د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
مقدمة كتاب رحماء بينهم للدكتور راغب السرجاني
المقدمة
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، إنه مَن يَهْدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعد..
فلا شكَّ أن التشريع الإسلامي قد بلغ الذروة في الكمال والإتقان، وأنه قد بلغ الغاية في الإبداع، ويكفي في وصف هذا التشريع المحكم ما ذكره ربُّنا في كتابه في أُخْرَيَات ما نزل من القرآن الكريم عندما قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]
فالدين كاملٌ ليس فيه نقص، والنعم تامَّة لا يعتريها قصور، والتشريع لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وبيَّن حكمها، وطريقة التعامل معها، يقول تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه: "قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاَّ هَالِكٌ"[1].
ولا شكَّ أن هذا الشرع العظيم يتميَّز بصفات جليلة كثيرة يصعب حصرها، ومع ذلك فإن الناظر فيه يتبيَّن صفة عظيمة بُنِيَ عليها كل تفصيل في هذا الشرع الحنيف، أَلاَ وهي صفة الرحمة.
والشريعة كما يقول ابن القيم: رحمةٌ كلها[2]. ويكفي أن تُرَاجِع كلمات القرآن الكريم وأحكامه، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومواقفه، وقوانين الشريعة وبنودها مراجعة سريعة لِتَرَى عمق تأصُّل خُلُق الرحمة في كل صغيرة وكبيرة من بنود الشرع.
وهذه الرحمة التي نتحدَّث عنها ليست خاصَّة بالمسلمين فقط، ولكنَّها تشمل عموم البشر، من المسلمين وغير المسلمين، وهذا ما نلحظه في الآية الجامعة التي شرحت المنهج الإسلامي في التعامل مع الخلق، حيث قال ربُّنا سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
ومن هنا جاءت أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية الرحمة عامة شاملة، تحوي مع قلَّة ألفاظها معانٍ هائلة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ"[3].
هكذا على إطلاقها تأتي العبارة، مَن لا يَرحم العباد - دون تحديد ولا تقييد - لا يرحمه الله عز وجل.
ويقول أيضًا: "ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ"[4].
وكلمة "مَنْ" تشمل كل مَن في الأرض.
ويقول كذلك: "إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ"[5].
إنَّ الرحمة التي ظهرت في كلِّ أقوال وأعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن رحمةً مُتكلَّفة، تَحْدُث في بعض المواقف من قبيل التجمُّل أو الاصطناع؛ إنَّما كانت رحمة طبيعيَّة تِلقائيَّة مُشاهَدة في كلِّ الأحوال، على الرغم من اختلاف الظروف، وتعدُّد المناسبات.
لقد رأينا رحمته صلى الله عليه وسلم مع الكبار والصغار، ورأيناها مع الرجال والنساء، ورأيناها مع القريب والبعيد؛ بل ورأيناها مع الصديق والعدوِّ؛ بل إنَّ رحمته تجاوزت البشر لتَصِلَ إلى الدوابِّ والأنعام، وإلى الطير والحشرات.
ولذلك حرص الإسلام –من منطلق الرحمة– على تقوية الأواصر وتعميق الروابط بين بني الإنسان، في أيِّ مكانٍ كانوا، وفي أيِّ زمانٍ عاشوا؛ فلا ينبغي لمجتمع أن يعيش متفكِّكًا، ولا ينبغي كذلك لفرد أن يعيش منفصلًا عن مجتمعه؛ فالمجتمع حريص على رعاية الأفراد، والأفراد حريصون على الارتباط بالمجتمع، وهذه عَلاقة تضمن حياة أفضل لجميع الخلق.
