في عهد المأمون سنة 216هـ / 831م. أما عن علاقة المأمون بالإمبراطورية البيزنطية –وتشمل شرق أوروبا والقسطنطينية- فكانت سياسة عدائية على غرار سياسة آبائه من قبل.
جهاده
كان المأمون يكتب إلى عمّاله على خراسان فى غزو من لم يكن على الطاعة والإسلام من أهل بلاد ما وراء النهر. ولم يغفل المأمون عن قتال الروم، بل غزاهم أكثر من مرة، فقاد المأمون في السنوات الأخيرة من حياته جيوشه بنفسه وتوغل في الأراضي البيزنطية في آسيا الصغرى مابين 214 - 218هـ، وجعل معظم إقامته في الشام متخذًا دير مُران في دمشق مقرًا له.
وأهم ما تميزت به حروب المأمون مع البيزنطيين اتخاذه موقف الهجوم، وتغلغله في الأراضي البيزنطية، وفي حملته الثالثة تحقق حلم المأمون بالاستيلاء على حصن لؤلؤة الذي يسيطر على مفارق الطرق.
ففي سنة 215هـ/830م خرج المأمون بنفسه على رأس الجيوش الإسلامية لغزو الروم، فافتتح حصن قرة، وفتح حصونًا أخرى من بلادهم، ثم رحل عنها، وعاود غزو الروم فى السنة الثالثة سنة 216هـ، ففتح هرقلة، ثم وجّه قواده فافتتحوا مدنًا كبيرة وحصونًا، وأدخلوا الرعب فى قلوب الرومان، ثم عاد إلى دمشق، ولما غدر الروم ببعض البلاد الإسلامية غزاهم المأمون للمرة الثالثة وللعام الثالث على التوالى سنة 217هـ، فاضطر الروم تحت وطأة الهزيمة إلى طلب الصلح.
صفاته وأخلاقه
كان المأمون ذا خبرة عظيمة في سياسة الحكم عالمًا بأحوال رعيته وخاصة باطنته وخواصه , محبًا للعدل يرى فيه أساسًا لثبات الحكم وكان يجلس بنفسه للفصل بين الناس ويأخذ الحق من أي شخص كائنًا ما كان , وكان محبًا للعفو عن المخطئين وقال عن نفسه: "ليت أهل الجرائم يعرفون مذهبي في العفو، حتى يذهب الخوف عنهم". وكان يقول: "أنا والله أستلذ العفو، حتى أخاف ألا أؤجر عليه، ولو عرف الناس مقدار محبتى للعفو؛ لتقربوا إلى بالذنوب!". وقال: "إذا أصلح الملك مجلسه، واختار من يجالسه؛ صلح ملكه كله". ورفع إليه أهل الكوفة مظلمة يشكون فيها عاملا؛ فوقَّع: "عينى تراكم، وقلبى يرعاكم، وأنا مولّ عليكم ثقتى ورضاكم". وشغب الجند فرفع ذلك إليه، فوقَّع: "لا يعطون على الشغب، ولا يحوجون إلى الطلب".
ووقف أحمد بن عروة بين يديه، وقد صرفه على الأهواز، فقال له المأمون: "أخربتَ البلاد، وأهلكت العباد. فقال: يا أمير المؤمنين، ما تحب أن يفعل الله بك إذا وقفتَ بين يديه، وقد قرعك بذنوبك؟. فقال: العفو والصفح. قال: فافعل بغيرك ما تختار أن يفعل بك. قال: قد فعلت، ارجع إلى عملك فوالٍ مستعطِف خير من وال مستأنف". وكتب إلى على بن هشام أحد عماله، وقد شكاه غريم له: "ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة ويكون غريمك عاريًا، وجارك طاويًا".
وكان كريمًا بصورة تصل إلى السرف حتى أنه أنفق في عرسه على "بوران بنت الحسن" ما يوازي خمسين مليون درهم. وكان فيه شهامة عظيمة وقوة جسيمة في قتال الكافرين، خاصة الروم الذي حاصرهم وصابرهم مرات كثيرة، وباشر القتال بنفسه.
وكان يستمع إلى النصيحة ويرجع إلى الحق. أمر يومًا بإباحة نكاح المتعة "وهذا يوضح أثر التشيع على المأمون لأن نكاح المتعة مباح عند الشيعة، فدخل عليه القاضي يحيى بن أكثم مهمومًا مغتمًا، فقال له المأمون: مالك يا يحيى؟. قال له يحيى: أبيح اليوم الزنا يا أمير المؤمنين. فارتعد المأمون قائلًا: وكيف ذلك ؟ قال يحيى: أبيع اليوم نكاح المتعة. فقال المأمون: وهل هو زنا ؟ قال يحيى: يا أمير المؤمنين قل لي عن زوجة المتعة: هل هي التي ترث أو تعتد أو هي ملك يمين؟ فقال المأمون: كلًا. فقال يحيى: إذا هي زنا. فقال المأمون: أستغفر الله من ذلك. وأمر مناديًا بتحريم المتعة.