ولما كانت المشاكل والأزمات والكوارث لا تنتهي من الدنيا، فإنَّه يجب أن تكون هناك آليَّات ثابتة، وطُرُق معروفة محدَّدة للتعامُل مع هذه العوارض المؤلِمة، كما أنَّ هناك الكثير من الأعمال والمهامِّ التي تتطلَّب جهودًا متكاتفة لكي تُنجَزَ وتتمَّ، ومن هنا حثَّ الإسلام على خُلُقٍ رائعٍ لا يقوم المجتمع الصالح إلَّا به، وهو خُلُق التكافل والإغاثة، فالجميع يتكافل ويتعاون، ويُكمِّل بعضه بعضًا لأداء عملٍ مُعَيَّن، أو للخروج من أزمةٍ مُعَيَّنَة، والذي يحتاج إلى عون اليوم قد يكون هو المـُعِين غدًا، والذي يبحث عن مَن يُساعده في موقفٍ سيَبْحَث عنه الآخرون في موقفٍ آخر، وهكذا تسير عجلة الحياة بشكلٍ طبيعيٍّ، ويتحقَّق الخير لجميع أفراد المجتمع؛ بل لجميع أفراد الإنسانية.
غير أنَّ الإسلام يختلف عن بقيَّة المناهج الأرضية، في كونه يربِط هذا التكافل دائمًا بالله عز وجل، ويجعل الفائدة الكبرى، والجائزة العظمى في يوم القيامة، مع عدم إغفال الفوائد الدنيوية العظيمة التي تعود على الناس في حياتهم عند التعامل بهذا السلوك.
من هنا جاءت أهميَّة مثل هذا الموضوع، خاصَّةً أنَّنا جميعًا نرى أنَّ الأزمات والكوارث تزداد مع مرور الأيَّام، وأنَّنا مُقْبِلُون فعلًا على أيَّامٍ شِدَاد، وعلى مواقف عصيبة، وقد ازدادت الحروب ومعدَّلات الفقر، وظهرت الأمراض التي لم تكن في أسلافنا، وتبدَّلت درجات الحرارة عن طبيعتها قبل ذلك، وانعدم الأمن في بقاعٍ كثيرةٍ من العالم، وقَلَّتِ المؤن والأغذية؛ بزيادة التصحُّر وقلَّة المياه، وما كلُّ ذلك إلا بظلم الإنسان لنفسه ولغيره.
قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
غير أنَّ طريق الإصلاح واضح، والنور الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُبَدِّد به الظلمات نورٌ باهرٌ ساطع.
يقول ربُّنا سبحانه وتعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16].
ومع وضوح هذه الرؤية الإنسانية في التشريعات الإسلامية كلِّها، ومع كمال الرحمة في كلِّ أقوال ومواقف وحياة رسولنا صلى الله عليه وسلم، ومع وجود مظاهر التكافل والمودَّة والإغاثة لكُلِّ المَكْرُوبِين في عقود التاريخ المختلفة، مع كلِّ ذلك فإنَّ الكثير والكثير ممَّن يجهلون الإسلام وطبيعته يتَّهمونه بالإرهاب، والعنف، وعدم القدرة على التعايش مع الآخرين، وبالانعزاليَّة والفرديَّة، والظلم الاجتماعي، وغير ذلك من أمورٍ لا تتَّفق مطلقًا مع الواقع، ولا تنسجم أبدًا مع المنطق؛ لذا فدراسة مثل هذا الأمر وتأصيله والتأكيد عليه وإبراز الأدلَّة على وجوده يُعَدُّ من الفروض التي يجب أن يتحمَّلَها المسلمون بكلِّ حَمِيَّة وأمانة.
وهذا الكتاب الذي بين أيدينا يتناول موضوعًا من أهمِّ الموضوعات التي نحتاج إليها في زماننا، بل وفي كلِّ الأزمنة؛ فليس هناك مجتمع يستطيع أن يحيا دون تكافل أو تعاون، وليس هناك سعادة إن عاش المرء وحيدًا لا علاقة له بمن حوله، ولا أثر له فيمن يُحِيطُون به، ثم إنَّ الكوارث والأزمات –على اختلاف درجاتها– لا تَتَوَقَّف أبدًا، فهذه طبيعة الدنيا، ومِنْ ثَمَّ كان غوث الملهوفين وإعانة المكروبين من ألزم صفات المجتمع الصالح والأُمَّة الراشدة.. لهذا تُعْتَبَر قضيَّة التكافل والإغاثة من أكثر القضايا التي ترفع مجتمعًا وتضع آخر.
وقصَّة التكافل والإغاثة في هذا الدين العظيم الإسلام طويلة وقديمة، بدأت من أوَّل أيَّامه على الأرض، وما زالت مستمرَّة إلى الآن، ومستقبلها واعدٌ بإذن الله؛ لأنَّ هذه الأمَّة العظيمة باقية ما بَقِيَتْ حياة على ظهر الأرض، وهذا وَعْدُ ربِّ العالمين لكلِّ الصالحين.
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
وطول قصة التكافل وعظمها يُعْطِي أهمية قصوى لهذا الكتاب، خاصة مع وجود الهجمة الشرسة التي نراها في وسائل الإعلام المختلفة تَصِمُ المسلمين بالعنف، وتَتَّهِمُهم بالإرهاب، فكان لا بُدَّ من تقديم الدليل العلمي الْمُوَثَّق على أصالة الرحمة في هذا الدين، وعلى عُمْق حُبِّ الخير لكل العالمين، فإذا أخذنا في الاعتبار أن إغاثة المسلمين للآخرين، وحُبَّ الخير لهم لا ترتبط بعرق مُعيَّن، أو جنس بذاته، وأنها تشمل فيما تشمل كل الناس بما فيهم غير المسلمين، الذين يرتبطون بعقائد تختلف تمامًا مع عقائد المسلمين، إذا وضعنا ذلك في اعتبارنا أدركنا بصدق مدى أهمية هذه الدراسة.
هذا، وقد ساق ابن منظور في اللسان لمادَّة (كفل) معاني لغوية متعدِّدة منها: الكِفْل: النصيب، والكِفْل: الذي لا يثبت على ظهور الخيل، والكِفْل: الحَظُّ والضِّعف من الأَجر، وفي التنزيل: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28]. قيل: معناه: يؤْتكم ضِعْفَين. وقيل: مِثْلين.
أمَّا الكافِل فهو العائِل، كَفَله يَكْفُله وكَفَّله إِيَّاه، وفي التنزيل العزيز: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37]. أَي: ضمَّنها إِيَّاه حتى تكفَّل بحضانتها.
وفي الحديث: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ"[6]. والكافِل: القائم بأَمر اليتيم المربِّي له، وهو من الكفيل الضمين، والضمير في له ولغيره راجع إِلى الكافِل، أَي أَنَّ اليتيم سواء كان الكافِل من ذَوِي رحمه وأَنسابه أَو كان أَجنبيًّا لغيره تكفَّل به.
وفي حديث وَفْد هَوازِن: "وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ"[7] يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَي خير من كُفِل في صغره وأُرْضِعَ ورُبِّيَ حتى نشأَ، وكان مُسْتَرْضَعًا في بني سعد بن بكر. والكافِل والكَفِيل: الضامن[8].
وأما المدلول الاصطلاحي للتكافل الاجتماعي فقد عَرَّفه الشيخ محمد أبو زهرة بقوله[9]: أن يكون آحاد الشعب في كفالة جماعتهم، وأن يكون كل قادر أو ذي سلطان كفيلاً في مجتمعه يمدُّه بالخير، وأن تكون كل القوى الإنسانية في المجتمع متلاقية في المحافظة على مصالح الآحاد، ودفع الأضرار، ثم في المحافظة على دفع الأضرار عن البناء الاجتماعي وإقامته على أسس سليمة[10].
بينما عرَّفه الدكتور عبد الله ناصح علوان بقوله: أن يتضامن أبناء المجتمع ويتساندوا فيما بينهم سواءً كانوا أفرادًا أو جماعات، حُكَّامًا أو محكومين على اتخاذ مواقف إيجابية، بدافع من شعور وجداني عميق ينبع من أصل العقيدة الإسلامية؛ ليعيش الفرد في كفالة الجماعة، وتعيش الجماعة بمؤازرة الفرد، حيث يتعاون الجميع ويتضامنون لإيجاد المجتمع الأفضل، ودفع الضرر عن أفراده[11].