وهكذا كان المأمون، حتى لقد وصفه الواصفون بأنه من أفضل رجال بنى العباس، حزمًا وعزمًا وحلمًا وعلمًا ورأيًا ودهاءً، وقد سمع الحديث عن عدد كبير من المحدّثين، وبرع فى الفقه واللغة العربية والتاريخ.
ومن سرعة بديهة المأمون وسعة فقهه في الدين، أن امرأة جاءت إليه وهو في مجلس من العلماء، وقالت له: يا أمير المؤمنين مات أخي وخلف ستمائة دينار، أعطوني دينارا واحدا. فأخذ المأمون يحسب ثم قال لها: هذا نصيبك. فقال له العلماء: كيف علمت يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا الرجل خلف ابنتين، قالت: نعم، قال فلها الثلثان أربعمائة، وخلف والدة فلها السدس مائة، وخلف زوجة فلها الثمن خمسة وسبعون. وباالله: ألك اثتا عشر أخًا؟ قالت: نعم، قال: أصابهم ديناران وأصابك دينار.
وكان المأمون من حفظة القرآن كثير التلاوة، حتى أنه كان يتلو في رمضان ثلاثًا وثلاثين ختمة، وكانت له بصيرة بعلوم متعددة، فقهًا وطبًا وشعرًا وفرائض وكلامًا ونحوًا حتى علم النجوم .
علمه وثناء العلماء عليه
قال عنه ابن دحية الكلبي: الإمام المحدث النحوي اللغوي. قال ابن طباطبا في كتابه الفخري: "واعلم أن المأمون كان من عظماء الخلفاء ومن عقلاء الرجال وله اختراعات كثيرة في مملكته. منها أول من لخص منهم علوم الحكمة وحصل كتبها وأمر بنقلها إلى العربية وشهَّرها، وحل إقليدس ونظر في علوم الأوائل وتكلم في الطب وقرب أهل الحكمة".
تتلمذ المأمون على شيوخ الأدب واللغة في عصره، أمثال سيبويه واليزيدي ويحيى بن المبارك. ذكر ثمامة بن أشرس النميري: "ما رأيت رجلا أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون". خاطبه يحيى بن أكثم قائلا: "يا أمير المؤمنين إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته، أو في النجوم كنت كهرمس في حسابه، أو في الفقه كنت كـعلي بن أبي طالب صلوات االله عليه في علمه". ويعلق الأستاذ موير عن عصر المأمون بقوله: "وقصارى القول إن عصر خلافته كان بوجهه الأجمل من أزهى عصور التاريخ الإسلامي".
لذا كان عصر المأمون عصر العلم في الإسلام. ولهذا قيل: لو لم يكن المأمون خليفة، لصار أحد علماء عصره.
الحياة العلمية في عهده
كان عصر المأمون من أزهى عصور الثقافة العربية، وقد أبدى المأمون اهتمامه بجمع تراث الحضارات القديمة وخاصة الحضارة اليونانية، أرسل بعثات من العلماء إلى القسطنطينية وقبرص للبحث عن نفائس الكتب اليونانية ونقلها إلى بيت الحكمة في بغداد، وكان اهتمام المأمون ببيت الحكمة ببغداد كبيرا، وهو مجمع علمى، ومكتبة عامة لنسخ الكتب ودارًا لترجمتها إلى العربية، وكان لها مديرون ومترجمون ومجلدون للكتب، ومرصد فلكى، وأقام فيه طائفة من المترجمين، وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال، فاستفاد المسلمون من هذه الكتب العلمية، ثم ألفوا وابتكروا فى كافة العلوم، التى أسهمت فى نهضة أوروبا يوم أن احتكت بالعرب فى الحروب الصليبية وغيرها.
كما نهض بمهمة بناء المراصد الفلكية، فأنشأ مرصدًا في حي الشماسية ببغداد، وبنى على قمة جبل قاسيون بدمشق مرصدًا آخر، وقرب العلماء والفقهاء والمحدثين والمتكلمين وأهل اللغة والأخبار والمعرفة بالشعر والأنساب، وأطلق حرية الكلام للباحثين وأهل الجدل والفلاسفة، كذلك شجع المأمون المناظرات الكلامية والبحث العقلي في المسائل الدينية كوسيلة لنشر العلم وازالة الخلاف بين العلماء.
وأصدر المأمون برنامجا منهجيا للدراسات الفلكية في أول المراصد الفلكية التخصصية المقامة ببغداد ودمشق، وأرسل أول بعثة موسعة لاجراء التجارب العلمية، وكشفت هذه المساعي عن طريقة العلماء العرب في فهم المتون واستيعابها.
ولجأ الخليفة إلى علماء بيت الحكمة طلبا للعون على شؤون الدين والدنيا، وطلب منهم تحديد المكان الدقيق لبغداد ومكة لمعرفة القبلة الشرعية الصحيحة، كما أراد الخليفة صورة دقيقة لطول وعرض العالم الذي يحكمه.