ويمكننا أن نُعَرِّفَ مصطلح الإغاثة بأنه نصرة ومساعدة كل نفس بشرية في الكوارث والنوازل والملمَّات بكل ما نملك من سُبُل المساعدة النفسية والمالية لتعود إلى حياتها الطبيعية.
ولقد كان في أمنيتي عند الشروع في هذا الكتاب أن أُحصي كل مواقف التكافل والإغاثة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، وكذلك في تاريخ الأمة العريض، كذلك كان في أمنيتي أن أُحصي مواقف الخير الكثيرة التي تعيشها الأمة الآن، وتمارسها بحقٍّ.. كان في أمنيتي هذا وذاك، لكن أدركتُ أن هذا الاستقصاء مستحيل، وأنَّ حصر مواطن الخير في القديم والحديث - يعني سرد قصة الإسلام من أولها إلى آخرها - يحتاج إلى مجلدات، ولا طاقة لنا بحصره وتسجيله.. ومن ثَمَّ سَدَّدتُ وقاربتُ، وجمعتُ كثيرًا مما رأيته مناسبًا لموضوعنا، وما أغفلته – حقيقةً – كان أكثر وأكثر، ولكن الله المستعان.
ولئن كنتُ قد عانيتُ عند تسجيل صورة التكافل والإغاثة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي تاريخ الأمة من كثرة المصادر وتَعَدُّدها، وبالتالي صعوبة الإلمام بها، فإنني – وللأسف – عانيتُ عند حصر مواقف التكافل والإغاثة في واقعنا من قِلَّة المصادر ونُدْرَتها، مما يحثُّنا ويحثُّ كل غيور على هذه الأمة أن يُضيف شيئًا من البحث والعلم يُثري به المكتبة الإسلامية في هذا الجانب المهمِّ من جوانب حياتنا.
وقد اعتمدت لنفسي منهجًا في أثناء كتابة هذا الكتاب، ليخرج بأفضل صورة ممكنة، وهذا المنهج يتلخَّص فيما يلي:
أولاً: الاعتماد بشكلٍ رئيسي على ما جاء في القرآن الكريم من تحديد مفهوم التكافل والإغاثة، وإسقاط هذا المفهوم على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك نقل الآيات التي نزلت بخصوص مناسبات مُعَيَّنة لها عَلاقة وثيقة بموضوعنا، والاعتماد في شرح هذه الآيات وفهم معانيها على كتب التفسير الموثقة، مثل التفاسير التي كتبها الطبري وابن كثير والقرطبي رحمهم الله جميعًا، وغير ذلك من التفاسير القيِّمة حسب الحاجة.
ثانيًا: الاعتماد بشكلٍ رئيس -قدر الإمكان- على ما صحَّ من مرويَّاتٍ في كتب السُّنَّة المعتمدة، وأوَّلها بلا جدال صحيح البخاري ثم صحيح مسلم، وبعد ذلك كتب السنة العظيمة، كسنن الترمذي، والنسائي، وأبي داود، وابن ماجه، والبيهقي، وغيرهم، وكذلك كتب المسانيد وفي مقدمتها مسند أحمد بن حنبل.
ولم يكن النقل عن هذه المصادر مجرَّدًا من التوثيق والتصحيح، فقد حرصت في على تقييم علماء الحديث الثقات -سواء من الأقدمين أو المعاصرين- لهذه المرويات، ولم أُثْبِتْ إلا ما قرأت تصحيحًا له -أو قبولًا على الأقلِّ- من عالِمٍ مُعْتَبرٍ، أو محدِّثٍ ثقة.
ثالثًا: يأتي بعد كتب السُّنَّة الموثَّقة كتب المغازي والسِّيَر والدلائل والشمائل، وهي كتب كثيرة، وبها أحداث جمَّة، ولكن يعيبها أن بها الكثير من الضعيف، بل والكثير مما لا أصل له، ومِن ثَمَّ كان حرصي في هذا الكتاب –قدر المستطاع- على عدم النقل عن أحد هذه الكتب إلا بعد رؤية تصحيحٍ للرواية في الكتب التي اهتمَّت بذكر صحيح السيرة، أو كتب السيرة التي حرص فيها أصحابها على نقد الروايات، وعلى تقديم الصحيح على الضعيف، بالإضافة إلى كتب السيرة التي عَلَّق عليها وخرَّج مواقفها علماء الحديث الْمُعْتَبَرُون.
رابعًا: عند شرح مظاهر التكافل والإغاثة في التاريخ الإسلامي كنت أعود إلى المصادر الجامعة التي صوَّرت الحياة في عهود مختلفة، مثل: تاريخ الطبري، والبداية والنهاية لابن كثير، والكامل في التاريخ لابن الأثير، أو كنت أعود إلى الكتب المتخصصة التي شرحت فترة مُعَيَّنة من التاريخ.
وبعد أن تم جمع المادة قُمْتُ بصياغتها في بابين على النحو التالي:
في الباب الأول شرحتُ الأصول التي يرتكز عليها مفهوم التكافل والإغاثة في الإسلام، وأدلَّة ذلك من الكتاب والسُّنَّة، وذلك في خمسة فصول:
ففي الفصل الأول ذكرت عظمة النظرة الإسلامية للنفس الإنسانية البشرية. وأما في الفصل الثاني فتحدَّثْتُ عن رؤية القرآن والسنة للتكافل والإغاثة، ومدى العظمة الإسلامية التي أقَرَّتها نصوص القرآن والسنة في هذا الشأن. وفي الفصل الثالث تناولتُ العلاقة التكافلية والإغاثية بين الدولة الإسلامية وأفرادها، والمصادر التي اعتمدت عليها الدولة الإسلامية في الإنفاق على أفرادها، خاصة في الأزمات وأوقات العسر، ودور الهيئات والمؤسسات المحوري في هذا الأمر. وفي الفصل الرابع ناقشتُ كيف تعامل الإسلام مع أصحاب الفاقة والحاجة والظروف الصعبة الاستثنائية، وكيف اهتمَّ بمصارف الزكاة أكثر مما اهتمَّ بمصادر جمعها، بل حرص الإسلام على إغاثة كل محتاج ولو لم يكن من مستحقِّي الزكاة، فهذا وغيره مما تناولته في هذا الفصل. وفي الفصل الخامس والأخير من هذا الباب طرقت موضوعًا مهمًّا جدًّا، وهو تكافل وإغاثة المسلمين لغير المسلمين.
وأمَّا الباب الثاني فقد تناولت فيه قصة التكافل والإغاثة في التاريخ الإسلامي، ولكي يعرف الناس الفرق بين الظلمات والنور آثرت أن أبدأ الحديث في هذا الباب عن ما يُسَمَّى بالحضارات القديمة – والتي سبقت الإسلام – فكان الفصل الأوَّل، وفيه نرى واقع التكافل والإغاثة في الحضارات السابقة على ظهور الإسلام، وما فيها من قسوة وتفكُّك. ثم في الفصل الثاني تحدَّثت عن أبهى وأعظم فترة في تاريخ الإنسانية، وهي فترة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتهدتُ كثيرًا في انتقاء بعض المواقف من حياته؛ لكيلا يتضخَّم حجم الفصل جدًّا؛ لأن حصر مواقف التكافل والإغاثة في حياته صلى الله عليه وسلم يعني تسجيل حياته بكاملها!! ثم في الفصل الثالث جاء الحديث عن فترة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وهي فترة عظيمة كذلك، وتأتي في الفضل بعد الفترة النبوية مباشرة، ثم في الفصل الرابع والأخير تناولت في عدَّة مباحث تاريخنا العظيم في التكافل والإغاثة بشيء من الإيجاز، فنحن نتحدَّث عن أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمن، وهذا من الصعوبة بمكان.