وكان للمدارس التى فتحها المأمون فى جميع النواحى والأقاليم أثرها فى نهضة علمية مباركة. إلا أن الاطلاع على بعض فلسفات الأمم الأخرى قد جعل العقل يجتهد فى أمور خارج حدوده وتفكيره، ومن هنا نشأ الفكر الاعتزالى الذى يُعْلي من قيمة العقل، ويجعله حكمًا على النص دون حدود أو قيود.
فتنة خلق القرآن
كان المأمون يحب العلم -كما بيَّنَّا- إلا أنه كان جاهلًا بالسنة الصحيحة وهذا الأمر جعل المعتزلة يروجون عليه ذلك؛ لأن بعض رؤساء الاعتزال اجتمعوا عنده وعبثوا بعقله وراجع عليه الباطل والاعتزال. خاصة أن المأمون كان يحب قراءة كتب الفلسفة والمنطق وما سطره الأوائل في هذا الشأن، فعظم عليه أمر العقل، لذا اعتنق فكر الاعتزال وعلا عنده شأن بشر المريسي وأحمد بن أبي دؤاد رؤساء الاعتزال، وألزموه دعوة الناس لهذا الفكر الباطل والقول بخلق القرآن.
فكان المأمون يؤيد المعتزلة فيما يقولونه، وكتب رسائل في تأييد آرائهم ووافقهم فيما ذهبوا إليه من أن القرآن مخلوق، وكتب في السنة الأخيرة من حياته إلى والي العراق يطلب منه امتحان القضاة في مسألة القرآن وأن يعاقب من لم يقل بهذا الرأي.
لقد سمح المأمون لأولئك الذين اعتمدوا على العقل والمنطق فى كل شىء بالتعبير عن آرائهم، ومعتقداتهم، ونشر مبادئهم من غير أن يتقيدوا بقيد أو يقفوا عند حد، فكان هذا من سوءاته التى أحدثت بين علماء المسلمين فتنة دامت تسع عشرة سنة، إلى أن شاء الله تعالى لتلك الفتنة أن تخمد، ولقد وصف الإمام السيوطى المأمون بقوله: "إنه كان من أفضل رجال بنى العباس، لولا ما أتاه من محنة الناس".
وظل المأمون من سنة 202هـ حتى 218هـ يدعو لهذا الفكر بالحوار، فلما رأى إعراض الناس ورفضهم لتلك البدعة الخبيثة قرر الاستعانة بسلطته ونفوذه، وقرر إجبار أهل العلم والمحدثين على اعتناق هذا المذهب، وعقد لهم محاكم تفتيش وهددهم بالفصل والحرمان والتعذيب والتشريد حتى أكرههم على ذلك، ولم يثبت في تلك الفتنة سوى الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح.
فأمر المأمون أن يحملا إليه مقيدين على جمل إلى طر سوس، وسل سيفًا لم يسله من قبل، وأقسم أن يقتل أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح إذا لم يجيبا بالقول بخلق القرآن، وعندها جثى الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال: "سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته, اللهم لا تجعلنا نراه ولا تجعله يرانا"، فاستجاب الله دعاء العبد الصالح، فمات المأمون قبل أن يصلا إلى طر سوس .
كان المأمون هو الخليفة العباسي الوحيد الذي كان على مذهب الشيعة حيث كان يذهب إلى تفضيل على بن أبي طالب رضي الله عنه عن باقي الصحابة، فخالف بذلك جمهور الخلفاء والعلماء والمسلمين.
وفاة الخليفة المأمون
وبينما كان المأمون في أراضي الدولة البيزنطية في آخر غزواته، وهو فى البذندون شمالي مدينة طرسوس، وكان قد عزم أن يقتل الإمام أحمد بنحنبل إن لم يجبه أن القرآن مخلوق، فدعا عليه الإمام أحمد، فأصابته حمى لم تمهله كثيرا، وفي 18 من رجب سنة 218هـ أدركته الوفاة بالغا من العمر ثمان وأربعون سنة وأربعة أشهر، فحمل إلى طرسوس ودفن بها، وتولى الخلافة بعده أخوه أبو إسحاق محمد المعتصم بالله.
_________________
المصادر والمراجع:
- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد( دار الكتاب العربي، بيروت، د.ت).
- الطبري: تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (دار سويدان، بيروت 1386هـ/1966م).
- ابن طباطبا: الفخري في الآداب السلطانية (دار بيروت للطباعة والنشر، 1400هـ/1980م).
- اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي (دار صادر، بيروت، د.ت).
- نجدة خماش: المأمون، الموسوعة العربية العالمية.
- خالد العاني: الخليفة المأمون وعصر العلم في الحضارة الإسلامية، موقع لجنة إحياء التراث الفلكي العربي في جمعية هواة الفلك السورية
- الخليفة المأمون .. ابن هارون الرشيد الذى حمل دولة بنى العباس على عاتقه وكالة أنباء أونا.
- وفاة الخليفة المأمون، موقع مفكرة الإسلام.
التعليقات
إرسال تعليقك