وقد أثْبَتُّ بعد الانتهاء كل المراجع والمصادر التي عُدْتُ إليها، وذلك بعد أن صنَّفتها إلى مجموعات بحسب المادَّة، وقد رَتَّبْتُ المصادر أبجديًّا على اسم المؤلف، متجاهلاً أداة التعريف "ال"، وذلك لتسهيل الوصول إلى المرجع المطلوب، وقد أثْبَتُّ كذلك لكل مرجع الاسم الكامل له ولمؤلفه، وكذلك - قدر الإمكان - دار الطباعة والنشر، وبلدها، وسنة الطبع، ورقم الطبعة، كما حرصت على ذكر أسماء المحققين أو المترجمين إن وُجدت.
هذا، وقد اجتهدت أن أُطَعِّمَ هذا الكتاب ببعض الأمور التي ترفع من قيمته، وتُثري مادته، وتُسهَّل فهمه، وتُيسَّر الطلب فيه، فزوَّدْتُه ببعض الخرائط والصور، كما قمت بشرح غريب الكلمات، وكذلك ضمَّنته بعض التراجم المهمة، وخاصة لأعلام المسلمين وعلمائهم، ليعرف المسلمون والعالم هذه النجوم المتألِّقة.
وفي نهاية الكتاب قمت بعمل عدة فهارس لتسهيل البحث عن أية معلومة، فبالإضافة إلى فهرس الموضوعات التقليدي، أضفت فهارس للآيات القرآنية، وللأحاديث النبوية، وكذلك للأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب والصفحات التي تردَّد فيها اسم هذا الْعَلَم، كما فَهْرَسْتُ أيضًا للأعلام الذين تُرجم لهم، كما أضفت فهرسًا للأماكن والمدن، وفهرسًا للخرائط والصور.
وأخيرًا، فإنني أعتذر عمَّا سقط مني سهوًا دون تعمُّدٍ من مواقف عظيمة لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، أو من أقوال حكيمة له، أو من أحكام فقهية مهمَّة، لم يخطر على بالي أن أُسجِّلها؛ فإن النقص من طبيعة البشر، والكمال على إطلاقه لا يكون إلا لله.
وعزائي في القول الموفَّق لـ العماد الأصبهاني: "إنِّي رأيت أنه لا يكتب إنسانٌ كتابًا في يومه إلَّا قال في غده: لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن، ولو زِيد كذا لكان يُستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر"[12].
[1] رواه ابن ماجه في سننه (43)، وأحمد في مسنده (17182)، والحاكم في المستدرك (331)، وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع (4369)، والجامع الصغير وزيادته (7818).
[2] انظر: ابن القيم: إعلام الموقعين 3/3.
[3] البخاري عن جرير بن عبد الله: كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم (5667)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال (2319).
[4] رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو (1924)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأحمد (6494)، والحاكم (7274)، وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع (3522).
[5] البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ" (1224)، ومسلم: كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت (923).
[6] يشير صاحب لسان العرب إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ إِذَا اتَّقَى وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ". وهو في الموطأ هكذا، رواية يحيى الليثي، كتاب الشِّعْر، باب السنة في الشِّعْر (1700)، والبخاري: كتاب الأدب، باب من يعول يتيمًا، بلفظ: "أنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى" (4998)، وأبو داود (5150)، والترمذي (1918)، وأحمد (22871)، وابن حبان (460)، والطبراني في المعجم الكبير (5905)، والأوسط (1215).
[7] الطبراني في الكبير (5304)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه ابن إسحاق وهو مدلس، ولكنه ثقة، وبقية رجاله ثقات، انظر: مجمع الزوائد 6/277، وصححه الألباني، انظر: صحيح السيرة النبوية 1/20.
[8] ابن منظور: لسان العرب، مادة كفل 7/698.
[9] قال الشيخ في بداية تعريفه لهذا المصطلح: يُقصد بالتكافل الاجتماعي في معناه اللفظي.
[10] محمد أبو زهرة: التكافل الاجتماعي في الإسلام ص7.
[11] عبد الله ناصح علوان: التكافل الاجتماعي في الإسلام ص10.
[12] القنوجي: أبجد العلوم 1/70.
التعليقات
إرسال تعليقك